إباحة الرق بين البغدادي ومناظريه

راية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام-غيتي (مجلة الجزيرة)

يقول تنظيم الدولة الإسلامية في تبريره لاسترقاق النساء من الطائفة اليزيدية وأطفالهن بعد معركة سنجار، إنه يستند في تعامله مع اليزيدية إلى آراء جمهور الفقهاء في كيفية التعامل مع المشركين، ويذكّر من أسماهم بضعفاء العقول والإيمان بأن استرقاق عائلات الكفار وأخذ نسائهم إماءً هو أحد أحكام الشريعة الثابتة، الذي إذا ردّه أحد أو سخر منه فسيكون قد أنكر آيات الله وسنة الرسول، وبذلك سيكون مرتدا عن الإسلام.

ولقد تنوعت ردود الأفعال على هذه الفتوى في العالم الإسلامي، إلا أن أهمها جاء في الرسالة التي بعثت بها 126 شخصية إسلامية في 19/9/2014 لأبي بكر البغدادي، والتي دفعوا فيها بأن الدولة الإسلامية قد خالفت إجماع المسلمين، الذين حرموا الرق قبل أكثر من مائة عام، مثلهم مثل غيرهم من الأمم باعتباره فضيلة، وبرروا تحريم الرق بالحديث الشريف عن حلف الفضول.

لكن بما أن في الغرب من يقول إن تحريم الرق ليس من الإسلام في شيء، وإن تحريم المسلمين للرق ما هو إلا ثمرة تمدد الحضارة الغربية التي فرضته على الإسلام، كبرنارد لويس في كتابيه عن الشرق الأوسط لعامي 1990 و1994، فربما يسبب ذلك خلطا لمن يقرأ الرسالة.

إذ إن طبيعة الرسالة وظرفها لم تسمح بمعرفة ما إذا تم تحريم الرق في بلاد المسلمين بتعليق إباحته لظرف عارض أو مصلحة طارئة، أم بإبدال تقاليد عرقية بحكم شرعي قويم، أو تفسر سبب إباحة المسلمين للرق كل هذه القرون الطويلة، قبل تحريمهم المتأخر له في القرن العشرين. لكل هذه الأسباب سنسعى في هذا المقال لإثارة بعض النقاط التي قد تعين على إنارة بعض جوانب هذه المسألة الهامة والبالغة التعقيد.

أول ما يجب توضيحه في هذا المجال هو أن تحريم الرق لدى المسلمين قد تم بصور مختلفة في ثلاث مجموعات من الدول الإسلامية. الأولي هي الإمبراطورية العثمانية، ويشمل ذلك مصر، التي أصدرت فتاوى ضد مؤسسة الرق، كفتوى شيخ الإسلام في عام 1857 في إسطنبول، وفتوى شيخ الأزهر شمس الدين الأنبابي 1882 في مصر، ولكنها لم ترق لتحريم الرق الشامل الحالي، وتمت تحت ضغوط غربية هائلة.

يقول المستشرق الإنجليزي يدون رويتر الذي عاش في الجزيرة العربية ودرس القرآن وزار كل أسواق الرق في الجزيرة العربية في محاضرة في لندن في عام 1931، "إن القرآن إذا طبق تطبيقا صحيحا فسيقضي تماما على العبودية في الدول الإسلامية"

والثانية هي الدول الإسلامية التي كانت تحت الاستعمار الغربي، ولقد تم تحريم الرق فيها بواسطة السلطات الاستعمارية، واستمرت هذه الدول في تحريم الرق بعد استقلالها.

والثالثة هي الدول الإسلامية التي كانت خارج الولاية العثمانية وخارج الاستعمار الأوروبي كإيران ودول الجزيرة العربية، التي ظلت تحافظ على مؤسسة الرق حتى إلغائها في وقت متأخر من القرن العشرين، خوفا من العزلة الدولية، ولكن دون أن تصدر فتاوى بتحريم الرق وفقا للشريعة الإسلامية.

والمشترك بين كل هذه الدول أنها قد ألغت الرق بأوامر سلطانية، وانضمت في معظمها لاتفاقية الرق لعام 1926 في وقت لاحق على إبرامها، وبما أن معظم هذه الدول تتخذ من الشريعة مصدرا أساسيا للتشريع، فكان من المفترض لكي تنسجم قوانينها الداخلية مع التزاماتها الدولية أن تتفق على تحريم شرعي للرق، يجعله كبيرة أو معصية من أي مصدر جاء وأي شكل اتخذ كما تنص الاتفاقية.

خاصة وأن القانون الدولي ينص بصفة قاطعة على أن أي اتفاقية دولية تنتقص من التحريم الشامل للرق باطلة، وأي قانون يخالفه لاغ، وأي حكم قضائي يبنى على غيره مردود، وأي دولة تتراخى في حمايته عرضة للمساءلة الدولية، فهل صح هذا الافتراض؟

لعل أول ما يلوح في الخاطر حين طرح هذا السؤال هو منظمة التعاون الإسلامي، وهي المؤسسة الوحيدة التي تجمع شتات المسلمين منذ سقوط الخلافة الإسلامية، التي نظرت فعلا في هذه المسألة، وجاء في إعلانها لحقوق الإنسان في مادته 11 أن "البشر يولدون أحرارا، ولا أحد يملك حق استعبادهم"، وهذا قول قاطع لو لم يقيد، ولكنهم قيدوه بمادة أخرى في نفس الإعلان، تقول إن ذلك يفسَر وفقا للشريعة الإسلامية، وماذا تقول الشريعة الإسلامية في ذلك، لا أحد يعلم على سبيل اليقين، لاختلاف الآراء، وهكذا ندخل من جديد في الحلقة المفرغة.

وعلى سبيل المثال، يقول الدكتور عبد الله النعيم الأستاذ بجامعة إيموري الأميركية في كتابه الشريعة وقضايا حقوق الإنسان الأساسية لعام 1998، إنه "على الرغم من أن أغلب المسلمين المعاصرين تصدمهم فكرة العبودية فإنها لا تزال جزءا من قانونهم الإسلامي".

ورغم اختلافنا الكبير مع الكاتب على السياق الذي أورد فيه هذا الاستنتاج، فإننا نتساءل هل ينفرد الدكتور عبد الله بهذا الفهم؟ الإجابة لا، ففي حديث واسع الانتشار في وسائل الإعلام قال الشيخ الدكتور صالح الفوزان الأستاذ الجامعي المرموق وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية إن "الرق جزء من الإسلام، لأنه جزء من الجهاد، والجهاد باق ما بقي الإسلام، وإن الذين يقولون بتحريم الرق جهلاء وليسوا بمفكرين، وإن من يقول بتحريم الرق في الإسلام عمدا ملحد ومرتد، ومن يقول بها جهلا نعذره لجهله".

خلاصة ذلك، أن فتوى تنظيم الدولة الإسلامية بإباحة الرق لم تأت من فراغ، ولا هي معزولة من الآراء الفقهية المنتشرة في الساحة، وإن كان التيار الذي يذهب في اتجاهها ليس الغالب لدى المسلمين. لأن الاتجاه الغالب في العالم الإسلامي يقول إن الحرية هي جوهر الإسلام، لأنها ملتصقة ببشرية الأفراد وبذلك لا يمكن أن ينزعها، وإن الإسلام تعامل مع مؤسسة الرق كظرف طارئ وحالة استثنائية، عمل منذ البداية على اجتثاثها من جذورها، برفضه للحجج التي تقوم عليها وتجفيفه لمصادرها، وإن الذي أشكل على المسلمين هو تحريمها بالتدرج.

واتجاه آخر يقول إن الرق جزء من التشريع الإسلامي، لأنه وسيلة لإدخال الناس في الإسلام عبر أسرى الحروب وخطف الوثنيين، ولكن ما يضعف هذا التيار أنه يجعل للرق حكمين في الإسلام إذا قوي المسلمون يمارسونه، وإذا ضعفوا يعلقونه إلى حين.

يجب أن لا نهمل دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ازدهار مؤسسة الرق، وللقضاء عليها يجب استنفار القيم الأخلاقية والدينية، لقمع المطامع الاقتصادية والشهوات الاجتماعية المؤدية إليها، ولن يتم ذلك إلا إذا انطبع في قلوب الناس أن الرق عمل شنيع منكر

ولا يحسب أحد أنه من السهل إفحام هذا التيار بالنصوص الدينية والعهود الدولية، هكذا عفو الخاطر، لأنه إذا استدل عليهم بالآية 4 من سورة محمد (فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) ليثبت عدم جواز استرقاق المشركين أسرى الحروب، ردوا عليه بأنها منسوخة بآية السيف من سورة التوبة: الآية 5 (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). وإذا جادلهم بالآية 33 من سورة النور (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم) الداعية لتحرير الرقيق إذا طالبوا بالحرية، أجابوه بأنها أمر ندب وغير ملزمة، وإذا استشهد بوجوب احترام العهود حاجّوه بأن الشريعة تعلو ولا يعلى عليها، وأن هذه ليست بعهود بل عقود إذعان.

وبما أن تقديم الدليل على مقاصد الشرع في هذا الموضوع من شأن المؤسسات الإسلامية الرفيعة الجامعة، فسنكتفي بإيراد بعض القرائن عبر استنتاجات الذين درسوا الإسلام بحياد وعمق لأسباب أكاديمية من غير المسلمين، وعمل المؤسسات الدولية التي كانت تسعي لإنهاء الرق في ظروف مشابهة للتي ظهر فيها الإسلام.

في ذلك يقول المستشرق الهولندي سنويك هيرقرون البروفيسور السابق في جامعة ليدن في كتابه المحمديون (1916) إنه "وفقا للمبادئ الإسلامية فإن مؤسسة الرق مكتوب عليها الفناء".

ويقول المستشرق الإنجليزي يدون رويتر الذي عاش في الجزيرة العربية ودرس القرآن وزار كل أسواق الرق في الجزيرة العربية في محاضرة في لندن في عام 1931، "إن القرآن إذا طبق تطبيقا صحيحا فسيقضي تماما على العبودية في الدول الإسلامية".

ويقول بترام توماس في كتابه العرب في عام 1938 إن "جزيرة العرب بإصرارها على ممارسة الرق تكذب رسولها وتسيء إليه".

أما عن عمل المؤسسات الدولية فلقد اعتمدت اتفاقية تحريم الرق لعام 1926 منهج القضاء التدريجي على الرق بغرض تأهيل المسترقين للحياة المستقلة، لأن تجارب التحرير الفوري قد أودت بحياة الكثير من المحررين، ولكن الوضع اختلف بعد أن وضعت ضوابط لتحسين أحوالهم وضمان نيلهم الحرية متى طلبوها.

ويبدو أن التشابه بين خيار الاتفاقية والمنهج الإسلامي في التعامل مع مسألة الرق لم يكن غائبا عن القائمين على أمر تنفيذها، بدليل أن لجنة عصبة الأمم المكلفة بمتابعة تنفيذ الاتفاقية أوصت بعد أن استعصى عليها أمر الرق في الخليج بأن يوكل أمر تحريم الرق في هذه الدول إلى علماء المسلمين، ليذكروا سكان هذه البلدان بمبادئ دينهم.

ولكن كيف يفسر الذين يقولون إن الإسلام حرم الرق بالتدرج وإن مؤسسة الرق في الإسلام كانت مؤسسة ظرفية عابرة رغم استمرار الرق لقرون طويلة بعد الإسلام؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التوضيح أولا أن ممارسة الرق تتم لتحقيق منفعة مادية دنيوية إلا أنها تختلف عن بقية المنافع، لكونها تستوجب استباحة بشرية فرد لتحقيقها.

أثر الغرب في تحريم المسلمين للرق أمر لا جدال فيه، ولكن ذلك لا يعني بحال أن الغربيين أدخلوا في الإسلام فضيلة ليست فيه، وإنما كان بمثابة الصدمة الكهربائية التي أعادت المسلمين للتفكّر في مقاصد دينهم الحق والعودة إلى قيمه

وبذلك كانت كل الشعوب والدول التي تمارس الرق تنسب إلى فكرها أو تقاليدها أو دياناتها ما يبيح لها تجريد إنسان من بشريته لتحقيق مصالحها، فالبعض كان يبرره بدعاوى عرقية والآخر كان يبرره بأسباب دينية، وعلى سبيل المثال كان مسيحيو الغرب يقولون بإباحة الكتاب المقدس لاسترقاق السود، لأنهم أبناء حام الذين كتبت عليهم العبودية الأبدية، ولم يكن المسلمون بدعا من هذه الشعوب.

كما يجب أن لا نهمل دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في ازدهار مؤسسة الرق، وللقضاء عليها يجب استنفار القيم الأخلاقية والدينية، لقمع المطامع الاقتصادية والشهوات الاجتماعية المؤدية إليها، ولن يتم ذلك إلا إذا انطبع في قلوب الناس أن الرق عمل شنيع منكر.

ويجب أن نتذكر أن الغرب المسيحي قد مارس الرق أيضا لقرون طويلة للأسباب الاقتصادية والاجتماعية ذاتها، إلا أن أمرا حاسما قد حول مجرى تاريخه بتحويل الرأي العام المسيحي ضد مؤسسة الرق. وهو أن طائفة مسيحية (الكويكرز) قد نشطت في أميركا ثم انتقلت إلى بريطانيا قادت حملة شرسة لتحريم الرق، بدعوى أنها وجدت في الإنجيل ما ينقض القول بإباحة ممارسة الرق، ولقد تعاظمت هذه الحملة حتى تبناها الشعب البريطاني ومن ثمَّ حكومته، التي قادت حملة مناهضة الرق في أوروبا والعالم إلى أن تكللت بالتحريم الشامل للرق.

وعليه، فليس من الصعب تصور استمرار هذه المؤسسة في ديار الإسلام لارتباطها بالمصالح التي كانت تمثلها، والكم الهائل من المدافعين عنها في كل قطاعات المجتمع بمن فيهم الفقهاء والحكام ومقاومتهم الشرسة لزوالها، حتى إذا ما تطاولت عليهم الحقب "قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها" (الأعراف: 28)، و"لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض" (المؤمنون: 71)، والشاهد على ذلك هو استخدام بعض العرب المسلمين في القرون الأخيرة النصوص الإسلامية لتبرير الرق الجاهلي القائم على العرق.

في الختام، مجمل كل ذلك أن أثر الغرب في تحريم المسلمين للرق أمر لا جدال فيه، ولكن ذلك لا يعني بحال أن الغربيين أدخلوا في الإسلام فضيلة ليست فيه، وإنما كان بمثابة الصدمة الكهربائية التي أعادت المسلمين للتفكّر في مقاصد دينهم الحق والعودة إلى قيمه.

فهل لا يزال يغيب عن المسلمين أن البحث عن رخصة في دينهم تبيح الرق لتحقيق مصالح دنيوية في وضع الإسلام الحالي أمر يشين صورة الإسلام، وينفر المقبلين عليه وينشر الذعر في الذين هم تحت ولايته من غير المسلمين، ويثير الريبة والشك في قلوب شباب المسلمين الذين تتجاذبهم الأنواء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.