الحاجة إلى ميثاق إسلامي/غربي للديمقراطية والحريات

From the left, Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu, Malian President Ibrahim Boubacar Keita, French President Francois Hollande, German Chancellor Angela Merkel, EU president Donald Tusk and Palestinian Authority President Mahmoud Abbas march during a rally in Paris, France, Sunday, Jan. 11, 2015. A rally of defiance and sorrow, protected by an unparalleled level of security, on Sunday will honor the 17 victims of three days of bloodshed in Paris that left France on alert for more violence. (AP Photo/Philippe Wojazer, Pool)

جذور المشكلة
ما العمل؟

لا يزال التحرك الإعلامي والسياسي الغربي ينطلق في معالجته لظاهرة الإرهاب من نظرية صراع الحضارات ورؤى اليمين المحافظ في أوروبا وأميركا، ويفترض أن بالإمكان القضاء على الإرهاب بالحلول الأمنية فقط.

ولهذا فهو يدور حول ذات الأساليب القديمة: اتهام المسلمين والعرب، وتصوير المسألة على أنها صراع صِفري بين حرية التعبير وأعدائها أو بين الحداثة والإسلام، ثم العمل على تشديد الإجراءات الأمنية في الداخل، والاستمرار فيما يسمى "الحرب على الإرهاب" في الخارج.  

لم تثبت العقود الماضية فشل هذه التحركات فحسب، وإنما أثبتت أيضا أن سياسات الغرب أدت إلى تعميق هذه الأزمات وصناعة المزيد من الإرهاب.

ومن هنا تعالج هذه المقالة مسألتين لهما علاقة مباشرة بما جرى في فرنسا مؤخرا وبتصاعد ظاهرة العداء للمسلمين، هما: ما الذي ينبغي على الدوائر الغربية والإعلامية سماعه فيما يتصل بالمشهد الأكبر لظاهرة الإرهاب بشكل عام؟ وما الخطوة الأولى التي يمكن أن تساعد في معالجة هذه الظاهرة؟

جذور المشكلة
أولى الخطوات التي تعالج ظاهرة الإرهاب هي تخلي الحكومات الغربية عن إصرارها على عدم الربط بين ظاهرة الإرهاب والسياسات والممارسات الفعلية لهذه الحكومات. وفي هذا الإطار يمكننا الحديث عن مساحات خمس على الأقل:

 أولا: المواقف المزدوجة للغرب من قضيتين رئيسيتين تهم العالمين العربي والإسلامي، هما مشكلة فلسطين ودعم السياسات العنصرية الإسرائيلية منذ عقود من جهة، ومشكلة الحريات والديمقراطية والتحالف مع الحكام المستبدين من جهة أخرى.

على الغرب التخلي عن مواقفه المزدوجة من قضيتين رئيسيتين تهم العالمين العربي والإسلامي، هما مشكلة فلسطين ودعم السياسات العنصرية الإسرائيلية منذ عقود من جهة، ومشكلة الحريات والديمقراطية والتحالف مع الحكام المستبدين من جهة أخرى

على الغرب إدانة كل أشكال القتل، والربط بين الدماء التي تسيل عندهم ودماء الملايين من العرب والمسلمين (نعم الملايين) الذين قضوا نحبهم، منذ الاستقلال فقط في جولات الصراع العربي الصهيوني منذ 1948 وحتى آخر اعتداء إسرائيلي على غزة بالصيف الماضي، وفي أثناء الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق منذ 2001، وفي انتفاضات الشعوب العربية من أجل الحرية ضد الحكومات المدعومة من الغرب وبالسلاح الغربي، وصولا إلى الربيع العربي ودماء مئات الآلاف من الشعب العربي في سوريا وليبيا واليمن، والآلاف في مصر بعد 30 يونيو 2013.

الغرب -بعبارات واضحة- يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية إلى جانب مسؤولية الحكام العرب المستبدين والنخب المتحالفة معهم منذ الاستقلال وحتى الثورات المضادة الحالية.

ثانيا: استغلال حوادث الإرهاب لإدخال العالم العربي والإسلامي في صراعات ممتدة تحت اسم "الحرب على الإرهاب".

إن الجيل الحالي -الذي صار أكثر وعيا وعلما وإصرارا على نيل حريته- يشهد الآن كيف أن مطالب الشعوب العربية في الكرامة والحرية والعدالة تتحول إلى حرب ضد الإرهاب، وكيف أن المجتمعات العربية يتم تقسيمها إما على أسس مذهبية وطائفية أو بين تيارين علماني وإسلامي.

لكن ما لا تدركه الحكومات الغربية هو أن أي حرب على الإرهاب ينتج عنها عادة المزيد من الضحايا، ومن ثم تصاعد الغضب الشعبي تجاه الدول الكبرى، بل وتفضيل الآلاف من الشباب الانضمام إلى الحركات المسلحة المناهضة للغرب، لتظل العلاقات الغربية الإسلامية تدور في دائرة مغلقة من الكراهية والعنف.

ثالثا: النظر إلى حرية التعبير والعلمانية والفصل بين الدين والدولة والمجتمع وكأنها من الأمور المطلقة، ومطالبة الآخرين بالتقيد بها كمعايير عالمية، وهذا أمر غير صحيح.

ففي الغرب هناك قيود على حرية التعبير، والفصل بين العام والخاص في مسألة الحريات صعب نظريا وعمليا، فلا يمكن فصل سلوك الإنسان في المجال العام عن سلوكه في المجال الخاص، لأنه ليس آلة وإنما هو كائن حي بمشاعر وأحاسيس وقيم.

كما أن الممارسة الواقعية تشهد العديد من القيود على الحريات الخاصة ليس فقط بتجريم إنكار الهولوكوست، وإنما أيضا بقيام الدولة لأول مرة في تاريخ الإنسانية -وبسبب فلسفة الحداثة الغربية واحتكارها أدوات العنف والجيش والمخابرات أولا، ثم بتعاظم قوة الرأسمالية وتقدم التكنولوجيا ووسائل الإعلام والدعاية ثانيا- بالتدخل في الحريات الشخصية ووضع القيود (بالقانون أو بدونه) في مسائل شخصية كالزواج والعلاقات الجنسية والإجهاض وغيرها.

والعلمانية -التي نجحت في إيقاف تجاوزات رجال الكنيسة في أوروبا وأبعدتهم عن التحكم في السياسة- لم توقف دور الدين والأحزاب ذات المرجعية المسيحية في الحياة السياسية، بل إن العلمانية تحولت عند البعض إلى إيديولوجيا تتحكم في مصير الناس وتحدد لغير الغربيين المعايير التي يجب التقيد بها للولوج إلى زمن الحداثة.

العلمانية الشاملة (كما أسماها المسيري) تقوم في الواقع بالوظائف التي تقوم بها الأديان، لأنها تحدد للناس الصواب والخطأ وتحدد لهم الغايات النهائية من الحياة. والمسلم الجيد -طبقا لهذا المنظور وعند بعض الدوائر الغربية السياسية والإعلامية- هو المسلم الذي يتجاوز الإسلام نهائيا إن أراد اللحاق بالحداثة

إن العلمانية الشاملة (كما أسماها المسيري) عند هؤلاء تقوم في الواقع بالوظائف التي تقوم بها الأديان، لأنها تحدد للناس الصواب والخطأ وتحدد لهم الغايات النهائية من الحياة. والمسلم الجيد -طبقا لهذا المنظور وعند بعض الدوائر الغربية السياسية والإعلامية- هو المسلم الذي يتجاوز الإسلام نهائيا إن أراد اللحاق بالحداثة.

رابعا: الصورة النمطية السلبية عن المسلمين والإسلام في الصحافة والإعلام وبعض الدوائر البحثية بالغرب، وعمليات التمييز التي تتعرض لها الأقليات هناك. وهذا أمر يهم كل الأقليات بشكل عام وإن بدرجات متفاوتة.

خامسا: العلاقات الاقتصادية غير العادلة بين الشمال والجنوب والتداعيات السلبية للعولمة، وطبيعة النظام الدولي للتجارة والاستثمارات الدولية القائم على محاباة الدول القوية على حساب الدول الصغيرة.

وهذه الأوضاع تؤدي على المدى الطويل إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية داخل دول الجنوب في مرحلة أولى، ثم امتداد آثار هذه المشكلات إلى الأنساق الإقليمية والدولية في مرحلة تالية. وهذا أمر لا يخص الدول العربية والإسلامية فقط، وإنما جُل دول الجنوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

ما العمل؟
سبق أن طرحت في مايو/أيار 2011 -في أعقاب اندلاع الثورات العربية وأثناء توارد أنباء عن إستراتيجية أميركية جديدة في العالم العربي- فكرة وضع عهد أميركي/عربي للديمقراطية والتقيد به، إن أرادت الولايات المتحدة فعلا حسم موقفها من الديمقراطية في الدول العربية وإعادة صياغة سياساتها بشكل جذري.

وكانت الفكرة مستمدة من العهد الذي وقعته الولايات المتحدة مع حكومات أميركا الجنوبية في بيرو يوم 11 أيلول/سبتمبر 2001، وعرف بالعهد الديمقراطي للأميركتين (Inter-American Democratic Charter).

وبموجب هذا العهد حسمت أميركا موقفها من الديمقراطية في أميركا اللاتينية بعد عقود من دعمها الحكومات المستبدة والانقلابات العسكرية، وتخلت عن سياسة التدخل والهيمنة فيها، وتعهدت بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، واحترام مبدأ السيادة والقانون الدولي.

وصارت الديمقراطية -في عبارات قاطعة- حقا من حقوق شعوب المنطقة، وأمرا أساسيا للتنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وضرورة حيوية لحماية حقوق الإنسان وحقوق العمال.

وكانت أميركا وأوروبا الغربية قد حسمت أيضا مواقفها من الديمقراطية في شرق أوروبا في إطار مواجهتها للشيوعية، حيث شكلت اتفاقيات هلسنكي -الصادرة عن مؤتمر الأمن والتعاون (1975)- أرضية مشتركة استندت إليها قوى الإصلاح لإضعاف شرعية أنظمة الحزب الواحد وتمهيد الطريق أمام التحول الديمقراطي.

لا بد من وضع عهد أميركي/عربي للديمقراطية والتقيد به، وأتصور أن العهد المقترح لا بد أن يتضمن ذات التعهدات التي وردت في الإعلان اللاتيني واتفاقيات هلسنكي، وعلى الأخص دعم الديمقراطية الحقيقية والتخلي عن دعم الحكومات المستبدة والعسكرية ومنتهكي حقوق الإنسان

وتضمنت الاتفاقيات عشرة تعهدات متبادلة تحتاج دولنا الإسلامية والعربية إلى معظمها في علاقاتها بأميركا والغرب، وهي المساواة في التمتع بالسيادة، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وعدم انتهاك حدود الدول، ووحدة أقاليم الدول، والتسوية السلمية للمنازعات، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة حق الشعوب في تقرير مصيرها، والتعاون بين الدول، والتقيد بالتزامات القانون الدولي.

وبالطبع؛ فإن علاقات العالمين العربي والإسلامي بالغرب أكثر تعقيدا، لكن الأثمان التي يدفعها العرب والمسلمون من جراء سياسات الاستعمار والهيمنة والتبعية ودعم المستبدين والمحتلين من جهة، والثمن التي تدفعه المجتمعات الغربية من جراء وصول العنف إلى المدن الغربية وتصاعد علاقات العداء للغرب من جهة أخرى، لا بد أن تدفع العقلاء في الجانبين وجميع القوى الحية في العالم إلى التفكير في شكل من أشكال المواثيق الدولية، لتنظيم العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي.

وذلك على أساس التدافع الحضاري السلمي بدلا من الصراع الإيديولوجي العنيف، وانطلاقا من المصالح المتبادلة بين شركاء ديمقراطيين حقيقيين بدلا من الهيمنة والإقصاء والمعايير المزدوجة. 

وأتصور أن العهد المقترح لا بد أن يتضمن ذات التعهدات التي وردت في الإعلان اللاتيني واتفاقيات هلسنكي، وعلى الأخص دعم الديمقراطية الحقيقية والتخلي عن دعم الحكومات المستبدة والعسكرية ومنتهكي حقوق الإنسان، وذلك بالإضافة إلى ما يلي:

– الانطلاق من الإدراك الواعي بالمشهد الأكبر لظاهرة الإرهاب وأسباب وجذور المشكلة التي سبقت الإشارة إليها، والمخاطر الناجمة عن تجاهلها.

– تحديد مضامين وحدود وضمانات الحريات والمقدسات لدى كل طرف من العالمين الإسلامي والغربي، وذلك حسب القيم الثقافية والحضارية لكل منهما، وتحديد ما يمكن للشعوب العربية والإسلامية أخذه من الغرب (من العلمانية والديمقراطية والليبرالية وغيرها) وما يجب أن تتركه، وذلك كما تفعل كل الأمم الحية في تفاعلاتها الحضارية.

– إقرار واحترام حق الشعوب العربية والإسلامية في التمسك بالقيم والمبادئ الخاصة بها والمستمدة من الإسلام، وذلك في المساحات المتعلقة بالبناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والتي كانت من ركائز بناء حضارة إسلامية وعربية عريقة عرفت الحرية، والعدالة، وحكم القانون، والشفافية، ومساءلة الحكام والمسؤولين، والتسامح، والتعددية، واستقلال المال العام عن المال الخاص، والمشروع الخاص، والأوقاف، واستقلال القضاة والعلماء والمجتمع بكافة مكوناته، وذلك قبل الغرب بألف سنة.  

– التأكيد على دعم حل شامل وعادل للصراع العربي الصهيوني، ينهي الطابع العنصري والإمبريالي لدولة الاحتلال، ويقر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وكافة الحقوق التي وردت في العشرات من القرارات الدولية.

– تحديد واجبات ومسؤوليات كل طرف بعبارات واضحة، ووضع آليات للتنفيذ والمتابعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.