الخطر الروسي

Russian sailors stand in formation in front of their Russian navy frigate Smolny at the STX Les Chantiers de l'Atlantique shipyard site in Saint-Nazaire, western France, November 25, 2014. France suspended indefinitely on Tuesday delivery of the first of two Mistral helicopter carrier warships to Russia, citing conflict in eastern Ukraine where the West accuses Moscow of fomenting separatism. REUTERS/Stephane Mahe (FRANCE - Tags: BUSINESS MILITARY POLITICS MARITIME)

هل ثمة من مسوغ حقيقي لحملة العداوة غير المسبوقة في الغرب تجاه روسيا، والتي تتجلى عبر تهجم وسائل الإعلام/التضليل "الغربية" -التي تعد ناطقة باسم المؤسسات الحاكمة- على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟! علمًا بأننا وضعنا مصطلح "الغرب" بين مزدوجتين لأنه ليس دقيقا بضمه اليابان وأستراليا (على سبيل المثال)، وقد يكون من الأنسب القول: معسكر واشنطن أو المعسكر الناتوي، بالبعد الفكري وليس التكنيكي.

الآن، قد يكون من المفيد العودة إلى تاريخ استخدام هذه اللغة ضد روسيا لمعرفة خلفياتها.

فمن المعروف أن النظام الألماني النازي الهتلري وظف فزاعة الخطر الروسي على نحو مستمر، رغم أنه دخل مع الاتحاد السوفياتي في اتفاقية عدم اعتداء لم يحترمها.

وبالمناسبة، فإن "الغرب" لم يستخدم مصطلح "الخطر السوفياتي" إمعانًا في التضليل، وللتشديد على هيمنة روسية في تلك الدولة والانتقاص من مكانة بقية القوميات وتحريضها على التمرد.

قبل ذلك، فإن روسيا القيصرية -التي شاركت في الحرب العالمية الأولى- لم تشن أي هجوم على "الغرب"، وتدخّلها كان للدفاع عن صربيا أمام هجوم الإمبراطورية النمساوية/المجرية على الأخيرة، ثم شمل ألمانيا بعد توسع دائرة الحرب.

ومن المعروف أن البلاشفة قرروا الانسحاب من تلك الحرب التي وصفها لينين آنذاك بأنها معارك بين لصوص بهدف إعادة تقسيم العالم، أي المستعمَرات.

في الحرب العالمية الثانية، وقع الاتحاد السوفياتي اتفاقية عدم اعتداء مع ألمانيا النازية، معتبرًا أن تلك الحرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وأنها -مرة أخرى- حرب بين المستعمِرين. لكن ألمانيا النازية لم تحترم معاهدة عدم الاعتداء، وبادرت إلى الهجوم عليه موظفة القسم الأعظم من نخبة قواتها البالغ عددها تسعة ملايين شخص، أما النتيجة فمعروفة.

ومن هذا المنظور؛ فإن الادعاء المتعلق بتخوف أوربا من روسيا -ومن الاتحاد السوفياتي من قبل- غير مسوغ ولا داعم له تاريخيا.

لنذهبْ أبعد من هذا فنقلْ: إن الاتحاد السوفييتي -الذي امتلك قوة عسكرية هائلة، واقتصادا ضعيفا وغير متطور- كان بإمكانه تدمير أوربا بالقنابل الذرية مقابل خسائر أقل بما لا يقاس، بسبب ضعف اقتصاده وتبعثر مراكزه فوق مساحات شاسعة لا يمكن للغريم تغطيتها بقدراته العسكرية، لكنه لم يفعل. هذا ما يقوله محللو الغرب الإستراتيجيون وسياسيوه الذين يرفضون النهج الحالي لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

وهناك من يقول إن استيلاء روسيا على جزيرة القرم الروسية السكان -والتي ضمها خروتشوف لأوكرانيا مكافأة لها على أدائها في الحرب العالمية الثانية- أثار مخاوف الغرب الناتوي بخصوص خطط روسية لإعادة شرقي أوربا إلى دائرة نفوذها.

لقد أثبتت الأيام والتطورات التاريخية أن الخطر الشيوعي ليس كما صوره الغرب. فالاتحاد السوفياتي بادر إلى تشكيل حلف وارسو في عام 1956 بعد انضمام ألمانيا "الغربية" إلى حلف الناتو في عام 1955

أصحاب هذا الرأي لا يقدمون أي دعم مادي له بما يجعل منه ادعاء لا يزال يحتاج إلى دليل جليّ. فميزانية الدفاع الروسية لعام 2013 بلغت نحو 69 مليار دولار، وهي أكثر من ميزانية فرنسا الدفاعية بقليل مع أن مساحة روسيا وعدد سكانها أكبر بما لا يقاس. أما ميزانية الدفاع لدول حلف الأطلسي الرئيسة للسنة ذاتها فتقارب ألف مليار.

أي أن الأرقام لا تقدم أي دعم للادعاء بوجود خطر روسي. بل إن ميزانية الدفاع للولايات المتحدة الأميركية تتجاوز نظائرها مجتمعة في الدول الثماني التالية لها من ناحية الإنفاق، وهي: الصين وروسيا والسعودية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان والهند.

بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك والحديث عن حلف شمال الأطلسي الذي شكله "الغرب" عام 1949 فور إطلاق رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل الحرب الباردة في خطابه الشهير عن الخطر الشيوعي و"الستارة الحديدية"، الذي ألقاه بتاريخ 6 مارس/آذار 1946 ببلدة فلتن الإنجليزية عقب خسارته في انتخابات مجلس العموم البريطاني.

وكانت تلك المرة الأولى التي يُستعمل فيها تعبير "الستارة الحديدية" علانية، مع أن تشرتشل والرئيس الأميركي حينها هاري ترومان كثيرا ما استعملاه في مراسلاتهما إبان الحرب، مما يشي بعدوانية كيدية تجاه موسكو حتى خلال فترة التحالف.

وتشرتشل نفسه هو من أطلق مقولة "المؤامرة البلشفية" ودعا يهود العالم للانخراط في النضال ضدها، وذلك في مقال عنوانه "الصهيونية لمواجهة البلشفية" نشره في عدد الصحيفة اللندنية إللستريتد سنداي هرلد الصادر بتاريخ 8 فبراير/شباط 1920.

لقد أثبتت الأيام والتطورات التاريخية أن الخطر الشيوعي ليس كما صوره الغرب. فالاتحاد السوفياتي بادر إلى تشكيل حلف وارسو في عام 1956 بعد انضمام ألمانيا "الغربية" إلى حلف الناتو في عام 1955، وهذا ما يأخذنا إلى مسألة توسيع هذا الحلف الذي قال الغرب إنه أنشأه لمواجهة الخطر الشيوعي المزعوم.

وهذا يعني أن هزيمة المعسكر الشيوعي في عام 1990/1991 يجب أن تقود إلى حل ذلك الحلف العسكري، لكن الذي حصل هو توسعه وملامسته تخوم روسيا التي بدأت تشعر بالخطر على نفسها إبان عهد الرئيس فلادمير بوتين. ولا تزال موسكو تشير إلى الغرب بصفته شريكا، لكنها تشعر بأنه استغفلها وخدعها في أمور إستراتيجية عديدة ترى أنها تمس أمنها القومي، ومن ذلك غزو أفغانستان ومن ثم العراق، وبعد ذلك ليبيا، ثم التسلل إلى الجنوب الأوراسي. . إلخ.

مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان وبقية اللغو المعروف. . إلخ -والذي يُكثر "الغرب" الحديث فيه بشأن العلاقة مع روسيا وكل ما لا يرضى عنه- فلا قيمة له. فـ"الغرب" هو من هلل للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين عندما ضرب البرلمان المنتخب بمدفعية الدبابات في عام 1993

أما مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان وبقية اللغو المعروف.. إلخ -والذي يُكثر "الغربُ" الحديث فيه بشأن العلاقة مع روسيا وكل ما لا يرضى عنه- فلا قيمة له. فـ"الغرب" هو من هلل للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين عندما ضرب البرلمان المنتخب بمدفعية الدبابات في عام 1993. ونُذَكر بهذا فقط كي لا نشير -ضمن أمور أخرى- إلى صمته المريب عن أمره بغزو جمهورية الشيشان في عام 1994 وتدمير عاصمتها.

المسألة هنا ليست شيطنة الغرب أو الانحياز الكيدي إلى هذا الطرف أو ذاك، وإنما التذكير بحقائق وجب ألا تغيب عند الحديث في الموضوع الذي بدأ يأخذ مناحي غاية في الخطورة، يعبر عنها تواصل الحديث في الغرب عن إمكانية حدوث حرب نووية، وأنها لن تقضي على البشرية بل ستكون مفيدة للاقتصاد العالمي!

النظر إلى النزاعات المرعبة التي تجتاح بلادنا حاليًا -وتلك القادمة- يجب أن يتم ضمن منظور جيوستراتيجي. هذه الصراعات التي تحيط بنا غاية في العنف والهمجية، وتدخل تحتها مسميات منها النفط والغاز وخطوط نقله، واتفاقيات روسية على تصدير الغاز إلى الصين وأخيرا إلى تركيا، واستبدال روسيا خط "تُورك ستريم" -الذي يوصل الغاز الروسي إلى تركيا- بـ"ساوث ستريم" الذي فرض عليه الاتحاد الأوروبي شروطا جديدة مما دفع بوتين لإلغائه.

ويضاف إلى كل ما سبق إغراق السوق بالنفط مما أدى إلى انهيار سعره، وهو ما يثبت مقولة إن النفط سلاح، ذلك أن المتضررين الأكبرين من هذا هما إيران وروسيا، على ما يقوله الخبراء. أما تأثير ذلك في الولايات المتحدة الأميركية فيلخصه قول مسؤول أميركي كبير: "من منظور المستهلك فإنه يساوي خفض الضرائب".

ليس بالإمكان حصر كافة العوامل المؤثرة في هذه الصراعات وتفرعاتها، لذلك أوجزنا أهمها. ولذا نكرر القول إننا في حاجة ماسة إلى نظام أمن قومي عربي، وعلى نخبنا (بمعنى الصفوة) تقديم آرائهم ومقترحاتهم؛ فالزمن سيتجاوز كل من يتوقف عن مواكبته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.