ربيع العرب في ضيافة القبائل والعشائر

مواجهات الحوثيين والقبائل فتحت الباب لاحتمالات تدخل الجيش

جسم قبلي شائه
حضن العشيرة
خزينة الثورة

سلوك الأنظمة الحاكمة التي قام الربيع العربي في وجهها مع القبائل والعشائر المحلية في حاجة إلى دراسة علمية دقيقة وموسعة، ولن نفعل هنا أكثر من مس الموضوع مسا خفيفا تمهيدا للنظر العاجل -أيضا- في الوظيفة الثورية للقبائل والعشائر في سياق التطورات الحالية في العالم العربي.

جسم قبلي شائه
السلوك العام للأنظمة غير الديمقراطية مع المكونات الاجتماعية المختلفة لبلادها، يشي بأن الأصل عندها هو محاولة توظيفها في صالح مشروعها التسلطي، أو استتباعها في صفقة مشتركة للنظام مع القيادات والزعامات القبلية والعشائرية، فإن كانت الكعكة لا تقبل القسمة على اثنين، أو بدت هناك بعض العقبات في طبيعة التكوين القبلي لا تناسب التحالف مع النظام الحاكم، أو لا تلائم مطامعه، تحوّل النظام عن هذه الوجهة إلى غيرها.

وهذا التحول ليس إجراء بسيطا أو سهلا، بل هو عملية طويلة وممتدة لزم عنها -في حالات- تحقيق درجة ما من التوتر الاجتماعي في الجسد القبلي والعشائري يقف دون حد الانفجار، حتى ينشغل المكوِّن القبلي بنفسه عن التفكير في أي إعاقة لعملية الاستئثار بالدولة والحكم، وفي الوقت نفسه لا يفسد الطبخة على الجميع.

السلوك العام للأنظمة غير الديمقراطية مع المكونات الاجتماعية المختلفة لبلادها يشي بأن الأصل عندها هو محاولة توظيفها في صالح مشروعها التسلطي، أو استتباعها في صفقة مشتركة للنظام مع القيادات والزعامات القبلية والعشائرية

وفي حالات أخرى تعرضت القبائل والعشائر لإهمال متعمد من النظام الحاكم، لا يقتلها، ولكنه أيضا لا يتيح لها أن تؤثر في توجهات الدولة. وقليلا ما كانت الأنظمة العربية الحاكمة تلجأ إلى سياسة دموية في مواجهة القبائل والقبليَّة لذاتها أو بدوافع أيديولوجية.

ولأن الدولة يلزم أن تحملها جماعة، أو جهاز بشري يعكس بالضرورة طبيعة المجتمع، فقد اصطنع الاستبداد العربي في بلاده نوعا بديلا وشائها من القبائل أشبه ما يكون بقبيلة سياسية جمعت في عباءتها أوزاعا وأوشابا من الناس ذوي انتماءات عرقية وقبلية ومذهبية ودينية مختلفة، توحدهم مصالح سياسية واقتصادية مشتركة.

وقد تُرجِم هذا حقيقة في صورة خادعة، إذ من الشائع أن تجد في تشكيل النظام السياسي العربي كرديا أو بربريا أو شركسيا إلى جانب عربي، وشيعيا من أي نوع إلى جانب سني، ومسيحيا أو يهوديا إلى جانب مسلم، وهكذا. والنظام من جانبه لا يتوانى عن تسويق ذلك الطيف باعتباره تعبيرا عن الوحدة الوطنية، مع أن الحقيقة هي أننا أمام تجمع لمَرْضَى بالسلطة والمال، أو كتلة مصالح تختزل الدين والقومية والوطنية والقبيلة والحزب في مصلحة ضيقة تحققها من وراء سيطرتها على السياسة والاقتصاد والثقافة في صيغة للدولة تتناغم مع توجهات السياسة الدولية الآنية، وتتأقلم مع تغيراتها أيضا.

ولو شئنا أن نخرج من هذا التجريد إلى بعض الأمثلة من داخل دول الربيع أو مثيلاتها، سنجد النظام الأردني يستعين منذ عقود بالشركس في كثير من مناصب الدولة الحساسة كرئاسة الوزارة ورئاسة مجلس الأعيان والمخابرات وأفراد الحرس الملكي الخاص، كما يلقى "المجلس العشائري الشركسي" عناية مباشرة من الملك نفسه. وهو استقواء ظاهر بأقلية قبلية من نوع ما على بقية المكونات الاجتماعية في دولة يكاد يكون الطابع العشائري هو الغالب على تركيبها السكاني إلى الآن.

وأما اليمن، فقد حارب الشيوعيون الجنوبيون الانتماءات العشائرية بقسوة، وحاولوا أن يستبدلوا بها انتماءات مستقاة من فكرهم الجانح نحو تكسير البنى الاجتماعية التقليدية، وتركيز الانتماء المقبول في الحزب والطبقة العاملة. وفي المقابل بقي الشطر الآخر من اليمن قبائليا بامتياز، ومن هنا عمل المكون القبلي والحس الديني المتوحد معه بنجاح لصالح وحدة اليمن في حرب 1994 ضد رغبة الجنوبيين في الانفصال، حتى كانت قبائل الشمال تبسط حمايتها على قوات الجنوب المتمركزة لديها مقابل كفها عن القتال، إضافة إلى مشاركة مسلحي القبائل في الحرب مباشرة ضد قوات الحزب الاشتراكي الجنوبي.

وأما إهمال الدولة العربية للقبائل وإضاعة حقوقها، فمثاله الواضح بدو سيناء في مصر، فقد عانوا -وهم أهل جبهة خطيرة ومعادية- من الإهمال القاتل والتفرقة المهينة بينهم وبين سائر المصريين في الوادي وبقية المحافظات، فلم يكن لهم قبل انتخابات منتصف عام 2012 -التي جاءت بأول رئيس مصري مدني إلى سدة الحكم- حق في الالتحاق بالجيش أو الشرطة أو امتلاك أرضهم بصفة قانونية رسمية. كما لم يشهد شبه جزيرة سيناء الغني بالثروات والموقع الممتاز -لا قبل احتلال إسرائيل له عام 1967 ولا بعد تحريره عام 1982- أي تنمية حقيقية يستفيد منها السينائيون، وإن تحدثتَ عن انتعاش السياحة الذي كان في شرم الشيخ ودهب ورأس محمد وطابا، فقد كانت الدولارات تصب في جيوب الأباطرة وحدهم دون بقية المصريين في سيناء وغير سيناء.

إهمال الدولة العربية للقبائل وإضاعة حقوقها مثاله الواضح بدو سيناء في مصر، فقد عانوا -وهم أهل جبهة خطيرة ومعادية- من الإهمال القاتل والتفرقة المهينة بينهم وبين سائر المصريين في الوادي وبقية المحافظات

ولم يكن هذا كله إلا امتدادا للسياسة الاستعمارية مع القبائل وأفرعها، وفي معنى لافت للانتباه يذكر عباس العزاوي في كتابه "عشائر العراق" أن جميع كتب الغربيين عن العشائر تقريبا اقتصرت "على ذكر الشيوخ والرؤساء واسم العشيرة وموطنها، وعدد بيوتها، وحالتها من نقطة المعيشة والسلطة، وعلاقتها بالحكومة وبالناس بصورة بسيطة جدا.. فلم ينظر إلى أصل القبيلة، وتاريخ هجرتها، وعلاقتها (من جهة النسب) بالعشائر المجاورة" (ص: 12).

والسبب الذي لم يذكره لهذا التأليف الانتقائي هو أنهم لم يكونوا بصدد دراسة علمية موسعة يخدمون بها الثقافة أو الفكر أو العلم، وإنما هي محاولة لجمع معلومات عن هذه الكيانات الاجتماعية المهمة، بغية توظيفها في تحديد السياسة الاستعمارية المناسبة للتعاطي مع العشائر العربية.

حضن العشيرة
العنوان الأكبر للحياة السياسية العربية الآن، ومنذ أكثر من عام، هو المواجهة المحتدمة -التي لم تقف حتى دون الدماء- بين الربيع العربي وخصومه، فيما يشبه قاطرتين تسيران في اتجاهين متضادين على طريق واحد، وكل فريق يبحث عن أسباب التغلب بكل وسيلة تبعا للمبادئ التي تحكمه، فخصوم الربيع تكتلوا في حلف واحد يدافع عن مصالحهم جملة واحدة، وتكفلوا بأن يدعم بعضهم بعضا اقتصاديا وإعلاميا ودبلوماسيا، ويواجهوا كل محاولات الشعوب العربية لكسر شوكة الدولة المستبدة في هذا القطر أو ذاك.

وأما أنصار الربيع أو ممثلوه فقد تمسكوا بحقوقهم في الحرية في مواجهة القمع، وتحملوا في سبيل ذلك مصاعب جمة قتلا واعتقالا ومطاردة وفصلا من العمل ومصادرة للأموال، ووظفوا في مواجهة الثورات المضادة كثيرا من الإمكانات التقنية والاجتماعية والفنية المتاحة، وقد كان الالتقاء مع القبائل والعشائر لازما لهم في هذا الطريق.

وواقع القبائل والعشائر العربية قبل الربيع لم يكن -نتيجة للسياسة السابقة في التعاطي معها- أقل من أزمة حادة، فزيادة على سياسة الإهمال وتوتير الأوضاع، فشل النظام الاستبدادي العربي في أن يقيم في بلاده دولة حديثة تقوم على قيم المواطنة وتخف فيها حدة الانتماءات القبلية والعشائرية وما ينتج عنها من أعمال عنف متنوعة، ونتيجة ذلك بإجمال هي أن موقف أكثر الكيانات القبلية، أو التي احتفظت بهذا السمت عموما، هو تأييد الثورات، أو عدم الإقدام على حماقة مساندة الأنظمة المهددة بالانهيار على الأقل، فيما يشبه الموقف السني اللامبالي -وإن كان ساخطا- من الغزو الأميركي الدولي لعراق صدام حسين قبل ذلك.

ولا نريد أن نصور التقاء الثورات العربية بالقبائل باعتباره مجرد تجمّع للساخطين على الاستبداد، فقد كان كثير من أبناء القبائل جزءا من الثورات منذ بدئها، ولكن لأن الثورة ليست مجرد أفكار مثالية ساخنة تتردد في أذهان بعض الحالمين، فقد كان لا بد من أن تحتمي أو تتحد -وهي تسعى إلى تغيير الواقع- بما يتاح لها من نسيج اجتماعي وطني متواصل الحلقات، وليس أكثر مناسبة لهذا من القبائل والعشائر المعروفة بالالتقاء على الأنساب، والتحامي على صون الكرامة، والتحالف على دفع المضار، وتحمل الضربات في صورة جماعية.

وإذا كانت نوعية الشباب العربي الذي حمل الثورة على ظهره تتمثل في جيل الحاسوب صاحب القيم الدينية العامة المشربة بشيء من الوطنية، والمترعة بحب الإنجاز وتحدي الصعاب، والصبر في سبيل الهدف، ومن دون عمق لا في الثقافة ولا في تحديد الإستراتيجية، وبنظرة إلى الذات تراها أجدر بالحرية والكرامة من المسيطرين على الدولة الغائبين عن تقنيات العصر، فإنه لا بد له من عمق اجتماعي راسخ يتكئ عليه في حراكه، ويتيح له مدى زمنيا ملائما للبقاء والاستمرار، كي يكسب الخبرة الكافية التي تؤهله للانتصار لمبادئه.

لقد برزت في الشباب العربي الثائر كذلك خصال الجسارة وروح التضحية، لكن من دون سند ملائم من العمل الواقعي للبقاء والنجاح الذي يوجه طاقة الإنسان إلى الإنجاز الثابت على الأرض، ومن هنا تأتي أهمية التحام الربيع العربي بالفئات الاجتماعية والوظيفية ذات التاريخ، لأن معنى تاريخيتها هو قدرتها على البقاء والاستمرار، أو قدرتها على مواجهة تحديات المحو والسحق، ووظيفيتها تنبع من قدرتها على صناعة الوقائع والواقع.

الحس القبلي بمعناه العام لا يخلو منه بلد عربي، ويمكن أن يفتح مزيدا من خزائنه للثوار حين يقع الالتحام بينه وبين شباب الثورة، ويصبح المصير مصير وطن كامل لن ينقذه إلا أهله من سكان المدن والبوادي والقرى والجبال والسهول

ولهذا كله فقد رصدوا من أسباب فشل الثورة على الإمامة في اليمن سنة 1948 -كما يسجل أحد شهودها- أن "القبائل اليمنية.. لم تصل إليها الدعوة النضالية، فضلا عن الحماس لها ولروحها المستعرة التي كانت لا تتجاوز المجموعات من الشباب والطلاب والضباط في صنعاء وذمار وإب وتعز" (عبد الله الشماحي: اليمن.. الإنسان والحضارة، ص: 223).

وقد أدركت ذلك من البداية -ولو نظريا- "هيئة النضال" التي شكلها قبل الثورة السيد أحمد المطاع حين استهدفت في مخططها "توعية الجماهير القبلية، لاسيما في الشمال"، باعتبار أن "هذه المهمة هي عقدة العقد، إذ عليها في اليمن يتوقف النجاح والفشل" (الشماحي، ص: 200).

خزينة الثورة
ما زال الشباب الذي أشعل الثورة في العالم العربي يمثل نواتها الصلبة أو عظامها التي لا بد من كسوتها باللحم حتى تستوي خلقة الثورة كاملة، ومع أن كثيرا من هذا الشباب هم من أبناء القبائل والعشائر والعائلات الكبيرة -كما هو ظاهر في اليمن وليبيا والعراق ومصر- إلا أنهم برزوا في الميدان بغير هذه الصفة، واعتُبرت فيهم الفئة العمرية ونوع الثقافة التي تميزهم لا انتماؤهم لقبائلهم.

والحديث عن مشاركة القبائل في الثورات أمر آخر غير هذا، حيث تبرز القبيلة بزعاماتها ورجالاتها، وتتبنى على الأرض فعلا ثوريا يضاف إلى فعل شباب الوطن الثائر ويكمله ويؤازره، ويوفر له الحاضنة التي تؤويه، والظهير الذي يسانده.

ولعلنا لا نخطئ التمثيل حين نتكلم عن مواقف القبائل الليبية واليمنية، ومواجهتها لزحف الثورة المضادة، فبعض قبائل ليبيا باتت تعض على هويتها سنين عددا، فلما سنحت لها الفرصة خرجت بما رأته ملائما من العدة لحماية ثورة دفع فيها الشعب ضريبة عالية من الدماء والأموال. كما أن قبائل اليمن الكبرى تمثل خزينة للثورة اليمنية وظهيرا اجتماعيا قويا لها، وبدا أثر التوجيه القبلي واضحا في الحشد الواسع من أول الثورة إلى الآن.

ولكن الحس القبلي بمعناه العام لا يخلو منه بلد عربي، ويمكن أن يفتح مزيدا من خزائنه للثوار حين يقع الالتحام بينه وبين شباب الثورة، ويصبح المصير مصير وطن كامل لن ينقذه إلا أهله من سكان المدن والبوادي والقرى والجبال والسهول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.