حماس.. ما بعد العدوان

مسيرة دعت لها حركة حماس في مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية
الجزيرة

إدارة الأزمة الداخلية
بلورة التفكير السياسي
التلاحم مع الجماهير
مسيرة التحرر الوطني

بين يدي حركة حماس اليوم استحقاقات بالغة الأهمية تستبطن تصويبا شاملا للحال والمسار بغية مواجهة تحديات ما بعد انتهاء العدوان على غزة، وعبور المرحلة القادمة بأقل الخسائر الممكنة، وإطلاق ذاتها كمشروع وطني تحرري جامع يلتئم في رحابه شمل الفلسطينيين.

إدارة الأزمة الداخلية
الاستحقاق الأول الذي ينبغي أن تتصدى له حماس اليوم يكمن في حسن إدارة الأزمة الفلسطينية الداخلية لدرء أي اتجاه نحو الفتنة التي تطل برأسها المأفون هذه الأيام.

فمن المعروف أن اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس يشهد عثرات مهمة في ضوء الإشكاليات والاتهامات المتبادلة بين الجانبين، وهو ما يهدد بإعادة الوضع الفلسطيني الداخلي إلى المربع الأول.

حرص الحركة يجب أن يتركز في اتجاه تحشيد الحالة الفصائلية وكافة المكونات المجتمعية الفلسطينية للضغط الوطني الفاعل باتجاه تطبيق ملفات المصالحة المختلفة

الخطوة الأولى التي يٌفترض أن تخطوها الحركة تتمثل في ضرورة وقف المناكفات الإعلامية مع فتح، كي يُصار من بعدها إلى معالجة رزينة للملفات العالقة بعيدا عن التوتر الحاصل في ضوء مناخات هادئة ومواتية.

وكي تضمن حماس إنفاذ المصالحة فإن عليها أن تبتعد عن العزف المنفرد وتعمل في ضوء معزوفة وطنية متجانسة، إذ إن الفارق أشد ما يكون بين الجهد الفردي المحدود والجهد الوطني العام الذي ينتظم كافة الفصائل والشرائح والمنظمات المجتمعية.

من هنا، فإن حرص الحركة يجب أن يتركز في اتجاه تحشيد الحالة الفصائلية وكافة المكونات المجتمعية الفلسطينية للضغط الوطني الفاعل باتجاه تطبيق ملفات المصالحة المختلفة.

بموازاة ذلك، ينبغي أن تعمد الحركة -عبر آليات التوافق مع القوى والفصائل الوطنية والإسلامية المختلفة- إلى حسن إدارة الصراع مع الاحتلال بما يضمن تجنيب الفلسطينيين مزيدا من المعاناة والتداعيات السلبية، وخصوصا في ظل الكلفة الباهظة للحرب الأخيرة وشدة وطأة الظروف المعيشية التي يكابدها أهالي قطاع غزة.

ولا مندوحة -في ظل الظروف الراهنة بتعقيداتها المعروفة- من سعي الحركة لإبرام صفقة وطنية مع الرئيس عباس وحركة فتح بهدف طيّ صفحة الخلافات الحاصلة، ومعالجة كل الملفات الوطنية التي يهدد انعدام التوافق بشأنها الحالة الفلسطينية برمتها، ومن بينها الملف السياسي، وقضية الموظفين، وقرار الحرب والسلم، وسلاح المقاومة، والقضايا الأخرى.

بلورة التفكير السياسي
الاستحقاق الثاني الذي ينبغي أن تعالجه حماس يتعلق بضرورة إعادة بلورة تفكيرها السياسي الذي أثبتت الأحداث -وخصوصا الحرب الأخيرة على غزة- افتقاره إلى النضج المطلوب.

فالثابت لدى طائفة معتبرة من أهل الخبرة السياسية أن السلوك والممارسة السياسية لحماس طيلة المرحلة الماضية لم ترق إلى مستوى المخاطر والتحديات التي واجهتها القضية الفلسطينية، وأسهمت بقدر -مع غيرها- في السقوط في براثن الأزمة الفلسطينية الداخلية.

إن تجربة السنوات الماضية منذ إجراء انتخابات 2006 وحتى اليوم، وما رافقها من حصار ومخططات ومآس ونكبات، بحق الشعب الفلسطيني تحتم على الحركة إحداث مراجعات عميقة لكل حيثيات وتفاصيل المرحلة السابقة واستخلاص كل ما يمكن استخلاصه منها، مواعظَ وعِبَر، بما يقودها إلى إعادة بلورة رؤى ومقاربات وطنية جديدة تعمد إلى محاولة التقليل من خسائر المرحلة التي هدّت البنيان وزلزلت الأركان، وإعادة الاعتبار للمبادئ والمنطلقات الأساسية التي ترعرعت في ظلالها الحركة، واعتماد الرؤى والمواقف السياسية بعد البحث المستفيض والمدارسة الكاملة في ضوء أولوية المصالح العليا للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

وعليه، لا مناص من تكريس رؤية سياسية جديدة لدى حماس تعتمد على إعادة بلورة أهدافها ووسائلها السياسية، وإعادة بناء موقفها السياسي تجاه الأحداث والقضايا المختلفة، بما يتفق مع مسار التحرر الوطني والأهداف والمصالح الكبرى للشعب الفلسطيني وضرورات الدعم والتحشيد لصالح القضية الفلسطينية خارجيا.

ويشكل تكريس قيم التوافق والشراكة الوطنية إحدى القواعد الأساسية المعضدة لنجاح أية رؤية سياسية جديدة، فالثابت أن مرحلة التحرر الوطني تستلزم بناء المواقف وتحشيد مختلف الطاقات الوطنية، شعبيا وفصائليا، دون استثناء، في إطار المعركة الكبرى مع الاحتلال، وانتهاج سبل التنسيق الجاد والتعاون المثمر مع الكل الوطني الفلسطيني على أرضية المشتركات الكبرى التي يوفرها العمل المشترك في مواجهة الاحتلال.

كما إن إعادة تقدير الموقف من مسألة الانخراط غير المحسوب في مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني تشكل -أيضا- حاجة بالغة الضرورة على طريق إعادة ضبط بوصلة الرؤية والخطاب السياسي في الاتجاه الوطني المنشود، فقد بات واضحا لكل ذي عينين أن حماس لا تقوى على استمرار تجرع كلفة الانسياق مع متطلبات المرحلة السلطوية ذات الكيان الإداري المرتبط عضويا بأوسلو في ظل تحكم الاحتلال بالكمّ الأكبر من المقومات الاقتصادية والموارد الحياتية اللازمة لتسيير حياة الفلسطينيين.

تتأسس على ذلك رؤية إبداعية خلاقة تنأى بالحركة ورموزها عن التماس المباشر مع هياكل السلطة وإطاراتها المختلفة في إطار أي انتخابات مستقبلية لصالح اعتماد مرشحين أكفاء أكثر ابتعادا عن الروح الحزبية في ظل رقابة صارمة تضمن حسن وسلامة الأداء المهني وإعمال مبادئ العدالة من جهة، والتحلل من آثار الروابط والالتزامات السياسية مع الاحتلال من جهة أخرى.

يُفترض بالحركة التحلي بأكبر قدر من التواضع الفكري والأيديولوجي مع الجميع، وخاصة مع المخالفين، وتجنب التعاطي الفوقي مع هؤلاء، وعدم الانعزال عنهم، والحرص على المحاجة الهادئة التى تسهم في تأليف القلوب

فوق ذلك، فإن الحركة مطالبة بقراءة سليمة للمتغيرات الإقليمية، والعمل على إحداث مقاربات سياسية جديدة لنزع فتيل الأزمة مع بعض الأنظمة العربية، وخصوصا النظام المصري، كونها -أي هذه الأزمة- تركت آثارها السلبية البالغة على طبيعة الأوضاع في قطاع غزة، وعلى القضية الفلسطينية بشكل عام.

وليس خافيا أن ضعف قدرة الحركة على التعاطي مع الملف المصري طيلة المرحلة الماضية منح خصومها هامشا واسعا لمحاصرتها وتركيز كل أشكال الاستهداف المتاحة بحقها، ما يملي عليها ضرورة امتلاك معايير التوازن المطلوب في المواءمة بين متطلبات انتمائها الفكري لجماعة الإخوان المسلمين، وبين دقة وسلامة علاقتها مع النظام السياسي المصري والمكونات السياسية والحزبية المصرية.

باختصار، فإن الحركة بحاجة إلى إعادة بلورة وتأصيل وتقعيد تفكيرها السياسي من جديد.

التلاحم مع الجماهير
لا يخفى أن علاقة حماس مع الجمهور الفلسطيني في قطاع غزة قد تضررت بوضوح طيلة سنوات الانقسام بالنظر إلى ضعف الحكم والإدارة والخدمات التي قدمتها الحركة للناس آنذاك.

ولم تستعد الحركة جزءا مهما من عافيتها الشعبية إلا بفعل التضحيات الواسعة والمقاومة الباسلة التي أبدتها إبان الحرب الأخيرة عبر ذراعها العسكري (كتائب القسام).

لذا، وجب إعمال منطق الحكمة في التواصل مع أهالي القطاع، ما يعني حسن التعامل مع الناس على قدم المساواة وتوطيد العلاقات معهم بعيدا عن المحاباة الشخصية أو الولاء الحزبي، وتلمّس همومهم ومعاناتهم وشؤون معاشهم في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشونها بفعل التداعيات الكبرى التي خلّفتها الحرب الأخيرة واستمرار الحصار.

كما يُفترض بالحركة التحلي بأكبر قدر من التواضع الفكري والثقافي والأيديولوجي مع الجميع، وخاصة مع المخالفين، وتجنب التعاطي الفوقي مع هؤلاء، وعدم الانعزال أو الابتعاد عنهم، والحرص على إبداء المحاجة الثقافية والحوار السياسي والفكري الهادئ الذي يسهم في ترطيب الأجواء وتأليف القلوب، ما يعبّد الطريق أمامها نحو استيعاب مختلف فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني لصالح النهج المقاوم ومسار التحرير.

مسيرة التحرر الوطني
الاستحقاق الأكثر أهمية وخطورة وإستراتيجية يتجسد في ضرورة إعادة الاعتبار لمسيرة التحرر الوطني.

لا مناص من الاعتراف بأن الساحة الفلسطينية عاشت طيلة المرحلة الماضية ارتباكا إستراتيجيا، واختلالا في القدرة على ضبط البوصلة الوطنية في اتجاه هدف التحرير المنشود في ظل ذوبان فتح في بحر السلطة المتلاطم، ومن ثمّ حماس التي انتقل إليها جزء كبير من أمراض السلطة وسلبياتها المعروفة، ما أدى إلى اختلال الأولويات واضطراب المنظومة الوطنية الفلسطينية ككل.

وكان واضحا أن المشروع الوطني التحرري أضحى أسيرا للصراع الحزبي الذي ألقى بظلاله القاتمة طيلة مرحلة الانقسام، باستثناء الإضاءات الأصيلة التي تجسدت من خلال صمود وثبات وتضحيات المقاومة إبان الحروب الثلاث الأخيرة التي شنتها إسرائيل على مدار السنوات الماضية.

من هنا، فإن حماس مطالبة اليوم بتصحيح الأخطاء الإستراتيجية التي صاحبت انخراطها في متاهة السلطة عبر إعادة صوغ معادلتها الكفاحية المقاومة، وإعادة الاعتبار لمسيرة التحرر الوطني الفلسطيني.

حماس مطالبة اليوم بتصحيح الأخطاء الإستراتيجية التي صاحبت انخراطها في متاهة السلطة عبر إعادة صوغ معادلتها الكفاحية المقاومة، وإعادة الاعتبار لمسيرة التحرر الوطني الفلسطيني

ولا مفر من الاعتراف بأن الشروع في تحقيق هذا الهدف لا يتأتى إلا عبر تدشين القواعد التحررية الجديدة في ضوء رؤية جديدة تخرج بالحركة من أسر أوسلو وإفرازاتها السياسية والإدارية، بما فيها السلطة والانتخابات وبنية النظام السياسي الفلسطيني، إلى فضاء المقاومة الواعية الحاملة لهمّ المشروع الوطني التحرري المتحرر من الضغوط والتدخلات الخارجية.

ومع ذلك فإن إعادة الاعتبار لمسار المقاومة والتحرر الوطني لا تعني إهمال وتجاهل السلطة ومكوناتها المختلفة كونها تحولت إلى أمر واقع في حياة الفلسطينيين، وهو ما يستوجب قيام حماس بإفراز آليات كفؤة ودعم شخوص وإطارات وطنية مشهودة لملأ الفراغ والمشاركة السياسية والمزاحمة الانتخابية.

وكي تعيد حماس الاعتبار لمشروع التحرر الوطني فإنها يجب أن تشكل وعاء نضاليا جامعا تنصهر فيه كل الطاقات الوطنية الفلسطينية، وتكرس التوافق الوطني كمحدد أساس للعملية النضالية ومسار المقاومة والكفاح، وأن تدفع باتجاه تشكيل مرجعية نضالية عامة تتولى رسم الأصول الإستراتيجية الناظمة لمشروع المقاومة الشاملة، والإشراف الإستراتيجي على مسار العمل المقاوم بوسائله المختلفة ورفده بالنصح الدقيق والتوجيه الدائم والتقويم المستمر.

ولن ينجح أي جهد وطني فلسطيني في إعادة الاعتبار لمشروع التحرر الوطني إذا لم يتحرر من ذاتيته الفصائلية، وتغدو المصلحة الوطنية الفلسطينية، في فهمه ومبادئه وإستراتيجياته وأعماله، أولا وأخيرا.

وختاما فإن مستقبل حماس، ومدى قدرتها على مواجهة المحن والتحديات الراهنة، والخروج منها بأقل الخسائر، وبما يفيدها في تصليب عودها، وإعادة بناء ذاتها، وشحذ قدراتها، وعبور المرحلة القادمة بخطى واثقة على أرضية متينة، وإطلاق ذاتها كمشروع وطني تحرري جامع يلتئم في رحابه شمل الفلسطينيين، منوط بمدى قدرتها على تلبية الاستحقاقات السالفة دون بخس أو تجزئة أو تأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.