الغرب والمسألتان السنية والشيعية

مظاهر العيد اقتصرت على أداء الصلوات في المساجد.
الجزيرة

لا يخفى على الكثير من المتابعين، أكاديميين وكتابا وسياسيين، أن خلاف الغرب وحلفائه ومقربيه في المنطقة العربية من دول وتيارات وجماعات وأفراد مع الإسلام السياسي "الشيعي" خلاف تكتيكي مصلحي آني، يزول بزوال المؤثر عدا عن إمكانية التحكم به والسيطرة عليه بسهولة، فيما خلافهم مع الإسلام السياسي "السني" خلاف إستراتيجي مبدئي، يرتكز على جملة من الرؤى والتصورات والتجارب التاريخية قديما وحديثا.

قبل الخوض في هذه المقاربة، أجزم أني لا أميل كثيرا إلى هذه التصنيفات الطائفية باعتبارها نتائج تاريخية لا علاقة لنا بها اليوم، إلا من خلال الفشل الكبير عربيا من قبل كل النخب التي تربعت المشهد السياسي العربي في دولة ما بعد الاستقلال، في التأسيس الحقيقي للدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية والنظام والقانون.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، سترتكز ملاحظاتنا السريعة على تتبع المسار التاريخي للصراع بين طرفي المعادلة التاريخية، الشرق الإسلامي والغربي المسيحي، وأكثر تحديدا تعاملات الغرب مع ثنائية السنة والشيعة.

***

ترتكز رؤية الغرب وتصنيفه للإسلام السني استنادا للتجربة التاريخية في صراعه وتعامله مع العالم الإسلامي والعربي تحديدا، بأن الإسلام السني هو الحامل لفكرة الأمة الإسلامية بمختلف قومياتها وأعراقها، ومن ثم تمثيله لمشروع الإسلام الحضاري بتجربته التاريخية التي قد يُعاد بعثها من جديد ولا تنقصه الشواهد والمحاولات التاريخية في هذا الجانب، والتي ليس آخرها تجربة حركات المقاومة الوطنية للاستعمار الغربي قديما وحديثا.

ترتكز رؤية الغرب وتصنيفه للإسلام السني استنادا للتجربة التاريخية، بأن الإسلام السني هو الحامل لفكرة الأمة الإسلامية بمختلف قومياتها وأعراقها، ومن ثم تمثيله لمشروع الإسلام الحضاري بتجربته التاريخية التي قد يُعاد بعثها من جديد

فيما المشروع السياسي للإسلامية الشيعية، لا يعدو كونه مشروع طائفة مختزلا في شخوص ومرجعيات معينة يمكن السيطرة عليه أو احتواؤه بسهولة من خلال شخوصه ومرجعياته، فيما لا يمكن فعل ذلك في حالة الإسلامية السنية، كما أثبتته تجارب التاريخ والواقع المعاصر.

فعلى امتداد التجربة التاريخية للإسلامية الشيعية بكل تنوعاتها، لم تقم هناك دولة إسلامية شيعية كحاملة لمشروع أمة بكل طوائفها، بقدر ما كانت مشاريع طائفية صغيرة مختزلة بشخوص مرجعيات هذه الطائفة أو تلك، فيما لم يحصل أن قامت أي من الدويلات الشيعية بدور سياسي ندي ومواز للغرب أو لأي من الإمبراطوريات الغربية التي عاصرتها تلك الدويلات الصغيرة، كالزيدية في اليمن أوالصفوية في إيران وغيرها.

فيما على الجانب الآخر، ما زال الغرب مسكونا ومهووسا بالتجربة التاريخية المريرة له مع معظم الدول والإمبراطوريات المحسوبة على الحالة الإسلامية السنية، ابتداء بتجربتهم مع الأمويين والعباسيين، أو تجربة الصراع الدائم مع دويلات الأندلس السنية، التي انتهى الأمر بالقضاء النهائي عليها في عام 1495، فضلا عن تجارب أزيد من ثلاثة قرون من الحروب الصليبية (1096-1291) مع دولة آل زنكي والأيوبيين السنية.

ولا يغفل التاريخ هنا ما قام به الأيوبيون من دور تاريخي حاسم في إنهاء واحدة من أخطر مراحل التاريخ التي عاشها العالم الإسلامي، مكبلا تحت رحمة الحملات الصليبية المتعاقبة على مدى قرنين من الزمان، والتي كللت باحتلالها للمسجد الأقصى، الذي تشرف الأيوبيون السنة بتحريره على يد القائد الكردي السني، صلاح الدين الأيوبي.

ما قام به الأيوبيون "السنة" من كسر لموجات الحروب الصليبية على العالم الإسلامي، جسده أسلافهم السنة من قومية الترك، ممثلا بالإمبراطورية العثمانية التي أحيت ما يُعرف تاريخيا بالفتوحات الإسلامية، التي تكللت بإسقاط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وما تلاها بعد ذلك من سقوط للممالك الأوروبية الشرقية واحدة بعد أخرى.

***

صحيح أنه في التجربة التاريخية للإسلامية الشيعية، لم يتسن للحالة الشيعية إيجاد دولة خاصة بها إلا في منتصف القرن الهجري الثالث، وتمثل ذلك بالمحاولة الشيعية الزيدية تحديدا، في كل من الديلم وطبرستان واليمن، وكذا تمكن الشيعة الفاطميين من تأسيس دولة لهم في المغرب عُرفت بدولة العبيديين وبانتقالها إلى مصر حيث عرفت بالدولة الفاطمية وكذلك في اليمن عُرفت باسم الدولة الصليحية.

لكن لم يتسن لهذه التجارب الشيعية تقديم نموذج سياسي مهددا للدول أو الإمبراطوريات الغربية المعاصرة لها، ولم تسع حتى لمجرد التفكير البراغماتي السياسي بالتوسع خارج حدود الجغرافية الإسلامية التي تحت سيطرتها.

ففيما سقطت مبكرا دولة الزيدية في كل من الديلم وطبرستان، استمرت في الحالة اليمنية طويلا كدويلة هامشية غير مرحب بها يمنيا، كنتيجة طبيعية لعقيدتها العنصرية التي جاء بها مؤسس هذه الدولة الزيدية الهادي يحيي بن الحسين الرسي، في حصره الإمامة -أي المُلك- في سلالته دون غيرهم.

ما لُحظ في حالة الدولة الفاطمية بمصر من تعاملها مع الصليبيين ضد الأيوبيين، مشابه لما قامت به الدولة الصفوية في حربها ضد الدولة العثمانية التي كانت في توسع عسكري داخل القارة الأوروبية، فيما كانت تتعرض للهجوم الدائم من قبل الصفويين في العراق وغيرها.

***

لم يتسن للحالة الشيعية أن تكون حاضرة كحالة ثورية ضد المستعمر إلا فيما عرف بثورة كتائب العشرين في العراق، التي قام بها الزعماء السنة وبعض الشيعة على حد سواء، وهي ما كررتها حديثا حالة حزب الله اللبناني قبل تورطه في المشهد السوري

أما في التاريخ المعاصر والحديث، فكانت أغلب حركات التحرير العربي من الاستعمار الغربي يقودها زعماء ذوو خلفيات دينية واضحة، كالحركة المهدوية في السودان والسنوسية في ليبيا، وكذا ثورات عبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي في المغربي العربي، وكذا ثورة القسام في فلسطين والشام، وغيرها من ثورات التحرر ضد المستعمر.

ولم يتسن للحالة الشيعية أن تكون حاضرة كحالة ثورية ضد المستعمر إلا فيما عرف بثورة كتائب العشرين في العراق، التي قام بها الزعماء السنة وبعض الشيعة على حد سواء، وهي ما كررتها حديثا حالة حزب الله اللبناني ولكن تورطه بعد ذلك في المشهد السوري كرأس حربة طائفية ضد ثورة الشعب السوري، كشف المستور عن دور هذا الحزب المشبوه طائفيا.

غير ذلك لم يسجل للحالة الشيعية أي حضور كقوى ثورية واجتماعية تقف ضد المستعمر الغربي، كما هو الحال في الحالة اليمنية حيث قاد زعماء الزيدية حروبا ضارية ضد الوجود العثماني التركي في اليمن، بينما لم تسجل لها أي محاولة لمواجهة الاستعمار البريطاني الذي ظل مستعمرا لجنوب اليمن لأكثر من قرن من الزمن.

بل ما يوضح لنا حقيقة العلاقة بين الإمامة الزيدية والمستعمر هو تنازل الإمام يحيي عن بعض المناطق التي كانت بيد سلطته كالضالع وبيحان وغيرها، بل إقامة علاقات تعترف للبريطانيين بسيادتهم على جنوب اليمن.

لذا لم يكن مستغربا الاندفاع اليمني لتحرير الجنوب المحتل من قبل البريطانيين بمجرد ما قضت ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 على نظام الإمامة الزيدية في شمال اليمن، حيث انفجرت بعدها مباشرة ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963 ضد البريطانيين، في دلالة واضحة للتواطؤ الإمامي مع المستعمر.

لم يتوقف الأمر هنا في قصة التحالف الغربي الشيعي غير المعلن، فقد كشفت الحالة اليمنية حقيقة ذلك التحالف خلال الحرب الجمهورية الملكية، حيث انبرت كل الدول الغربية لدعم عودة نظام بيت حميد الدين الذي نبذه اليمنيون.

ولقد وصلت مرحلة الدعم إلى إرسال الغرب لخبرائه لقيادة المعارك ضد الثوار الجمهوريين، بل وصل الأمر إلى مشاركة الطيران الإسرائيلي حينها في ضرب أهداف ومواقع الجمهوريين كما ذكر فريد هاليدي في كتابه الشهير "الصراع السياسي في جزيرة العرب"، بل حتى تم تمويل مرتزقة كبار في تلك الحرب كالمرتزق الشهير بوب دينار وغيره من المرتزقة الذين شاركوا في حروب الإمامة الشيعية ضد ثوار اليمن الجمهوريين.

حديثا تتجلى حالة اليقين في وجود علاقة ما بين الشيعة بالمرجعية الإيرانية والغرب عموما على حساب مصالح العرب، من خلال ما نلاحظه في تعاطي دول الغرب مع ما بات يعرف بملف الإرهاب الذي لا يقصدون به سوى الحالة السنية، ومحاولة إلصاق هذه التهمة بها فحسب.

أمر آخر لافت في هذا الجانب، تجلى بأكذوبة برنامج العراق النووي الذي هدف لضرب العراق وتصفيته كقوى إقليمية عربية حينها، فيما برنامج إيران النووي يتم التعامل معه بنفس طويل امتد لعقدين وسينتهي بالاعتراف لها بذلك.

في الحالة اليمنية مثلا، ترفع جماعة الحوثي الشيعية شعاراتها المعادية صراحة للغرب الأميركي وإسرائيل، فيما لم يسجل لهذه الجماعة أي عمل عسكري ضد الغرب والمصالح الأميركية، وتركز كل أعمالها المسلحة ضد اليمنيين فقط، وفي المقابل لم تحظ هذه الجماعة بأي إدانة أو حتى التفكير بمجرد الإدانة، لممارساتها الإجرامية في حق اليمنيين من قتل وتهجير وتشريد وتوسع عسكري على الأرض.

لم يعد خافيا على أحد، مدى متانة العلاقة القائمة بين الغرب والحالة الشيعية الراهنة وإن لم يتم التعبير عنها، فمؤشراتها أوضح بكثير، فما جرى ويجري في الحالة العراقية منذ سقوط بغداد في أبريل/نيسان 2003 مثال واضح عليها

بل ما يشير لحقيقة العلاقة غير المعلنة بين هذه الجماعة والقوى الغربية، هو فرضها غربيا كقوى رئيسية في مؤتمر الحوار الوطني، دون أي شروط عليها مقابل ذلك، كتسليم الأسلحة الثقيلة، وهو ما شجعها للقفز فوق مخرجات الحوار والانطلاق للتوسع المسلح على الأرض، في ظل صمت قاتل من قبل المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة التي ترعى عملية الانتقال السياسي في اليمن.

***

أما في هذه المرحلة فلم يعد خافيا على أحد، مدى متانة العلاقة القائمة بين الغرب والحالة الشيعية الراهنة وإن لم يتم التعبير عنها، فمؤشراتها أوضح بكثير. منها ما جرى ويجري في الحالة العراقية منذ سقوط بغداد في أبريل/نيسان 2003، حيث تحالف الأميركيون مع القوى الشيعية منذ اللحظة الأولى ودُفع بهم للسيطرة على مقدرات السلطة في العراق.

والأخطر فيما جرى في المشهد العراقي، هو الإصرار الغربي والأميركي تحديدا على التعامل مع الحالة الشيعية باعتبارها تمثل أغلبية، فيما السنة أقلية، وهي الحقيقة التي لا أساس علميا لها، فالسنة أكثرية في العراق بالنظر إلى أن السنة يشملون حتى الأكراد وليس فقط العرب.

التوافق الشيعي الأميركي في العراق لم يكتف بتهميش العرب السنة فحسب، بل أيضا الشيعة العرب غير الموالين لولاية الفقيه "الإيرانية" كتيار الخالصي والصرخي وغيرهم.

لكن يبقى موقف المراجع الشيعية العليا كالسيستاني والحكيم الصامتة وغيرهم تجاه الاحتلال الأميركي للعراق 2003، كأوضح مثال على مدى حالة التوافق وربما التحالف بين الغرب والحالة الشيعية، وهو ما يتجلى بصورة أوضح بعد ذلك في عدم ضم أي فصيل شيعي لما بات يُعرف غربيا وأميركيا تحديدا بقائمة الجماعات الإرهابية، رغم الحالة الشعاراتية الصاخبة للجماعات الشيعية في ادعائها للمقاومة والعداء للغرب وإسرائيل.

ولا يفسر لنا ذلك سوى أن الغرب بات يدرك جيدا، أن الحالة السنية هي المهدد الحقيقي لمصالحه غير المشروعة في العالم العربي والإسلامي، وهي وحدها من تمثل المقاومة الحقيقية، ولذا سعى جاهدا إعلاميا إلى تشويه هذه الحالة واختراق بعضها الآخر مخابراتيا وتقديمها كعدو للعالم كله يجب التخلص منها بذريعة الإرهاب الممنتج غربيا.

***

أمر آخر في موقف الغرب من المسألتين الشيعية والسنية، وتفضيل الغرب للتعامل السياسي مع الحالة الشيعية، ينبع من حقيقة أن الشيعة جماعات تتمتع بولاء شديد لمراجعها الدينية، والذين من خلالهم تتم السيطرة على هذه الجماعات.

أمر آخر، يدرك الغرب أن الجماعات الشيعية هي أقليات في العالم العربي، وهو ما يسهل للغرب مهمة التعامل معها، وهي التي ترمي بثقلها السياسي بيد الغرب كحليف إستراتيجي، لا يمكن إخفاؤه من خلال حالة العداء الشعاراتي المعلن بين الطرفين.

حالة الرضا -وربما التحالف غير المعلن- بين الحالة الشيعية والغرب، لا ينفى وجود حالات شيعية شريفة ووطنية على مرِّ التاريخ، مثلما يعني أن الحالة السنية ليست وطنية وشريفة بالمطلق أيضا

ما يمكننا قوله هنا، أن حالة الرضا -وربما التحالف غير المعلن- بين الحالة الشيعية والغرب، لا ينفي وجود حالات شيعية شريفة ووطنية على مر التاريخ، مثلما يعني أن الحالة السنية ليست وطنية وشريفة بالمطلق أيضا، وهو ما بات واضحا لنا جميعا في ضوء تداعيات ثورات الربيع العربي، وما أفرزته من خارطة واضحة المعالم والآفاق لكل القوى والتوجهات.

هذه مجرد ملاحظات سريعة أضعها بين يدي الباحثين والأكاديميين لإثرائها بمزيد من النقاش لاستشراف تطورات الأحداث في المنطقة العربية واتخاذها منحى أكثر قتامة بتجلياته الطائفية "السياسية".

فيما جزء كبير من تعقيدات هذه المرحلة راجع لمحاولة خلط وتوظيف تلك الإشكاليات التاريخية للتغطية على حقيقة صراع نفوذ الهيمنة بين القوى الإقليمية والدولية، التي تحاول جاهدة رسم مسار الأوضاع في المنطقة بما يضمن مصالحها غير المشروعة، التي اقتضت كفران الغرب بديمقراطيته المبشر بها طويلا، ما دام أنها ستأتي بقوى ستعمل على إعادة ترتيب تلك المصالح على قاعدة الندية والشراكة والاحترام المتبادل.

هذه الملاحظات السريعة أضعها بين أيدي الباحثين والمهتمين، في ظل التقارب الأميركي الإيراني الراهن على حساب مصالح هذه الشعوب العربية وأمنها واستقرارها الذي يمثل تهديدا مباشرا للمصالح غير المشروعة لهاتين القوتين، مما يحتم عليهما جر هذه المنطقة بعيدا عن مربع الاستقرار السياسي بإشعال فتيل صراع التوازنات الطائفية -كنموذجي لبنان والعراق- التي تستنزف مقدرات المنطقة وتنسف وحدة نسيجها الاجتماعي واستقرارها السياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.