روسيا والحرب على غزة

Smoke and dust rise after an Israeli strike on a three-story building belonging to the Abdul Hadi family in Gaza City in the northern Gaza Strip, Sunday, Aug. 24, 2014. (AP Photo/Adel Hana)
أسوشيتد برس

ما هو الموقف الروسي من الحرب الصهيونية على قطاع غزة؟ هل اتخذت موقفا؟ هل أدانت؟ هل تحركت من أجل وقف العدوان؟

بعكس الوضع في سوريا حيث أصبحت روسيا "الحامي لقوى الممانعة" والذي يواجه "المؤامرة الإمبريالية"، لم يظهر أي موقف جدي لروسيا فيما جرى في غزة.

يدفع هذا لطرح السؤال حول الموقف الحقيقي من الدولة الصهيونية، التي كانت أول من اعترف بها منذ أن كانت "الاتحاد السوفياتي"، لكنها ظهرت حين كانت الاتحاد السوفياتي كداعم لحركة التحرر العربي، والذي أمدّ العرب بالسلاح الذي كان يجب أن يواجه به الوجود الصهيوني.

وبالتالي فإنها كانت في ظل الاتحاد السوفياتي حليفا حقيقيا ضد الإمبريالية، وضد "التوسعية الصهيونية"، وتلك المرحلة شهد فيها العالم الحرب الباردة، والصراع بين "الاشتراكية والرأسمالية"، حيث تشكّل التحالف العالمي ضد الإمبريالية والنظام الرأسمالي بين الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية والطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية وحركة التحرر الوطني، باسم تحالف الشعوب ضد النظام الرأسمالي.

رغم أن روسيا وافقت في النهاية على التدخل الغربي في ليبيا، إلا أنها بدأت تفرض نفسها كقوة عالمية بعد انطلاق الثورة في سوريا، حيث رفضت التدخل الغربي هناك قبل أن تنكفئ على نفسها بعد ما جرى في أوكرانيا

لكن انهيار الاتحاد السوفياتي أدى إلى تحكم الرأسمالية في روسيا، أولا في شكل مافيا نهبت كل ملكية الشعب التي كانت تحت سيطرة الدولة، وكان يبدو من خلال التهافت للتحالف مع الإمبريالية الأميركية من قبل المافيا التي نظرت إليها من منظور تبعي، أن أميركا تريد تدمير روسيا وليس تطورها، هذا ما انعكس بعدئذ في تحوّل روسيا لفرض وجودها كقوة عالمية بعد أن بات يُنظر إليها من قبل "الغرب" لدولة عالمثالثية، وهي المرحلة التي ارتبطت باسم فلاديمير بوتين، الذي عمل على إعادة بناء روسيا كقوة عالمية، لكن في وضع عالمي لم يكن مؤاتيا نتيجة ميل الإمبريالية الأميركية للسيطرة على العالم بعد أن ضمنت انهيار الاتحاد السوفياتي وتهميش روسيا.

لكن الأزمة المالية التي حدثت سنة 2008 فتحت المجال لتغيّر سمح لروسيا بأن تطمح لأن تفرض ذاتها قوة عالمية، ومكافئا للإمبريالية الأميركية.

لم يظهر ذلك بوضوح إلا من خلال الوضع السوري بعد انطلاق الثورة في 15 مارس/آذار سنة 2011، بعد حماس لما جرى في تونس ومصر وارتباك لما جرى في ليبيا، حيث وافقت على التدخل "الغربي" فيها، رغم كل مصالحها في ليبيا. وهذا ما اعتبر خطأ مارسته دفعها لأن تأخذ موقفا متشددا في سوريا.

ولا شك في أن أساس هذا الموقف مصالح اقتصادية باتت تطمح لأن تجنيها، توضحت في الاتفاقات التي جرى توقيعها في صيف سنة 2012.

كما أن روسيا اعتبرت أن الوضع السوري هو المفصل الذي يجب أن يميّز بين زمنين، وعالمين، بمعنى أنها قررت أن تعيد الثنائية القطبية، أو أن تتوافق مع أميركا في قيادة مشتركة للعالم، ولهذا دافعت عن النظام السوري بقوة وتشدد، لم يكن يزعج أميركا رغم أنه كان يبدو أنه ضدها، حيث لم تكن أميركا معنية بدعم الثورة بل بسحقها. ولهذا كان الفيتو الروسي في مجلس الأمن يغطي على موقفها الحقيقي.

إذن، فقد كانت سوريا هي المفصل لمحاولة روسيا أن تفرض ذاتها قوة عالمية مقررة، لكنها تورطت في أوكرانيا بعد انفجار الثورة فيها وسقوط حليفها، متهمة الغرب بالتآمر والتدخل، ولهذا ظهر في الأشهر الأخيرة أنها تغيب عن متابعة الوضع السوري، وظهر أن الأمور تفلت منها لمصلحة دول إقليمية (إيران والسعودية)، ومن ثم فإن المقرر في الوضع السوري باتت إيران وليست هي.

في هذا الوضع بدأت الحرب على قطاع غزة، فظهر الغياب الروسي، حيث لم تفعل شيئا واضحا، وكانت في صفّ إدانة حركة حماس والإرهاب. هذا يطرح السؤال حول الموقف الروسي من الدولة الصهيونية. هل يمكن استرجاع الموقف السوفياتي الذي كان يدعم الفلسطينيين؟ أم إن التحوّل الرأسمالي في روسيا قد أوجد تصورا آخر من منظور الرأسمالية ذاتها؟ وبالتالي هل يمكن أن نتوقع موقفا روسيا في صفّ العرب ضد الدولة الصهيونية كما كان زمن الاتحاد السوفياتي، وإنْ كان لا يصل إلى إنهاء الدولة الصهيونية؟

نلاحظ أن بوتين بعد أن عاد رئيسا كانت زيارته الأولى إلى الدولة الصهيونية، ولا شك أن لهذا معنى ومغزى، فهو يشير إلى اختياراته، ويوضّع اهتمامه، كما في كل العلاقات الدولية

سنلاحظ بأن بوتين بعد أن عاد رئيسا كانت زيارته الأولى إلى الدولة الصهيونية، ولا شك أن لهذا معنى ومغزى، فهو يشير إلى اختياراته، ويوضّع اهتمامه، كما في كل العلاقات الدولية.

ورغم أن بوتين طمح ويطمح لأن تصبح روسيا هي القوى المسيطرة في الوطن العربي، من سوريا إلى العراق إلى مصر إلى ليبيا وبقية المغرب العربي، وحتى الخليج، فإن الزيارة هذه تشير إلى أن للعلاقة مع الدولة الصهيونية خصوصية ما.

لقد سعى بوتين للاستحواذ على سوريا وقنص مصر والتغلغل في العراق واستعادة ليبيا، لكن كل ذلك لا يغني عن طرح السؤال حول العلاقة مع الدولة الصهيونية. هل تريد روسيا تحقيق مصالحها في العلاقة مع العرب، أم إنها تريد توطيد علاقتها بالدولة الصهيونية وكسب ما تستطيع في الوطن العربي؟

الحرب الصهيونية على قطاع غزة ربما تعطي مؤشرا. ربما هنا لم يختلف الموقف الروسي عن الموقف الأميركي، وهذه مسألة ملفتة، حيث أظهرت روسيا أنها في صفّ العرب ضد أميركا خلال الثورات في البلدان العربية، حتى أنها ظهرت كمدافع عن حسني مبارك وبن علي، ولقد كررت "نظرية المؤامرة". إذن ما الذي يجعلها تتخذ هذا الموقف؟

في المقابل نجد الاهتمام الصهيوني بالعلاقة مع روسيا، حيث تكررت زيارات نتنياهو إليها، وظهر الانسجام في هذه العلاقة، وظهرت تحليلات تشير إلى الحاجة للاعتماد على روسيا كبديل عن أميركا، في وضع تتلمّس الدولة الصهيونية تراجع اهتمام أميركا في المنطقة كما أشرنا مرارا. وهذا يدفع أيضا لطرح السؤال: هل يمكن أن تكون روسيا البديل؟

لا أشك في أن روسيا تريد أن تعود إلى الوطن العربي، وأن تجد أسواقا فيه، وأن توجد "حلفاء" لها. لكن يجب أن نتلمّس هل ستعتبر الدولة الصهيونية هي المرتكز الذي يمكن أن تعتمد عليه؟ ما يساعد على طرح هذا السؤال شعور الروس بأن النظم العربية كانت تتعامل مع روسيا من أجل التقرّب من أميركا، وأن النظم العربية اعتادت على التعامل التجاري الذي ترسّخ في حقبة الاتحاد السوفياتي، أي دون دفع مالي.

يجب ألا ننسى أن روسيا الآن هي ليست الاتحاد السوفياتي بغض النظر عن كل أخطائه ومنزلقاته، خصوصا في القضية الفلسطينية، وأنها دولة إمبريالية تتنافس مع الإمبرياليات الأخرى في السيطرة والنفوذ

ربما ما يجب التنبه له هو أنه في الدولة الصهيونية نصف مليون روسي ليسوا يهودا، وهؤلاء في ترابط مع المافيا الروسية، التي هي قوة مؤثرة في السلطة الروسية. وهم كذلك، مع اليهود الروس، عنصر مؤثر في الدولة الصهيونية. وهو العنصر الذي يزداد تأثيرا في مسار الدولة، ويمكن أن يفضي التدقيق إلى الوصول إلى نتيجة هي أن علاقة هؤلاء بروسيا يمكن أن تزيد من تأثيرهم الداخلي، وهذا ما يعززه حاجة الدولة الصهيونية لـ "حام" دولي.

في هذه الوضعية يمكن أن تكون الإستراتيجية الروسية قد بنيت على ذلك، بالتالي تأسس الطموح لأن تكون الدولة الصهيونية هي مرتكز الروس في العلاقة مع الوطن العربي، ولذا فهي لا تدين الآن الهمجية الصهيونية، وتبدو غائبة بعد أن أظهرت كل "عضلاتها" في الوضع السوري.

يجب ألا ننسى بأن روسيا الآن هي ليست الاتحاد السوفياتي بغض النظر عن كل أخطائه ومنزلقاته، خصوصا في القضية الفلسطينية، وأنها دولة إمبريالية تتنافس مع الإمبرياليات الأخرى في السيطرة والنفوذ.

وبالتالي سيعاد المنظور الإمبريالي الذي حكم علاقة القوى الإمبريالية القديمة بالمنطقة لينتج في روسيا الإمبريالية. بمعنى أن روسيا لم تعد تدعم التحرر والاشتراكية، بل تدعم القوى التي يمكن أن تسيطر عليها في إطار التنافس مع الإمبرياليات الأخرى.

ولهذا، إذا كان الاتحاد السوفياتي قد دعم تحرر المنطقة واستقلالها وتطورها، فإن روسيا تريد تكريس النمط الاقتصادي القائم لكي تستطيع الربح، ومن ثم تريد استمرار التفكك والضعف الذي تعيشه المنطقة. هي تريد وراثة المنطقة كما صاغتها القوى الإمبريالية، وليس دعم التحرر من هذه الصياغة. في هذه الوضعية يتحدد موقع الدولة الصهيونية بالتالي كما كان في المنظور الإمبريالي القديم، وهذا ما تؤشر عليه الحرب على غزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.