أمن الطاقة في أزمة اجتياح "داعش" للعراق

A worker adjusts the valve of an oil pipe at West Qurna oilfield in Iraq's southern province of Basra in this November 28, 2010 file photo. China National Petroleum Corp (CNPC) has emerged as the frontrunner to take over Iraq's West Qurna-1 oilfield from Exxon Mobil, a move that would diminish Western oil influence in Iraq a decade after the U.S.-led invasion. REUTERS/Atef Hassan/Files (IRAQ - Tags: BUSINESS ENERGY)

ارتباكات عالمية
انتهازية حكومة كردستان
ثروات عراقية مهدرة

في خضم التداعيات الإستراتيجية الخطيرة والمتنوعة لتوغل تنظيم "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) في العراق، يطل برأسه البعد الخاص بأمن الطاقة بمستوياته المختلفة عراقيا وإقليميا وعالميا.

ارتباكات عالمية
لما كان العراق واحدا من أكبر دول العالم في إنتاج النفط، حيث يعد ثاني أكبر منتج للبترول داخل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) بواقع 3.37 ملايين برميل في اليوم، كما يملك أكثر من 11% من الاحتياطيات المؤكدة للذهب الأسود في العالم تقدر بـ140.3 بليون برميل و3158 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، فمن شأن أية اضطرابات تجتاح العراق أن تؤثر على إمداداته التي اعتاد سوق النفط العالمي على استقبالها والتوازن بفضلها.

وبدأت تبرز على أرض الواقع الانعكاسات الدولية لأزمة "داعش" بالعراق في ما يتصل بأمن الطاقة في ملامح عدة، أبرزها ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية إلى أعلى مستوى لها منذ تسعة أشهر، وسط مخاوف متنامية من تأثير تطورات الأوضاع القلقة في العراق على الإمدادات العالمية من النفط، خصوصا بعد أن ارتفعت أسعار برنت الخام بنسبة 3% لتصل إلى 113.27 دولارا للبرميل، واكتسب الخام الأميركي أكثر من 2% ليصل إلى 106.71 دولارات للبرميل، في أعلى مستوى لهما منذ شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي.

بدأت تبرز على أرض الواقع الانعكاسات الدولية لأزمة "داعش" بالعراق في ما يتصل بأمن الطاقة في ملامح عدة، أبرزها ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية إلى أعلى مستوى لها منذ تسعة أشهر

ومن المتوقع أن تتفاقم الآثار السلبية للأزمة عالميا نتيجة تزامنها مع استمرار تعقد الموقف بالأزمة الأوكرانية وما تخلفه من تداعيات خطيرة على سوق الغاز العالمية، خصوصا بعدما قلصت موسكو كمية الغاز الطبيعي التي تضخها عبر أوكرانيا، في الوقت الذي تراجعت فيه معدلات الإنتاج مؤخرا في بعض الدول الأوروبية المنتجة للغاز كبريطانيا والنرويج.

وبالتوازي، امتد تأثير التطورات المتسارعة في العراق سلبا ليصيب أسواق المال العالمية، إذ شهدت سوق الأسهم في الولايات المتحدة انخفاضا ملفتا في الأيام القليلة المنقضية، وكذلك انخفضت مؤشرات البورصة بدول آسيوية عديدة في التداولات الأولى لها.

وفي السياق ذاته، شكك الرئيس التنفيذي لـ"بلاك روك" -أكبر مدير أصول في العالم- في إمكانية تحقيق الهدف الذي تتطلع إليه شركته لبلوغ نمو سنوي بنسبة 5% للأصول التي تديرها الشركة، وذلك على خلفية الصراع المحتدم في الشرق الأوسط وتأزم الوضع في العراق على نحو أفضى إلى ارتفاع أسعار النفط عالميا، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على ثقة المستثمرين.

عربيا، سجل الأداء العام للبورصات العربية حالة من الضعف والتراجع، شملت قيمة التداولات والأسعار السائدة وحجمها، بينما غابت قدرة المؤشرات السعرية على الارتداد أو التماسك بعد كل تراجع، مما أدى إلى تسجيل تراجعات لجلسات متتالية وعمليات بيع كثيفة تكبدت البورصات معها خسائر كبيرة، وكان ملفتا تسجيل تراجع لأغلبية الأسهم المتداولة، مما يشير إلى سيطرة حالة عامة من التراجع في الثقة الاستثمارية وارتفاع مستوى الضغوط السوقية التي تؤدي في معظم الأحيان إلى تشتيت القرارات الاستثمارية المتوسطة وطويلة الأجل، وتعزيز سيطرة التداولات قصيرة الأجل التي تتسم بعدم الاستقرار.

انتهازية حكومة كردستان
بينما كان العالم ينتفض هلعا نتيجة الآثار السلبية الخطيرة المرتقبة على خلفية تغلغل تنظيم "داعش" في العراق، عكفت حكومة إقليم كردستان على تحري كافة السبل الممكنة لتعظيم استفادتها من هذا الحدث الجلل، فكانت مساعيها الحثيثة لتغيير الأوضاع على الأرض بما يعزز استقلالية الإقليم التامة عن بغداد، خصوصا أن كردستان العراق يتمتع بالعديد من خصائص وركائز الدولة المستقلة، كتمتعه بالحكم الذاتي منذ ما يربو على عشرين عاما، فضلا عن البرنامج الخاص لمنح تأشيرات الدخول.

لذا، استغل الأكراد الفوضى الناجمة عن هجوم "داعش" وقاموا بتحريك قوات البشمركة التابعة لهم إلى مناطق متنازع عليها مع بغداد، وأحكموا السيطرة عليها، مدعين أنها جزء تاريخي من كردستان العراق.

وكان من أهم تلك المناطق إقليم كركوك، الذي شهد حفر أول بئر نفطية في البلاد عام 1927، وفي أراضيه رابع أكبر حقل نفط في العراق، ويسهم حاليا وحده بنحو نصف إنتاج البلاد من النفط، والأدهى من ذلك أن حكومة كردستان قامت بربط أنابيب النفط الخاصة بكركوك بخطوط النفط الخاضعة لسيطرة الإقليم.

بينما تمثل مبيعات النفط الخام أكثر من 75% من إجمالي الناتج المحلي وأكثر من 90% من الموارد المالية للدولة العراقية -بحسب صندوق النقد الدولي- ليس بمقدور العراقيين تعظيم استفادتهم من تلك الثروات

وبينما أعرب الجيش العراقي عن قلقه من الخطوة، التي وصفها علي غيدان مجيد قائد القوات البرية العراقية بـ "التطور الخطير"، أكد الأكراد أن سيطرتهم على كركوك جاءت بدعوة من الحكومة العراقية، التي تتخوف بدورها من نجاح حكومة كردستان في تثبيت الأوضاع التي غيرتها لمصلحتها على الأرض، والتي ضخت الشركات الأجنبية الكبرى العاملة في كردستان العراق باستثمارات هائلة فيها طيلة السنوات الماضية، ولا يمكن أن تضحي بها تحت أي ظرف حتى لو كان إعلان كردستان استقلاله التام عن العراق.

وفي سبيل بلوغ مقاصده تلك، لم يتورع إقليم كردستان العراق عن تكريس فكرة تقسيم العراق على أساس طائفي ومذهبي كمخرج من أزمة هجوم "داعش" الحالية.

فقبل أيام، أكد رئيس وزراء الإقليم نجيرفان البارزاني أن "العراق قد لا يبقى موحدا، وسيكون من الصعب عليه العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، على الموصل وتكريت ثم تلعفر"، مؤكدا أن "تأسيس منطقة سنية تتمتع بالحكم الذاتي قد يكون حلا ملائما للخروج من هذه الأزمة مثلما هو الحال مع إقليم كردستان".

وفي الوقت الذي يجاهد فيه العراق -ومن خلفه العالم أجمع- لتقويض نشاط المتشددين الإسلاميين من تنظيم "داعش" والحيلولة دون انزلاق البلاد -بل والمنطقة برمتها- إلى أتون حرب طائفية، لا يألو إقليم كردستان جهدا في زيادة صادرات النفط من المناطق المتنازع على ملكيتها مع بغداد عبر ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط بشكل مستقل ودون موافقة السلطة المركزية في بغداد. وهي الخطوة التي أقدمت عليها حكومة كردستان العراق بالتوافق مع تركيا في مايو/أيار الماضي، لتصدير مليون برميل من النفط شهريا عبر خط أنابيب كركوك-جيهان.

كما ذكرت الحكومة -في بيان نشرته بموقعها على الإنترنت- أن الصادرات سترتفع إلى أربعة ملايين برميل الشهر المقبل ثم إلى ستة ملايين برميل في الشهر الذي يليه لتصل في نهاية العام الجاري إلى ما يتراوح بين 10 و12 مليون برميل شهريا.

ورغم أن تهديد بغداد بوضع أسماء المشترين للنفط الكردستاني دون الرجوع إليها على اللائحة السوداء، علاوة على رفعها دعوى قضائية ضد الشركة التركية المشغلة لخطوط الأنابيب، التي تنقل النفط من كردستان إلى الأسواق العالمية عبر ميناء جيهان التركي، عقب تحميل أول ناقلة نفط تدعى "يونايتد ليدرشب" أمام غرفة التجارة الدولية للتحكيم، قد أحجم كثيرا من الدول المشترية للنفط عن التعامل مع خطوط كردستان النفطية المستقلة الجديدة، فإن دولا كإسرائيل والولايات المتحدة لم تتورع عن المضي قدما في استيراد نفط كردستان سرا عبر تركيا ومن خلال ناقلات بحرية دولية، حسبما أوردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية.

وأكدت الصحيفة أن مصافي نفط إسرائيلية وأميركية انضمت إلى قائمة مستوردي النفط الخام من كردستان العراق، الذي لا يزال إصرار حكومة الإقليم على تصدير كميات قليلة منه عبر شاحنات برية يلقى قبولا لدى بعض المشترين المحتاجين إلى نفط متميز بأسعار أقل.

أما تركيا التواقة لاستغلال مقدراتها اللوجستية وإمكانياتها الجيوإستراتيجية لجني ثمار لعب دور الممر الآمن والحيوي لمصادر الطاقة، فيبدو أن احتياجاتها المتزايدة إلى مصادر الطاقة التي تفتقر إليها قد ألقت بظلالها على موقفها من غزو "داعش" للعراق، حيث رهنت مواقفها في هذا الصدد بقيادة القوى الكبرى وحلف الناتو لزمام المبادرة، بينما لم تتوقف شركة "بوتاس" التركية عن مواصلة تصدير النفط الكردستاني عبر أراضيها وموانئها.

ثروات عراقية مهدرة
رغم ثروته النفطية الهائلة، لا يستطيع العراق -حكومة وشعبا- الاستفادة من عوائد تلك الثروة بسبب أجواء عدم الاستقرار السياسي والأمني والمجتمعي التي تخيم عليه منذ الحرب العراقية الإيرانية التي دارت رحاها خلال الفترة 1980-1988، مرورا بغزو العراق للكويت عام 1990، ومن بعد ذلك الاحتلال الأنجلوأميركي للعراق عام 2003، وصولا إلى تغلغل "داعش" المربك في ربوعه هذه الأيام.

فبينما تمثل مبيعات النفط الخام أكثر من 75% من إجمالي الناتج المحلي وأكثر من 90% من الموارد المالية للدولة العراقية -بحسب صندوق النقد الدولي- ليس بمقدور العراقيين تعظيم استفادتهم من تلك الثروات.

يبقى أمن الطاقة أحد أبرز العوامل المحركة لمواقف الأطراف المحلية والقوى الإقليمية والدولية تجاه تغلغل تنظيم "داعش" في جنباته، وما تمخض عنه من اضطرابات

فقد أسفرت البيئة غير المستقرة التي تخيم على بلادهم عن النيل من أمن عملية تدوير الطاقة عبر تدمير وتعطيل جانب ليس بالهين من البنية الأساسية لإنتاج وتصدير نفطهم من حقول الإنتاج والمصافي النفطية، علاوة على خطوط الأنابيب كذلك التي تربط كركوك بمرفأ جيهان التركي ويصدر عبر مصافي الجنوب الواقعة على الخليج خاصة في البصرة، والذي يعود بناؤه إلى عام 1976، ويمكن أن ينقل عبره خمسمائة ألف برميل في اليوم، والذي توقف نشاطه منذ الثاني من مارس/آذار الماضي بعد استهداف جماعات جهادية له.

وعلاوة على ما يمثله النزاع بين بغداد ومنطقة كردستان العراقية -التي تتمتع بحكم ذاتي- إضافة إلى تركيا، من تأثير سلبي على الصادرات النفطية العراقية، فقد شكل هجوم قوات "داعش" على مصفاة "بيجي" لتكرير النفط والواقعة في قضاء بيجي والتي تبلغ الطاقة الإنتاجية لها حوالي ستمائة ألف برميل يوميا بما يعادل أكثر من ربع قدرات البلاد في تصفية النفط، ويذهب إنتاجها كله للاستهلاك المحلي كإنتاج البنزين والزيت والوقود، وإعلان داعش سيطرتها على 75% من منشآت المصفاة، شكل ضربة قوية لاقتصاد النفط العراقي.

وفي مسعى منها لوقف نزيف الخسائر قدر المستطاع، تحركت الحكومة العراقية في مسارين: أحدهما عسكري بمهاجمة مقاتلي داعش واستعادة السيطرة على أكبر مصفاة للنفط العراقي كما أعلنت من قبل.

أما المسار الآخر فهو قانوني، فبعدما جددت الولايات المتحدة رفضها تصدير نفط كردستان عبر تركيا دون الحصول على موافقة الحكومة العراقية الاتحادية، أعلنت حكومة بغداد أنها بصدد مقاضاة الجمهورية التركية والشركة التركية الحكومية المسؤولة عن تشغيل أنابيب النفط "بوتاس" لدى غرفة التجارة الدولية بباريس بسبب اتفاقها مع حكومة كردستان العراق على تصدير نفط عراقي من مناطق تتبع حكومة بغداد المركزية دون موافقة الأخيرة أو تخويل من الجهات العراقية المعنية.

وعلاوة على ما ذكر آنفا، يبقى أمن الطاقة -بغير جدال- أحد أبرز العوامل المحركة لمواقف الأطراف المحلية داخل العراق، كما لردود أفعال القوى الإقليمية والدولية تجاه تغلغل تنظيم "داعش" في جنباته، وما تمخض عنه ذلك من اضطرابات لا تخلو عواقبها من احتمالات نشوب حرب أهلية أو اندلاع مواجهات طائفية تجتاح المنطقة برمتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.