الثورة السورية بين التقدم والتعثر

سوريات يرفعن أعلام الثورة السورية - تعليم العربية

هوامش التداخل
مسار التطور
من التنظيم إلى الزوال
أولوية التحرك

لم يكن الإعلان في أبريل/نيسان 2013 عن ولادة كيان مسلح جديد مناهض لنظام الأسد بالتطور النوعي، غير أن سيرة هذا الكيان الوليد تحت اسم" تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" جعلت من تاريخ ذلك الإعلان نقطة تحول في مسار الخارطة العسكرية لقوى الثورة.

هوامش التداخل
لو حدث أن دخلت بلباسك العسكري الشمال السوري الخاضع بأغلبه لسيطرة الثوار ستلحظ بسهولة الألوان الثلاثة للطيف الثوري المسلح، فالمقاتل لا يخرج عن واحد من الأطر الثلاثة: الجيش الحر، جبهة النصرة، والكتائب الإسلامية وعلى رأسها الجبهة الإسلامية، وفي وقتٍ سابق كان تنظيم الدولة الإسلامية بمثابة طيف رابع لم يلبث أن تبدد ليتحول إلى خصم للثوار.

وكثيرا ما تقوم الدراسات المتناولة للشأن السوري ببحث الجانب الخارجي للعلاقات الفاعلة في واقع الصراع، لترد أسباب الانقسام العسكري في قسم كبير منه لسياسات الداعمين ومصالح الدول صاحبة النفوذ، في ممارسة لنوع من التسطيح للمشهد الداخلي بشكل مخلّ تضيع معه أبعاد الواقع المجتمعي السوري بما يحمله من خصوصية ثقافية وطبيعة مرحلية ودوافع النشأة ومسار التطور. ونريد هنا أن نسلط الضوء على الواقع المحلي والتفاعل السوري الداخلي.

لم يكن حمل السلاح فكرة فقط بل كان مزاجا شعبيا أفرزته ضرورة البقاء والحاجة للأمان، ظهرت عدة محاولات لتأطيره، وسرعان ما تشكلت الكتائب المسلحة، تبعتها محاولات تنظيم العلاقة بين التشكيلات في أطر تنظيمية

نعم، الطيف الثلاثي يشير إلى حصول شكل من أشكال التمايز في الحراك الثوري المسلح على الصعيد التنظيمي، ومع الإقرار بوجود تباينات فكرية جديرة بالاعتبار إلا أنه لا يسعنا أن نطلق القول بوجود انقسام بما يوحي بغياب التقاطعات وبسيطرة الندية على طبيعة العلاقة البينية، وذلك لاعتبارات عدة منها أن الطيف الثلاثي أتى بعد تشكيل الفصائل المسلحة لا قبلها، فهو بحد ذاته تعبير عن نزعة التوحد أكثر من كونه تعبيرا عن التشرذم أو الانقسام.

ومنها أيضا وجود التداخلات التنظيمية الواضحة في واقع غرف العمليات العسكرية المشتركة، ووجود مرجعيات قضائية مشتركة، وكثرة التقاطعات في الرايات والشعارات بما يحاكي وجود قاعدة فكرية واحدة تمثل هوية المجتمع العميقة وحقيقة انتمائه الثقافي.

مسار التطور
لم يكن حمل السلاح فكرة فقط بل كان مزاجا شعبيا أفرزته ضرورة البقاء والحاجة للأمان، ظهرت عدة محاولات لتأطيره، وسرعان ما تشكلت الكتائب المسلحة، تبعتها محاولات تنظيم العلاقة بين التشكيلات في أطر تنظيمية عدة منها هيئة الأركان، وحققت تلك المحاولات غايتها بنسب متفاوتة.

ولكن المؤكد أنها لم تستطع تحقيق تقارب فكري بين المناهج الحركية المتصارعة حينا والمتقاطعة أحيانا، بل ربما لم تسع لإيجاد منهج حركي قادر على استيعاب الحالة السورية، في حين اقتصر الاهتمام على تطوير الجانب الإداري انطلاقا من القاسم المشترك العام المتمثل في علم الثورة وشعاراتها وعلى رأسها "الشعب يريد إسقاط النظام".

يمكننا إيجاز التحولات التي مرت بها الخارطة العسكرية في أربعة منعطفات رئيسية لو سلمنا جدلا بأن بداية الثورة المسلحة كانت مع الإعلان عن تشكيل لواء الضباط الأحرار بقيادة المنشق حسين هرموش في يونيو/حزيران 2011 وظهور علم الاستقلال.

يتمثل التبدل الأول في الخارطة بظهور الراية السوداء في يناير/كانون الثاني 2012 بالإعلان عن "جبهة النصرة لأهل الشام" والتي فتحت الطريق لحملة الفكر الإسلامي بدخول الثورة المسلحة تحت راية دينية قد تختلف من كتيبة لأخرى، فيظهر فيها خاتم النبوة أو عبارة التوحيد أو مجرد اسم الكتيبة، إنما يجمعها اللون الأسود بما يحاكي راية الرسول.

وفي أبريل/نيسان 2013 جرى الإعلان عن ولادة "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" نتيجة انقسام تنظيمي في جبهة النصرة نتج عنه التصريح من كليهما بالانتماء لتنظيم القاعدة الأم، بما في هذا الإعلان من تعبير عن تضخم الصراع ووصول المشاريع العابرة للقارات، ليكون هذا الانقسام هو التبدل الثاني في الخارطة، ولتكون النتيجة هي ظهور ثلاث رايات سوداء بعد أن كانت واحدة: الدولة والنصرة والكتائب الإسلامية محلية الاهتمام.

وفي سبتمبر/أيلول 2013 وقع الصدام المباشر بين تنظيم الدولة وبين لواء عاصفة الشمال التابع للجيش للحر كتعبير عملي عن انتهاج الدولة منهج العداء للحر بالمطلق، وبدعوى انحراف العقيدة لا السلوك، ليكون التبدل الثالث في الخارطة مع إعادة تعريف الخصوم لدى التنظيم، نتج عنه بعثرة صفوف الحر في الشمال وتجميد طاقته بإخراجه من دائرة التأثير في معركة التحرر.

يمثل ظهور الرايات السوداء في يناير/كانون الثاني2012 بالإعلان عن "جبهة النصرة لأهل الشام" والتي فتحت الطريق لحملة الفكر الإسلامي بدخول الثورة المسلحة تحت راية دينية منعطفا مهما في مسار الثورة

أما التبدل الرابع فهو مع معركة الأتارب في يناير/كانون الثاني 2014 والتئام أطياف الثورة المسلحة والمدنية على نبذ التنظيم باعتباره خصما كما نظام الأسد، وكانت نتيجة ذلك ضمور نفوذ الدولة وعودة نشاط الحر ورفع الزخم الثوري للحراك.

من التنظيم إلى الزوال
استطاع تنظيم الدولة أن يقطع أشواطا بمشروعه، حاول من خلالها محاكاة عنوانه فأنشأ محاكم شرعية للفصل في مشاكل الناس تميزت بسرعة الأداء لتوافر الخبرة بتحديات الحروب، واستطاع إنشاء جهاز شرطة لضبط الأمن عن طريق انتشار الحواجز بكثافة مدعومة بالسلاح الثقيل، وأصدر لائحة بقوانين التعليم، واستحدث نظاما ضريبيا جرى تطبيقه عند المعابر الحدودية القريبة من نفوذه، ودعا للانضمام إلى المشروع السياسي عبر تقليد البيعة وإقامة هيكل تنظيمي لجسم الدولة يرأسه مجلس شورى بزعامة البغدادي.

وأخيرا أعلن الخلافة مستغلا موجة الإقبال التي حملتها أحداث العراق فاتحة عليه أبوابا لا شك أنها ستغلق بمجرد اقتراب القوم هناك من تسوية سياسية ما، تلوح في الأفق.

لم يغن كل ذلك عن التنظيم شيئا بل سارع به نحو مصيره المحتوم، فهو اليوم تجربة عابرة بحكم المنتهية، رغم نجاحه عبر المال في إدخال الصراع شرقي سوريا في معادلات العشائر لا الدول، وبرغم قدرته اليوم على التمدد في الشمال السوري، وإن استمر لأعوام لكنه مبتور الصلة بأسباب الحياة.

وانتهت دراسة للمركز السوري للإحصاء والبحوث إلى أن أكسير الحياة للكتائب المسلحة في سوريا قوامه التقاء أربعة عناصر، الأيديولوجيا، والمال، والفاعلية، والسمعة، ومؤشر السمعة لتنظيم البغدادي يتناهى لما دون الصفر، يعود ذلك بشكل مباشر للمفارقة التي سجلها التنظيم بين مشروعه وبين ما يريده السوريون في بحثهم عن حرية تخرجهم من عباءة الاستبداد.

وفي سلوكه، لم يراع التنظيم خصوصية المجتمع بل سعى إلى تسطيحها على طريقة المشاريع العابرة للقارات، وكانت من جملة الدروس المستفادة من سيرة هذه التجربة:

– حاجة المجتمع السوري اليوم للعدالة سابقة على حاجته للخدمات وللنظام الجديد، وأول مقتضيات العدالة إشاعة الاحترام ثقافة وسلوكا.

– المشاريع السياسية غير المحلية -المنكرة لمفهوم الوطنية- لن تكون قادرة على استيعاب الطيف السوري ولا حتى السني منه، ولن تكون قادرة على صناعة أحلاف مستقرة ولا تحصيل اعتراف من دول الجوار فضلا عن العالمي، ولأجل ذلك فلن تكون قادرة على الخروج من الحلم إلى الحياة، بل إن لنظام الأسد المتهاوي حظوظا في البقاء أكثر وفرة مما لها على اعتبار ما له من أحلاف لا تزال تنكفئ على نفسها معززة وحدة المصير.

– المشاريع السياسية الإسلامية ذات قدرة عالية على الجذب في الواقع السوري، وبسبب غياب التجربة القريبة وعدم نضج خطابها الجماهيري، وحتى النخبوي، فهي تخسر من رصيد شعبيتها باستمرار مع كل محاولة تقدم سياسي جديدة تقوم على ذات الاستجرار التاريخي لمفهوم البيعة كأداة لتداول السلطة بحسب عقد اجتماعي كان حاضرا في يوم ما، ويجري القفز فوق حقيقة غيابه اليوم.

الحق أنه ينبغي مع واقع التعدد الطاغي على الأداء الثوري عموما أن تحضر الرؤى السياسية أولا كإطار عام يضمن تناغم الأداء ووحدة الخطاب وسلامة الرسالة بكل أشكالها، الدبلوماسية منها والعسكرية

ولعل من أبرز ما أثمرته تجربة تنظيم دولة البغدادي هو تقريب المسافة بين الكتائب الثورية بإزاحة أطرافها إلى الوسط، وتوضيح الرؤى السياسية بدرجات جديدة لدى عموم الشعب السوري، بينما أثمرت نضجا بشكلٍ أعمق أثرا في الوعي لدى النشء الإسلامي فاتحة الباب أمام مراجعات متجاوزة قداسة الموروث الديني، لتصبح كثيرا من الدعوات الإسلاموية الحالية – ومنها خلافة البغدادي- في حيز المراهقة المندفعة الحالمة الساذجة.

هذا في الوقت الذي تتحول فيه الأولوية لدى النشء الجديد نحو ترشيد الشعار وتصحيح المسار منكرين على الدواعش انحرافهم، ساعين إلى صناعة مكان لهم في هذه المعمورة لا في الأحلام، مكانٌ يبدأ بالاعتراف بالذات وبالآخر بدلا من النزوع إلى الإنكار، وينهض لدولةٍ تعترف بنواميس الكون كما خلقها الله وأن عناية السماء ليست موفورة للأخيار ما لم يكونوا من العاملين المدركين لإيقاع الزمان.

أولوية التحرك
لا يزال غياب المشروع السياسي ذي المعالم الواضحة ينعكس سلبا على عموم الأداء الثوري دون التطرق هنا لانعكاساته على الصعيد الخارجي للثورة. ليس على الكتائب المسلحة يقع واجب ملء هذا الفراغ لولا أنها تصدرت له حاملة عبئا ثقيلا مضافا، والحق أنه ينبغي مع واقع التعدد الطاغي على الأداء الثوري عموما أن تحضر الرؤى السياسية أولا كإطار عام يضمن تناغم الأداء ووحدة الخطاب وسلامة الرسالة بكل أشكالها، الدبلوماسية منها والعسكرية.

وفي لفظ الثورة لتنظيم الدولة ما يثبت قدرتها على إعادة الاصطفاف ضمن وحدة الإطار كنتيجة طبيعية لنماء الإمكانيات مع تراكم الخبرة والتعاطي العملي مع الواقع المتبدل.

وقد خطت الكتائب المسلحة خطوات بعيدة في اتجاه تشكيل مراكز ثقل نوعية يمكن أن تملأ الفراغ القيادي العسكري، وبتكامل السياسي مع العسكري يمكن أن تكتمل لمشروع الثورة أدوات القيادة بما يدفع بحركة التحرر للوصول إلى مبتغاها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.