هل ما يجري في سوريا ثورة؟

لاجئون لحظة عبورهم من سوريا للأردن في عمق الصحراء- ارشيف
الجزيرة

تحولات الوضع السوري ومآل الصراع القائم منذ أكثر من ثلاث سنوات يدفع إلى طرح السؤال: هل هناك ثورة في سوريا؟ وأين هي هذه الثورة التي يجري الحديث عنها؟

سؤال يتكرر، ورغم أن كثير ممن يطرحونه كانوا متشككين بما يجري في سوريا منذ البدء، تأسيسا على تموضع النظام السوري في الوضع الدولي، فإن هناك من بدأ يطرحه بعد أن كان يعتقد بأن ما يجري هو ثورة.

لقد أصبح الصراع على الأرض صراعا مسلحا، وانتهى النشاط الشعبي تقريبا (أو تماما كما يظهر في الإعلام)، وأصبحت القوى الأصولية مهيمنة وتضخمت لتكون هي التي تقاتل النظام، وخصوصا المجموعات التابعة لتنظيم القاعدة (جبهة النصرة والدولة الإسلامية داعش)، هذه المجموعات التي تلمّ كل "جهاديي" العالم، في حين أن البلدان الإمبريالية والدول "الرجعية" هي التي تدعم "الثورة"، مقابل دعم روسيا وإيران و"قوى المقاومة"(حزب الله) للنظام، وأصبحت القوى الدولية هي التي تتحكم في الصراع.

هذه هي "الصورة النمطية" التي باتت تتكرر، ليس على صعيد الأفراد فقط، بل أساسا في الإعلام الغربي والداعم لـ "طرفي الصراع". إذن، أين الثورة في كل ذلك؟

أصبح الصراع على الأرض في سوريا مسلحا، وانتهى النشاط الشعبي تقريبا، وباتت القوى الأصولية مهيمنة وتضخمت لتكون هي التي تقاتل النظام، وخصوصا التابعة منها لتنظيم القاعدة

لا أريد أن أكرر بأن الإعلام يأخذ ما هو ظاهر، وهو متحيز كذلك لميول أيديولوجية ومصلحية تجعله تنقل ما يريد. وعلى كل منطق علمي أن يكشف ما هو خلف هذه الصورة، وماذا يراد منها من كل طرف ينشرها، ومن ثم الغوص إلى العمق الذي يشكّل الواقع من أجل معرفة الواقع الحقيقي، وهذا ما يفرض التشكيك في الصورة التي تنتشر في الإعلام، ومن ثم البحث عن الآليات "المنطقية" والعملية التي تسمح بالغوص إلى عمق الواقع.

طبعا يبقى تلقي "الصورة" أسهل من الشك فيها والبحث عن الواقع الحقيقي، ولهذا حين يسود "الكسل الفكري" يصبح تعميم "الصورة" سهلا، وهذا ما تعمل على أساسه مجموعات المصالح، وأصحاب المنظورات الأيديولوجية. وبالتالي يسود "منطق القطيع"، فتنساق قطاعات خلف "الصورة" بالضبط لأنها معممة. أي أنها تصبح حقيقية فقط لأنها معممة وليس لأنها مطابقة للواقع، حيث يمنع "الكسل الفكري" السؤال عن مدى مطابقة الصورة للواقع.

هذا العيب يطال قطاعا كبيرا من "النخب" و"السياسيين" المخضرمين. ولهذا نجد أنهم ينساقون خلف "الصورة النمطية" التي يشكلها الإعلام، ليس فيما يخص الوضع السوري فقط، فهذه عاهة عامة، كانت في أساس فشل هؤلاء وتهميشهم وهامشيتهم. وفي الغالب يخرج السؤال عن الوضع السوري من بين هؤلاء.

لكن الذين ينحازون دون سؤال لمصلحة قبول "الصورة النمطية" عن الواقع السوري هم القطاع الأكبر، خصوصا هنا ممن يعتقد بأنه "يسار"، رغم أن هذا "التعامل النمطي" مع الصورة هو في تضاد مع كل يسار، لأن النقد والشك والبحث والعلمية هي من سمات اليسار الأصيل، فالماركسي يبدأ من التأكيد على أن هذه "صورة إعلامية"، ليطرح السؤال حول ماهية الواقع الحقيقي؟ وهذا ما ليس قائما، ليس فيما يخص الوضع السوري فقط بل فيما يخص كل وضع.

لهذا حين يُطرح السؤال حول، أين هي الثورة؟ يمكن أن نعود لوقائع قائمة يتناولها الإعلام بشكل عابر أو هامشي، أو لا يتناولها لأنها لا تخدم "الصورة النمطية" التي يطرحها، أو تطرح من قبل جهات دولية معنية، مثل منظمات حقوق الإنسان أو الأمم المتحدة، أو غيرها (رغم أن طرحها هنا يجعلها مجال تشكيك من قبل الذين يدعمون السلطة). لكن هناك وقائع لا يمكن التشكيك فيها، وهذا ما يمكن أن نشير إليه، لكنها لا تحظى بالتحليل والتدقيق فتضيع في زحمة "الصورة النمطية".

حين نتحدث عن مئات آلاف المعتقلين مثلا، وربما يكون التقدير أن عدد الذين اعتقلوا قد تجاوز المليون، ومن ما زال في السجن يتجاوز مائتي ألف، ومن أعلن أنه جرت تصفيته في السجن بلغ الـ11 ألف معتقل. ألا يشير ذلك إلى أن النقمة الشعبية كبيرة؟ وأن من يخوض الصراع ضد النظام أعداد كبيرة من الشعب استلزمت اعتقال هذه الأعداد، وفرضت التخلص من جزء منهم؟ وأن عملية الاعتقالات لم تتوقف إلى الآن بل إنها مستمرة، وتطال ليس فقط المسلحين في الغالب (حيث هم خارج سيطرة السلطة) بل الشباب المدني الناشط في الإعلام أو الإغاثة أو التظاهر، أو أي نشاط شعبي آخر؟

الذين يحملون السلاح ضد النظام يتجاوزون المائتي ألف، من ضمنهم بضعة آلاف قدموا من الخارج، لكن أغلبهم شباب تظاهروا في الأشهر الأولى للثورة، وتمت مواجهتهم بالرصاص والوحشية من الأجهزة الأمنية والشبيحة

وهؤلاء الناشطون يتعرضون كذلك للاعتقال والتصفية من قبل تنظيم داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة. وبالتالي إذا كان الإعلام لا يركز على هؤلاء ويركز فقط على "المسلحين" (خصوصا الأصوليين) يمكن لمتابعة عمليات الاعتقال أن تكشف الحراك الشعبي وتوضح استمراريته. فالحراك مستمر في دمشق والساحل وكل المناطق التي تسيطر عليها السلطة، وهو حراك "مدني". ومن ثم هناك مئات الآلاف التي تقاوم السلطة بشكل غير مسلح، وتنشط بأشكال مختلفة، من الإعلام إلى الإغاثة إلى التظاهر إلى أشكال أخرى تعبّر عن مقاومة السلطة.

ثم إن الذين يحملون السلاح ضد النظام يتجاوزون المائتي ألف، يمكن أن نقول إن من ضمنهم بضعة آلاف من الذين قدموا من الخارج (أي من "الجهاديين")، لكن معظم هؤلاء من قطاع الشباب الذي تظاهر طيلة الأشهر الأولى من الثورة، وهو يواجَه بالرصاص والوحشية التي تمارسها الأجهزة الأمنية والشبيحة.

وبغض النظر عن الأسباب التي دفعته لحمل السلاح (رغم أن الوحشية التي مارستها السلطة، والتي كانت مقصودة لدفع الشباب إلى حمل السلاح، على أساس أن السلطة هي الأقوى هنا، وبالتالي تستطيع حسم الصراع المسلح)، وعن العدد الذي انضم إلى الأصوليين (أحرار الشام والجبهة الإسلامية عموما، والنصرة، وحتى داعش) فإن الكتلة الأساسية منه هي فئات شعبية شكلت كتائب مسلحة ذات طابع مناطقي، معتقدة أن هذا الخيار هو الخيار الذي يسقط النظام بعد أن جرّبت "السلمية" ووجهت بالرصاص والعنف.

وبالتالي، فبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع حمل السلاح فإن هؤلاء هم مئات الآلاف من الشعب الذي يريد إسقاط النظام.

أظن أن هذه وتلك تشكّل كتلة كبيرة من الشعب الذي يقاوم السلطة، ويريد إسقاطها، ومن ثم هل نعتقد بأن الذين هُدمت بيوتهم أو اضطروا للنزوح نتيجة وحشية العنف الذي تمارسه السلطة (قصف الطيران، وصواريخ سكود بعيدة المدى، والقصف المدفعي، والبراميل المتفجرة التي تلقى عشوائيا لأنه ليس من الممكن توجيهها، والأسلحة الكيميائية التي ثبت استخدامها من قبل السلطة)، هل نعتقد بأن هؤلاء هم مع السلطة؟

ربما كان بعضهم مع السلطة لكن هذه الوحشية لا تسمح بأن يبقى كذلك، وحتى في الساحل السوري الذي يستخدم أبناؤه في القتل وكل الوحشية التي نشاهدها، يختزنون نقمة عالية نتيجة زجهم في صراع لا يخدمهم بل يخدم السلطة التي لم يكونوا معها. هؤلاء يتجاوز عددهم عشرة ملايين سوري. ولن أتناول قطاعات الشعب الأخرى، لكن سأشير إلى أن كل هؤلاء الذين تحدثنا عنهم هم من هذه القطاعات.

على العكس من ذلك سنلمس تقلص القاعدة الاجتماعية للسلطة، وانحسارها في فئات متخوفة أكثر مما هي مقتنعة، وأخرى تشعر أنها في مأزق وتريد الخروج منه. وهؤلاء هم من البرجوازية التجارية الدمشقية الحلبية خصوصا، ومن بعض الفئات الوسطى التي كانت تستفيد من النمط الاقتصادي الذي خلقته مافيا السلطة، ومن بعض الأقليات المتخوفة من البديل (المسيحيون والعلويون خصوصا).

وسنلاحظ الآن بأن من يقاتل حماية للنظام هي قوى خارجية (حزب الله والمليشيات الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني، وأشتات من "الشيعة" من اليمن والباكستان وأفغانستان، ومن روسيا وغيرها)، بينما ضعفت مقدرته العسكرية، خصوصا بعد أن تهمشت قاعدته الاجتماعية.

هذا الواقع يجد جذوره في الواقع الاقتصادي الذي حكم الوضع قبيل الثورة وكان في أساس انفجارها (بعكس كل تخريف الليبراليين)، حيث كانت نسبة البطالة 30-33% من القوى العاملة، والفارق بين الحد الأدنى للأجور الضروري للعيش والحد الأدنى الفعلي هو 5 إلى 1 (الفعلي كان ستة آلاف ليرة سورية، والضروري كان 31 ألف ليرة حسب دراسات الدولة).

المشكلة في الوضع السوري أن الصراع تعقد نتيجة وحشية السلطة وتماسكها لفترة طويلة، وحمايتها الفعلية من قبل إيران وروسيا، وفي المقابل التخريب الذي مارسه "أصدقاء الشعب السوري" من أجل تشويه الثورة

وكانت الزراعة قد انهارت بعد اكتمال الانفتاح الاقتصادي وسيادة اللبرلة، حيث كان هناك مليون فلاح ترك أرضه سنة 2010 من منطقة الجزيرة وهي الأغنى زراعيا في سوريا، وبيعت الصناعات التابعة للقطاع العام أو أهملت، وقادت المنافسة مع السلع القادمة من الصين وتركيا إلى انهيار قطاعات صناعية عديدة، منها الصناعة الأهم في سوريا والمنطقة، أي صناعة الغزل والنسيج.

ونتيجة لذلك أصبح الاقتصاد ريعيا يقوم على الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد. بينما تمركزت الثروة بيد أقلية تحالفت في "شركة الشام القابضة" واستحوذت على 60 إلى 70% من الاقتصاد السوري (عائلة مخلوف والأسد وشاليش استحوذت وحدها على 30% من الاقتصاد). وكل هذه الأرقام من مصادر لم تكن معارضة للسلطة، وهي منشورة ومتداولة لمن يريد المعرفة.

ولا بد من الإشارة إلى أن الذين يحملون السلاح أو ينشطون بأشكال متعددة هم في الغالب من هؤلاء المفقرين، سواء العاطلين عن العمل أو الذين يتحصّلون على أجر لا يكفي العيش. فهي ثورة الطبقات المهمشة والمفقرة بكل جدارة، لأن هؤلاء هم الذين واجهوا الرصاص في التظاهرات السلمية، ومن ثم انتقلوا إلى حمل السلاح بعد تصاعد وحشية السلطة.

إذن، أليس هذا الوضع هو المشابه للوضع المصري والتونسي والمغربي واليمني والجزائري والأردني وكل البلدان العربية وحتى بلدان الأطراف؟ وهو الوضع الذي فجّر الثورات؟

لكن المشكلة في الوضع السوري أن الصراع تعقد نتيجة وحشية السلطة وتماسكها لفترة طويلة (سنتين تقريبا)، والحماية الفعلية له من قبل إيران وروسيا، وفي المقابل التخريب الذي مارسه "أصدقاء الشعب السوري" من أجل تشويه الثورة.

وهذا يفرض فهم الوضع العالمي والخوف العالمي من الثورات، وكيفية اشتغاله على دعم وحشية النظام السوري لكي يمارس كل الوحشية التي ظهر فيها، بهدف تخويف الشعوب وثنيها عن التفكير في الثورة، وهي تعاني من الأوضاع التي عانت منها الدول التي شهدت الثورات.

هنا يكمن تعقيد الثورة السورية، التعقيد الذي يفرض العودة إلى البحث في الوضع العالمي ودراسة مصالح الدول والقوى، وفهم المغزى الذي استفادته من الانتشار السريع للثورات من تونس إلى سوريا. ومن ثم كيف تعاملت مع الوضع السوري؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.