في ذكرى هزيمة يونيو

بالهجري: الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر (في الحكم 1954-1970)

لسنا في وارد تحليل هزيمة العرب المعادين للمشروع الصهيوني في 5 يونيو/حزيران عام 1967 وأسبابها وتداعياتها على الوضع العربي المعادي للإمبريالية والصهيونية، على نحو عام وعلى الشعب الفلسطيني ونضالاته من أجل استرداد حقوقه الوطنية القومية، فنحن جميعا نعيش هذه النتائج المهولة، ولا نقلل إطلاقا من حجم الكارثة القومية التي حلت بنا وبكثير من قناعاتنا في مختلف المجالات.

في الوقت نفسه -ورغم حجم الكارثة التي حلت بنا- علينا عدم ارتكاب أغلاط جديدة في تقويمنا لأسباب الهزيمة. صدرت كتب كثيرة عن الموضوع، برأينا جميعها لا تلامس جوهر المشكلة، لكن هذا ليس موضوع مقالنا هذا لأنه معقد للغاية، وفقط لأهل الاختصاص من نخب النخب من عسكريين وإداريين واقتصاديين وفكريين وفلاسفة.. إلخ فصل المقال في هذه المسألة الخطيرة حقا.

لكن بعض الجهلاء سارعوا لإطلاق الأحكام التعسفية والغلط من الأساس في سبب الهزيمة الرئيس، واختصاره في نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر "الدكتاتوري"، وهذا موضوعنا.

نحن لسنا في وارد الدفاع عن أخطاء نظامه لأنه قرر تحمل المسؤولية كاملة عندما قدم استقالته في 9 يونيو/حزيران، ولأن شعب مصر العربي أعطى رأيه في رئيسه يوم 9 يونيو/حزيران ويوم جنازته، حين خرجت الملايين المكلومة في شوارع مصر انتصارا له ولعهده، وكانت ساعات حزن صادق وعميق في مختلف أنحاء العالم العربي و"العالم الثالث".

عبد الناصر لم يصرح يوما بأنه مؤمن بالنظام الرأسمالي الحزبي التمثيلي الذي يشار إليه حاليا باسم الديمقراطية، لذا من غير الصحيح الحكم على صحة رؤيته من منظور فكر لم يكن يؤمن به

الآن، أولا وقبل كل شيء لم يفصح أي من أولئك "المتنطحين" من المثقفين عن تفسيرهم للدكتاتورية والديمقراطية أو شرحهم لهما.

في كافة الأحوال، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يصرح يوما بأنه مؤمن بالنظام الرأسمالي الحزبي التمثيلي الذي يشار إليه حاليا باسم الديمقراطية -إمعانا في تضليل البشر- أو حتى من أنصاره، لذا من غير الصحيح الحكم على صحة رؤيته من منظور فكر لم يكن يؤمن به، علما بأنه قدم فكره السياسي في "الميثاق"، اتفقنا معه أو اختلفنا، وليست هذه المسألة.

لنتوسع قليلا ولننظر في تجارب شعوب أخرى مرت بتجارب مشابهة تفضح خطأ الادعاء القائل: إن الدكتاتورية -أيا كان معناها- سبب الهزيمة، وعلى المدعي إثبات كلامه عبر إعطاء أمثلة، أما نحن فسنقدم أمثلة تدحض ذلك الادعاء المرتبط ارتباطا وثيقا بفكر المثقفين، الأناني والسطحي والنفعي.
لننظر إلى الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية:

– هل كان ستالين ديمقراطيا -وفق التعريف البرجوازي- حتى تمكن الاتحاد السوفياتي من هزيمة ألمانيا النازية؟ وهل نظام بولندا "الديمقراطي" هو من أوقف زحف قوات النازي هتلر عام 1939 أم هزمها خلال أيام معدودة؟

وهل كان نظام الصين الشعبية أو ماو تسي تونغ "ديمقراطيا" عندما هزم جواهر لال نهرو وقوات الهند "الديمقراطية" وفق التعريف البرجوازي الذي يحاول احتكار جوهر التنظيم الاجتماعي؟

أمر آخر، هل كيان العدو الصهيوني ديمقراطي، حتى بالمفهوم البرجوازي للمفردة؟ كل من كتب في الموضوع -باستثناء غلاة الصهاينة- يصفون الدولة الإسرائيلية بأنها إثنوقراطية وهي الديمقراطية الإثنية، أي دولة عنصرية وتمارس الفصل العنصري، وأحدث دليل على ذلك تمسكها بمقولة يهودية الدولة.

إن الادعاء بأن غياب الديمقراطية في نظام الرئيس الراحل سبب هزيمة عام 1967 ليس فقط اختزالا لمرحلة خالدة من تاريخ مصر الحديث، وليس فقط ادعاء باطلا لا يستقيم مع التجارب التاريخية المعروفة، وإنما دس رخيص ونفاق أرخص منه لنظام يدير ظهره -إلى الآن على الأقل- لقضية العرب الأولى.

فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر كوّن تنظيم الضباط الأحرار وهو في فلسطين تحت حصار العدو الصهيوني، وكتب في كافة مواثيق الثورة أن القضية الفلسطينية مصرية، وأن الأمن القومي المصري في طوروس، أي شمالي سوريا شاملة فلسطين، وقال: إن الصراع العربي الصهيوني صراع وجود وليس صراع حدود، وقاد مع الشعوب العربية مسيرة قومية عربية ووطنية من أجل عدم الاستسلام لواشنطن أو للعدو الصهيوني، وقاد حرب الاستنزاف التي بدأت فعلا بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات.

إضافة إلى ما سبق لم يكن عبد الناصر دكتاتورا إطلاقا، وربما كان فرديا إلى درجة ما، فلو كان دكتاتورا بالمعنى الشعبوي السائد لأمكنه التخلص من أشخاص كانوا يشكلون نقاط ضعف في إدارته، من دون النظر في عواقب ذلك.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يكن لعبد الناصر التخلص من عبد الحكيم عامر الذي أضحى "طرفة" تلوكها ألسنة المصريين، خصوصا بعد فضيحة اعتقاله في سوريا خلال انقلاب الانفصال المشؤوم، وغير ذلك، وربما كان بإمكان الرئيس الراحل إجباره على الاستقالة أو حتى طرده، لكنه في الوقت نفسه -يقول العالمون بالأمور- كان عليه حساب رد فعل بعض الضباط المصريين من مراكز القوى التي شكلها عامر.

لم يكن بإمكانه إذاً الدخول في معارك داخلية طاحنة وهو يعلم مدى تربص قوى الرجعية العربية والعالمية والصهيونية بنظامه وبه شخصيا، لو كان دكتاتورا بالمعنى التقليدي للمفردة لكان له إبعاد من يريد من دون أي حساب، كما فعل السادات مع رجالات العهد الناصري، وكما فعل خليفته الذي قدم ابنه للرئاسة.

إن محاولة اختزال عهد الرئيس الراحل بهزيمة عام 1967 تضليل واعٍ ونتاج سوء نية، وجماهير مصر والعالم العربي رفضت تحميله المسؤولية لعلمها أنه وعهده كانا ضحية مؤامرات الرجعية العربية والإمبريالية-الأطلسية التي لا حصر لها.

الجماهير المصرية -خصوصا الجيل الجديد الذي لم يعايش فترة حكم الرئيس الراحل- لم تجد غيره لاستنهاض الهمم ولربط مصر القوية العزيزة بشخصه، حتى الرئيس المشير عبد الفتاح السيسي في محاولة لشرعنة شخصه سُرِّبت صورته طفلا وهو يلقي التحية على جمال عبد الناصر.

الجماهير المصرية أحبت جمال عبد الناصر حتى في أعقاب هزيمة مؤلمة، لأنها ربطت عهده بشخصه المتواضع الزاهد في الحياة، وبإنجازات عهده الداخلية ومنها التصنيع وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين وفترة رخاء وبناء السد العالي وتأميم قناة السويس وإجبار القوات الإنجليزية المحتلة على الجلاء عن مصر، وكسر احتكار السلاح ورفع شأن مصر، دولة عربية حرة ذات وزن عالمي.

لو كان عبد الناصر دكتاتورا بالمعنى التقليدي للمفردة لكان له إبعاد من يريد من دون أي حساب، كما فعل السادات مع رجالات العهد الناصري، وكما فعل خليفته الذي قدم ابنه للرئاسة

والجماهير العربية أحبته قائدا عربيا وعروبيا، رغم أنه لم يكتب أي تنظيرات فكرية في المسألة القومية، بل مارسها، مارسها عندما تصدى للعدوان الثلاثي، وعندما أقام دولة الوحدة مع سوريا، وعندما تبنى القضية الفلسطينية، وعندما دعا إلى نسيان الخلافات بين العرب وعمل على توحيدهم في مؤتمر قمة بهدف التصدي لمشروع إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن لسقاية صحراء النقب.

أحبته أيضا لأنه وقف إلى جانب الثورة الجزائرية وأمدها بالمعونة، ولأنه عمل على حل مشكلة الكويت عربيا عندما هدد الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم بضمها، ولأنه وقف إلى جانب كل حركات التحرر في العالم في أفريقيا وأميركا اللاتينية وفي مقدمتها كوبا وزعيماها كاسترو وتشي غيفارا، ولأنه كان من مؤسسي مؤتمر باندونغ بإندونيسيا، ومن ثم حركة عدم الانحياز مع جوزيب بروز تيتو وأحمد سوكارنو وجواهر لال نهرو والتي ضمت لاحقا كوامي نكروما وأحمد سيكو توري وجوليوس نيريري وغيرهم من القادة الكبار.

لكل ما سبق أحبه العالم الثالث، وأيضا لأنه عمل ما في وسعه لمنع الصدام بين مختلف دول "العالم الثالث" أو احتوائها، وفي مقدمة ذلك الصدام المسلح بين الهند والصين.

الجماهير المصرية عرفت عبد الناصر بصفته أحد أبنائها الكرام، الجماهير المصرية غفرت للرئيس جمال عبد الناصر هزيمة عام 1967، لكنها لم تغفر لصاحب زيارة القدس المحتلة والتصالح مع العدو الصهيوني على حساب مصر وفلسطين والعرب، لذا لم تكترث بتوديعه رغم أنه قضى في حادث اغتيال مفجع، بل رأت في سياساته الهزيمة الحقيقية لمصر.

وها هو التاريخ يعود حاضرا فتتذكر جماهيره مصر الوفية، ولا يتذكر أحد من جاء بعده وحاول مسح اسمه من أكثر فترات تاريخ مصر الحديث نصاعة، لا يتذكرهما أحد سوى الفلول والليبراليين الذين يحاولون سرقة حراكات شعب مصر وانتفاضاته المجيدة.

عبد الناصر يبقى قامة شامخة في بلاده في زمن عز فيه الرجال، يتذكره شعبه الوفي ويتنكر له مثقفو ومدَّعو العلم والمعرفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.