هل انتخب الأوروبيون برلمانهم حقا؟

متظاهرون ضد قدوم زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبان، إلى بروكسل وضد صعود اليمين المتطرف في أوروبا

رسائل التصويت
غياب القضايا الشائكة
إشعال الحريق
الانكفاء على الداخل

يصعب على الأوروبيين تشخيص التأثير الذي يمارسونه عبر التصويت الذي تدعوهم إليه بروكسل كلّ خمس سنوات. لقد فضلت أكثرية الأوروبيين كعادتهم "حزب الصمت" في يوم الكلمة الممنوحة للجماهير، وأرسل الناخبون إشارات محيِّرة ومتطرِّفة أيضا.

رسائل التصويت
عبّر السلوك التصويتي في انتخابات البرلمان الأوروبي عن فتور الاهتمام الجماهيري، كما حدث بالجولات السابقة، فقد اضمحلّ في بعض البلدان إلى مستويات قياسية، مثل سلوفاكيا التي لم يقترع فيها إلا 13% ممّن يحقّ لهم ذلك، ولم يتجاوز المعدّل الإجمالي للإقبال على الصناديق 43%، وجاءت أدنى معدّلات التصويت في أوروبا الشرقية وبريطانيا وهولندا والبرتغال.

فما الذي يحثّ مواطني القارة على اختيار برلمان ذي 751 مقعدا دون أن يواكبوا من مداولاته سوى قرارات مثيرة للجدل ينشغل الإعلام بها دون غيرها، مثل الإسناد السخيّ لبلدان أوروبية مترنِّحة، وفرض معايير صناعية وزراعية وتجارية طريفة، تتحكّم بمقاييس ثمار الموز والخيار أو تحظر أصنافا من مصابيح الإنارة؟

جماهير القارة ليست منصرفة إلى السياسة الموحّدة، بل تميل لاستخدام التصويت الأوروبي لإرسال تحذيرات وتنبيهات إلى السياسات الوطنية أو المحلية في بلدانها

والواقع أن جماهير القارة ليست منصرفة إلى السياسة الموحّدة، بل تميل لاستخدام التصويت الأوروبي لإرسال تحذيرات وتنبيهات إلى السياسات الوطنية أو المحلية في بلدانها. إنه التصويت العقابي الذي يعبِّر عن ضعف القناعة بدور الاتحاد والتشكّك في جدوى مؤسّساته.

وفي خلفية الظاهرة أزمة بنيوية في الديمقراطية الأوروبية الموحّدة، وبمقتضاها لا يُصارَح الناخبون بوضوح بأنّ تصويتهم للأحزاب الوطنية المفضّلة سيرسو لصالح أحزاب أوروبية جامعة لها أسماء وشعارات مغايرة للاّفتات المحلية المعروفة. فالاقتراع الذي يُدعى إليه أربعمائة مليون شخص في ثمان وعشرين دولة يُفرز كتلا برلمانية تتبع أحزابا غير تلك التي صوّت لها المواطنون مباشرة، وتبقى تلك الأحزاب الأوروبية، مثل "حزب الشعب الأوروبي" المحافظ الذي فاز بالمرتبة الأولى، متحرِّرة من مساءلة ناخبين لم يختاروها بعينها، وهو ما أشعل نقاشا بهذا الخصوص في السويد مثلا.

مع ذلك، طرأ تحسّن جزئي في إنعاش البُعد الأوروبي في هذه الجولة، من قبيل التوسّع في المناظرات المتلفزة بين رؤساء الكتل البرلمانية الأوروبية الأساسية، وقد بثتها محطات أوروبية على مدى أسابيع، بدل الاقتصار على قادة الأحزاب في كلّ بلد على حدة.

وتبقى بروكسل معزولة عن وجدان الشعوب الأوروبية التي تتحدّث بعشرات الألسن، فتقتصد الجماهير في التظاهر ضدّ الاتحاد الأوروبي، وترفع بعض التشكيلات أصواتها بطلب الفكاك منه. ونادرا ما طالبت حشود المواطنين بتغيير حكومة أوروبا، أي المفوضية، خلافا لما تفعل الشعوب مع الحكومات والبرلمانات الوطنية التي تبقى وجهة للتظاهر ومقصدا للمعارضة.

أما البرلمان الأوروبي فظلّ المكان الأمثل لاسترخاء السياسيين، بعيدا عن قواعدهم الناخبة ومطالب المساءلة والمحاسبة الشعبية لأدائهم، حتى اشتهر عن بعضهم التغيّب عن الجلسات. ومن المألوف أن لا تلقى أعمال البرلمان الموحّد آذانا صاغية من صانعي السياسة الفعلية في قيادة أوروبا، وهم أولئك الجالسون في المفوضية (حكومة الوحدة) ومعهم مجلس قادة الدول والحكومات الذي يحسم الخيارات في اجتماعات القمّة بتأثير توازنات النفوذ.

غياب القضايا الشائكة
لم تنشغل حملات التنافس على مقاعد البرلمان الأوروبي كثيرا بقضايا شائكة وحسّاسة من قبيل تعزيز أنظمة التخابر على المواطنين عبر شبكات الاتصال، وفضائح التنصّت الأميركي على زعماء أوروبا، ومآلات الدعم السخيّ للأنظمة المصرفية المنهارة، وفعالية العملية الديمقراطية في هياكل الوحدة الأوروبية بين قرارات البرلمان وأداء المفوضية، فضلا عن مسائل الأمن والدفاع.

ومع غياب النقاش المعمّق في حمّى التنافس على الأصوات، جاءت الشعارات الانتخابية مشحونة بالعاطفة، فعلى المتسابقين إلى بروكسل وستراسبورغ أن يبرهنوا على ولائهم للوطن في مواجهة القارة، وإثبات تحلِّيهم بالصرامة الكافية في هيئات أوروبا.

أما بالنسبة لأقصى اليمين ومعارضي الوحدة فإن أوروبا تشبه حلبة مُجالدة رومانية لانتزاع مكتسبات للوطن، وهو ما يتمّ التعبير عنه بالمال عبر تقليل مدفوعاته إلى بروكسل وتكثير إيراداته منها، كما تَعِد الشعارات التي لن يتمكّن القوم من تنزيلها في الواقع.

وقد تميّزت انتخابات مايو/أيار 2014 بصعود أقصى اليمين السياسي الذي تقدّم النتائج في دول أبرزها فرنسا وبريطانيا والدانمارك. إنها الجولة الأولى التي يحاول فيها أقصى اليمين الانتظام في جبهة مشتركة عبر القارة. فليس اليمين الأوروبي المتطرِّف حالة متماثلة، بل تتعدّد خصائصه وتفترق بما يفسِّر عجزه في ما سبق عن تشكيل كتلة موحّدة بتأثير المنابت القومية المتنافرة والنزعات الوطنية المستقلّة عن السياق الأوروبي.

وقد أخذ اليمين المتطرّف في السنوات الأخيرة يحدِّد ما يجمعه من شعارات بمعارضة الوحدة الأوروبية، والتحذير من الهجرة واللجوء والتنوّع الثقافي، ومعاداة الإسلام والتمييز العملي ضد المسلمين، والمبالغة في تأييد الاحتلال الإسرائيلي الذي يمثل "قاعدة متقدمة في الدفاع عن أوروبا في وجه التطرّف الإسلامي"، كما يقول بعضهم.

صحيح أن النتائج التاريخية التي أحرزها اليمين المتطرف في بعض الدول مثل فرنسا وبريطانيا لا تمنحه الأغلبية في البرلمان الأوروبي، ولم تضمن له المواقع الأولى المضمونة للمحافظين والديمقراطيين الاجتماعيين والليبراليين، لكنّ صعوده النسبي يحمل قيمة رمزية في الأساس بما يؤثّر على الجولات الانتخابية القادمة في المستويات الوطنية والمحلية.

لا يتردد خطاب اليمين المتطرف في استثارة الشعوب وتأجيج مشاعرها، فلدى قادته حلول سحرية للمعضلات العويصة، ولا يتورّعون عن صياغة خيارات ساذجة تصفِّق لها الجماهير

وتكمن خلف صعود اليمين في بعض الدول حالة القلق الاقتصادي والاجتماعي، مصحوبة بتفاعل الريبة في ثنايا المجتمعات من التحولات الثقافية التي يتمّ تحميل التنوّع السكّاني وموجات الهجرة واللجوء مسؤوليّتها عادة، مع إعفاء عوامل أخرى منها تحوّل الأجيال وشبكات الاتصال والعولمة من أي مسؤولية عن التغيّرات.

وقد يجري تقديم المسلمين بشكل ضمني أو صريح في هيئة المشجب المجهّز لتحمُّل الأوزار، على طريقة السياسي الهولندي المتطرف خيرت فيلدرز -مثلا- الذي اختتم حملة "حزب الحرية" لانتخابات البرلمان الأوروبي بتشويه العلم السعودي.

إشعال الحريق
يأتي خطاب اليمين المتطرف سهلا وواضحا دون أن يتردّد في استثارة الشعوب وتأجيج مشاعرها، فلدى قادته حلول سحرية للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية العويصة، فلا يتورّعون عن صياغة خيارات ساذجة تصفِّق لها الجماهير.

إنّها ظاهرة أقصى اليمين السياسي التي تفرض تضخيم المشكلات وإثارة الهلع من التحوّلات، ليتقمّص ساسة التطرّف أدوار المنقذين وفرق الإطفاء التي ينبغي استدعاؤها للمهمة التاريخية. إنهم يؤجِّجون مشاعر الجمهور ضد المهاجرين وطالبي اللجوء، دون أن يشرحوا للمواطنين ملابسات الظاهرة العالمية وخيارات التعامل الواقعية معها.

يغيب الحديث في "المعركة الانتخابية" عن ضرورة تمكين منابع الهجرة -مثلا- من حياة لائقة ضمن شروط الحرية والكرامة. ويجري تجاهل سياسات إفقار الشعوب من قبيل دعم المزارعين الأوروبيين بما يهدِّد المنافسة العادلة مع أقرانهم في الخارج، أو تأكيد امتثال السياسات الخارجية لالتزامات الحقوق والديمقراطية بدل التواطؤ مع أنظمة الفساد والاستبداد العسكري.

فبدلا من هذا كلّه، يبقى خيار أقصى اليمين واحدا، وهو إغلاق الأبواب والنوافذ، وحجب الأنظار وصمّ الآذان، أي تحصين أوروبا وتحويلها إلى قلعة يغرق المُبحِرون التعساء تحت أسوارها كما يحدث في الواقع اليومي لأمواج المتوسّط.

فما أن يصعد أقصى اليمين في جولة انتخابية حتى تُقرَع أجراس الخطر وتعلو التحذيرات من عواقب تسلّل المتطرِّفين إلى المشهد السياسي. إنها الاستجابة التي تشيح بوجهها بعيدا عن مكمن الخطر المُفترَض، الذي يتمثّل في انعكاس ميول الناخبين على سلوك الأحزاب الجماهيرية الواقعة أساسا في الوسط بيمينه ويساره.

هكذا تتجلّى تداعيات الصعود الانتخابي النسبي لليمين المتطرف في الدرس الذي تتعلّمه الأحزاب الكبرى الواقعة في يمين الوسط ويسار الوسط، وبموجبه تمارس اللافتات الحزبية العريضة فعل الانزياح إلى اليمين بصورة غير ملحوظة، إذ تتملّق المخزون التصويتي المُغري الذي يفضِّل الشعارات المتطرِّفة. وتَظهر تعبيرات الانزياح نحو اليمين واضحة في مضامين الأداء السياسي في الدول الأوروبية التي لا تكفّ حكوماتها "المعتدلة" عن تشديد قوانينها وتعقيد إجراءاتها في الملفّات الساخنة، أي الهجرة واللجوء ومنح المواطنة وجمع شمل الأسر من الخارج، علاوة على القوانين والإجراءات الاستثنائية التي تنصاع لثقافة الحظر فتمسّ الحرية الدينية ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص.

إنّ حقيقة تصويت ربع الناخبين الفرنسيين لأقصى اليمين إنّما يعني أن المشكلة ليست مع "الجبهة الوطنية" في الأساس أو مع مارين لوبن، بل تكمن المعضلة بالأحرى مع المخزون التصويتي الذي فضّل "الجبهة" وسينصرف عنها إلى خيارات أخرى متطرِّفة لو اختارت تلك التي ورثت التطرّف عن أبيها خطّ الاعتدال يوما ما. فميول الناخبين تُغري ببروز أحزاب تسعى لامتصاص الأصوات من خلال تقمّص تلك الميول، وهذا هو درس فيينا المشهود في العقد المنصرم من خلال تجربة حزبي "الحرية" و"تحالف مستقبل النمسا".

أما إفساح الطريق أمام التطرّف السياسي فيجود به انكفاء الأحزاب المعتدلة على ذاتها، وتحاشيها خوض مواجهة في زمن الاقتراع، مع ضعف التنبيه الثقافي والإعلامي بشكل عام.

والواقع أنّ خطاب أقصى اليمين السياسي لا يكافئه خطاب جريء في وسط الساحة السياسية، لأنّ الأحزاب الكبرى التقليدية تتنصّل من الشجاعة الأدبيّة خشية فقدان نقاط من رصيدها الانتخابي، تاركة المشهد لليمين السياسي المتطرِّف ليصول فيه ويجول دون ردود صارمة.

تبدو انتخابات البرلمان الأوروبي تعبيرا أمينا عن واقع القارة الموحّدة التي لم تصنع سياسة خارجية واحدة ولا تنوي صنعها. ويؤكّد ذلك أيضا زُهد الجماهير الأوروبية في مساءلة صانعي السياسات الخارجية عن أدائهم

وضمن هذه الملابسات صدّرت شعوب أوروبا طائفة من المشاغبين القادمين من أقصى اليمين والقوى الناقدة للوحدة الأوروبية و"اليورو" ليشكِّلوا خمس برلمانها الموحّد، وسيختطفون الأنظار خلال السنوات المقبلة إلى القاعة العملاقة التي تحتضن حشود النوّاب المُحاطين بالمترجمين.

الانكفاء على الداخل
انكفأت الاهتمامات الأوروبية في ساعة الاقتراع على الشواغل الداخلية، وذاب الحديث عن أوروبا وعن دورها في جوارها والعالم. لم يُصوِّت الناخبون على السياسات الخارجية إلاّ بقدر ملامسة اليمين المتطرِّف لملفّات الهجرة واللجوء وصدّ القادمين من وراء البحر، علاوة على التعريض بالملف التركيّ المشحون بالدلالات الرمزية.

هكذا تبدو انتخابات البرلمان الأوروبي تعبيرا أمينا عن واقع القارة الموحّدة التي لم تصنع سياسة خارجية واحدة ولا تنوي صنعها. ويؤكِّد ذلك أيضا زُهد الجماهير الأوروبية في مساءلة صانعي السياسات الخارجية عن مضامين أدائهم المدفوع بأموال الضرائب. ولكنّ ساسة أوروبا يرسلون إشارات لملء الفراغ، كما فعل قادة الكتل الأوروبية في المناظرات، ومنها تلك المُذاعة من فلورنسا في التاسع من مايو/أيار الماضي التي روّجوا فيها لحملة تغريد على تويتر لإطلاق سراح التلميذات المحتجزات في شمال شرق نيجيريا.

ولئن كان هذا هو الحال في كلّ جولة اقتراع خلت تقريبا، فإنّ الجديد في هذا الموسم هو تزامن انتخابات 2014 مع انتقال الدور الروسي إلى مصافّ التهديد الإستراتيجي غير المحسوب في منظور بعض الساسة والمعلقين الأوروبيين، بعد قضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وانكشاف قدرات التصرّف المحدودة للأسرة الأوروبية في مواجهة جارها الشرقي الممتلئ زهوا، الذي تتحسّب منه بالأخصّ دول البلطيق المنضوية في الاتحاد.

وغاية الأمر أنّ البرلمان الأوروبي ليس رواقا لصنع السياسات الخارجية، كما لا يملك في واقع حاله أدوات المراقبة والمساءلة إزاء هذه السياسات. إنّه ليس الكونغرس بكلّ تأكيد، رغم الإغراء المتزايد الذي تجتذب به بروكسل جماعات الضغط الراغبة في التأثير على جدول الأعمال السياسي، في القارة التي توحّدت في أشياء عدّة ليست السياسة الخارجية أحدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.