قراءة عربية للمشهد التركي

قراءة عربية للمشهد التركي

قراءة متعسفة
اختلافات جوهرية
دروس التجربة التركية

حظيت الانتخابات المحلية التركية الأخيرة باهتمام عربي إعلامي وشعبي كبير، بدرجة تفوق اهتمام بعض العرب بانتخابات تجرى في بلدانهم، وخاصة أنها أجريت وسط استقطاب عربي شديد بين الإسلاميين ومؤيديهم من جهة وبين القوى العلمانية والقومية والعسكرية ومؤيديها من جهة أخرى.

فكيف تمت قراءة المشهد التركي عربيا؟ وما هي الرسائل التركية التي يمكن التقاطها من القوى الإسلامية والعلمانية العربية على حد سواء؟

قراءة متعسفة
تعرضت القراءة العربية للمشهد التركي في أغلبها لتعسف مقصود من أطراف عديدة، فالإسلاميون اعتبروها انتصارا لحزب إسلامي "شقيق" في وقت حرج بالنسبة للإسلام السياسي في المنطقة، والعلمانيون الأقل عداء للإسلاميين رأوا فيها دليلا على فشل الحركات الإسلامية العربية في الحكم بسبب "عجزها" عن صياغة "نموذج إسلامي عصري" يشبه النموذج التركي.

يبدو التعسف واضحا في خطاب الإسلاميين تجاه المشهد التركي من خلال نسبة حزب العدالة والتنمية لتيار "الإسلام السياسي"، في الوقت الذي أعلن فيه الحزب عدة مرات أنه يعمل تحت سقف الدولة العلمانية

فيما ذهبت القوى المعادية للحركات الإسلامية والمؤيدة لنظام الأسد والسلطة العسكرية في مصر إلى صياغة خطاب إعلامي دوغمائي لا يمت للأصول المهنية والعلمية بصلة، ولا يستحق النقاش في معظمه.

ويبدو التعسف واضحا في خطاب الإسلاميين تجاه المشهد التركي من خلال نسبة حزب العدالة والتنمية لتيار "الإسلام السياسي"، في الوقت الذي أعلن فيه الحزب عدة مرات أنه يعمل تحت سقف الدولة العلمانية، وأنه يضم في صفوفه نسبة كبيرة من الأفراد الذين لا يرجعون إلى جذور "إسلامية".

ومن جهة أخرى، فإن كثيرا من الإسلاميين كانوا يرفضون اعتبار أردوغان وحزبه جزءا من حركات الإسلام السياسي، وقد أصدرت جماعة المسلمين في مصر بيانا أثناء زيارة أردوغان للقاهرة في سبتمبر/أيلول عام 2011، أكدت فيه أن نصائح أردوغان للمصريين حول علمانية الدولة "تدخل في الشؤون الداخلية لمصر"، وذلك ردا على تصريحات أردوغان التي طالب فيها المصريين بعدم التخوف من العلمانية لأنها لا تساوي "اللادينية" من وجهة نظره، وأكد فيها أنه "مسلم ولكنه رئيس وزراء دولة علمانية".

وليس المقصود هنا بالطبع التقليل من "حق" الإسلاميين العرب بالابتهاج والاحتفاء بفوز أردوغان وحزبه، إذ إن الحسابات البراغماتية البحتة تدعو الإسلاميين العرب للاحتفاء بفوز حزب العدالة والتنمية الذي يتبنى مواقف سياسية أقرب لمواقفهم، وخصوصا في ساحتي الاستقطاب الرئيسيتين في المنطقة: مصر وسوريا.

كما أن أردوغان من الناحية الأيديولوجية هو أقرب بلا شك للإسلاميين العرب من خصومه اليساريين والقوميين المحافظين وغلاة العلمانيين و"المستغربين"، بسبب خلفيته الدينية وجذور حزبه "الإسلامية".

وإذا كانت قراءة الإسلاميين العرب للمشهد التركي يشوبها بعض "التعسف"، فإن قراءة نظرائهم من العلمانيين لم تقل تعسفا هي الأخرى، وخصوصا تلك القراءة التي تستند على تجربة العدالة والتنمية لمطالبة حركات الإسلام السياسي العربية بانتهاج طريق أردوغان، واتباع سياسته التي قامت على "التصالح" بين الإسلام وعلمانية الدولة.

وتنطوي هذه القراءة الاختزالية على خطأ منهجي جوهري، هو نزع تجربة حزب العدالة والتنمية من سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، وبالتالي اختزال المشهد التركي في أداء وسياسة الحزب، في حين أن أداء الحزب وسياسته لا يمثل سوى عامل واحد من ضمن عوامل كثيرة فاعلة في رسم مشهد السياسة التركية الحديثة.

وتفترض هذه القراءة أن تغيير الإسلاميين العرب لسياساتهم وأيدولوجيتهم واتباعهم لخطى أردوغان سيمثل طريقا حتمية نحو النجاح في الحكم أو المعارضة في العالم العربي، دون أية إشارة إلى أن أردوغان لم يكن لينجح، بالإضافة إلى طريقة إدارته للعبة السياسية، إلا بتوافر ظروف سياسية واجتماعية أخرى، غير متوفرة في الدول العربية، وخصوصا مصر التي ينظر لها كأساس للمقارنة في قراءة المشهد التركي بالنظر إلى حجمها ومكانتها العربية.

اختلافات جوهرية
إن أولى الاختلافات الجوهرية بين المشهد التركي من جهة والمشهد العربي -والمصري تحديدا- خصوصا من جهة أخرى، هو غياب "السياسة" عربيا بمقابل وجود حياة سياسية نشطة في تركيا، يمكن أن تؤرَخ بداياتها للعام 1945 وهو العام الذي انتهت فيه سياسة حكم الحزب الواحد، فيما ظلت الجمهوريات العربية تستبد بالحياة السياسية من خلال حكم الفرد الواحد وليس فقط الحزب الواحد منذ قيام الدولة القطرية إلى اليوم.

ومن الطبيعي أن تكون تجربة التعددية التركية -بالرغم من كل ما شابها خلال العقود الماضية- قد ساهمت في صقل الأحزاب السياسية المختلفة بما فيها الإسلاميون أو الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية، وهو الأمر الذي تفتقده الحركات الإسلامية العربية، فلا هي تمتلك تجربة غنية كتجربة الإسلاميين الأتراك، ولا خصومها أو نظراؤها من الأحزاب العلمانية والقومية واليسارية يمتلكون تجربة ثرية كتجربة المعارضة التركية اليوم.

أولى الاختلافات الجوهرية بين المشهد التركي والمشهد العربي هو غياب "السياسة" عربيا بمقابل وجود حياة سياسية نشطة في تركيا، يمكن أن تؤرَخ بداياتها للعام 1945

ونظرا لطول تجربة التعددية السياسية التركية، فإن قدرة الجيش التركي على العبث في الحياة السياسية أصبحت محدودة جدا، بعد صراع طويل مع التيار الإسلامي و"ما بعد" الإسلامي التركي، ابتداء من نجم الدين أربكان وحتى اليوم، وبعد أن استبعدت المعارضة التركية خيار اللجوء للجيش لمواجهة أردوغان.

أما في الجانب العربي، فإن الجيش وفي بعض الدول الأمن لم يغادر الحياة السياسية أصلا، وظل يراوح بين العمل في صدارة المشهد السياسي، أو من خلف الستارة، كما أن التيارات المعارضة للإسلاميين التي تفتقر بدورها للتجربة السياسية والقيم الديمقراطية لم تتورع عن استدعاء الجيش في الحياة السياسية، بل ولعب دور "المحلل" له كما حدث في مصر على سبيل المثال.

أما الاختلاف الجوهري الثاني فهو يرتبط بالوعي الشعبي بالسياسة، ومستوى التعليم، وبالتالي مستوى القدرة على قراءة الأحداث السياسية واتخاذ رأي وموقف تجاهها.

وإذا أخذت مصر على سبيل المثال للمقارنة مع تركيا، فإن الأخيرة تتقدم بمستوى محاربة الأمية على مصر بأكثر من عشرين درجة مئوية، حيث تصل نسبة الأمية في مصر حوالي 26.1% فيما تنخفض النسبة في تركيا إلى 5.9% (حسب موقع الـ سي آي أي).

إن الفارق الكبير بين مستوى الأمية في البلدين يمكن أن يعطي دليلا واضحا على التعسف في نزع تجربة حزب العدالة والتنمية التركية عن سياقها المجتمعي، ومطالبة الإسلاميين العرب بالوصول إلى نتائج مماثلة لنتائج الحزب في بيئة ذات مستوى علمي أقل، ما يجعلها أكثر عرضة للتلاعب من قبل السياسيين والإعلاميين.

ولذلك فقد نجح الإعلام المصري على سبيل المثال في توجيه نسبة كبيرة (لا يمكن تحديدها بالضبط) من الشعب المصري باستخدام بروباغاندا إعلامية بدائية، في حين فشل الإعلام التركي المعادي لأردوغان بإقناع الشعب التركي بتغيير موقفه تجاه العدالة والتنمية رغم شدة الحملة التي وجهت ضده في الأشهر التي سبقت الانتخابات.

وعندما يتم استعراض بعض الفروق الجوهرية بين المشهد التركي ونظيره العربي، فإن المقصود من ذلك تأكيد الاختزال في مقارنة تجربة أردوغان بتجربة حركات "الإسلام السياسي" العربية، ولكنه لا يعني بأية حال التقليل من أخطاء هذه الحركات، إذ إن المسار الذي اتخذته الحركات الإسلامية -وخصوصا في الحالة المصرية- قد ساهم في تقوية خصومها في الداخل والخارج، ولكن هذه الحركات، حتى لو اختطت مسارا آخر على خطى التجربة الأردوغانية كما يطالبها البعض، فإن هذا المسار لن يغير من جوهر النتيجة النهائية شيئا، ولكنه سيؤثر في بعض التفاصيل غير الجوهرية التي ليست محل النقاش الآن.

دروس التجربة التركية
على الرغم من الفروق الجوهرية بين المشهدين التركي والعربي، فإن التجربة الديمقراطية التركية يمكن أن تمثل نموذجا للتيارات الإسلامية والعلمانية العربية على حد سواء.

وبدلا من الاكتفاء بمطالبة الإسلاميين العرب باقتفاء تجربة أردوغان، فإن التيارات السياسية العلمانية هي الأخرى مطالبة بالاستفادة من التجربة التركية جنبا إلى جنب مع الإسلاميين.

إن الرسالة الأساسية والأهم للتيارات الإسلامية هي ضرورة تحديد الهوية، ووقف الاعتماد على مبدأ "الغموض البنّاء" الذي تنتهجه معظم حركات الإسلام السياسي العربية، التي لا يزال معظمها تائها بين شعارات أيدولوجية "إسلامية" وبين القبول بلعبة السياسة وفق المفاهيم الليبرالية والديمقراطية.

ولعل الأشد خطورة في هذا الغموض، هو أن كثيرا من التيارات الإسلامية تتبنى خطابا إعلاميا مختلفا أو متناقضا في بعض الأحيان، بحسب نوعية الجمهور الذي يوجه إليه الخطاب.

لقد حسم حزب العدالة والتنمية هويته منذ تأسيسه، وأعلن قطيعته الأيديولوجية مع التيار الإسلامي السياسي التركي (حزب الفضيلة ثم حزب السعادة)، وأقر أنه حزب يعمل وفق شروط الدولة العلمانية دون أن يتخلى عن احترامه للدين، مع تمسكه برؤية "معتدلة" للعلمانية لا تتحكم الدولة وفقها بالتدين الشخصي للمواطنين، ولكنها لا تحكم وفق "الشريعة الإسلامية".

وبينما دخل أردوغان وحزبه العمليات الانتخابية المتتالية منذ تأسيسه في العام 2001 على أسس واضحة، لا تزال الحركات الإسلامية العربي في معظمها تحمل خطابا مزدوجا مائعا لم يحسم هويته الفكرية والأيديولوجية، وفي أحسن الحالات -كما هو الحال مع حزب حركة النهضة التونسية- فإن كثيرا من الدارسين للحركة يلحظون بونا شاسعا بين أفكار قيادة الحركة وخصوصا الشيخ راشد الغنوشي وبين أفراد الحركة الذين لا يزالون يؤمنون برؤية أكثر "أيديولوجية" من تلك التي يؤمن بها ويحملها الشيخ راشد الغنوشي.

وليس المطلوب بالطبع من كافة حركات الإسلام السياسي العربية أن تتبنى رؤية مماثلة لرؤية حزب العدالة والتنمية التركي، بل المطلوب من هذه الحركات تحديد هويتها بشكل حاسم وواضح، وإعلان هذه الهوية ونشرها بين أفرادها، وهذا الوضوح يتحقق منه أمران:

الأول: أن محاسبة الحركات الإسلامية شعبيا ستتم بناء على الهوية المعلنة بوضوح، بدلا من الوقوع في التناقض بين الشعارات الأيديولوجية والتطبيق العملي للسياسة على الأرض، كما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر مثلا، التي أظهرت تناقضا كبيرا بين ما كانت تطرحه في المعارضة وما مارسته في الحكم.

فشلت القوى العلمانية العربية منذ عقود بالوصول إلى القواعد الشعبية، لأسباب كثيرة من بينها عدم قدرة معظمها على إظهار الاحترام اللازم للمشاعر الدينية لدى الشعوب، وفشلها في صياغة خطاب متصالح مع الدين

والثاني: هو أن من ينتخب الحركات الإسلامية ويختارها سيفعل ذلك بناء على أيديولوجيا واضحة المعالم، وبالتالي سيكون قادرا على الدفاع عن اختياراته والتضحية لأجلها.

وعلى صعيد الرسائل الموجهة للقوى المدنية والعلمانية العربية من التجربة التركية، فإن أهم ما يمكن قوله هو أن المشهد التركي الذي شهد حالة استقطاب تاريخي قبيل الانتخابات البلدية وصل برغم الاستقطاب إلى نهاية ديمقراطية احتكمت إلى صناديق الانتخابات، ولم يكن هذا ليحدث لولا أن كل القوى التركية ارتضت بقواعد اللعبة الديمقراطية، ولم يتورط أي طرف منها باستدعاء الجيش للانقلاب على الديمقراطية، كما فعلت القوى العلمانية في مصر.

وإضافة إلى ذلك، فإن القوى العلمانية العربية مطالبة بدراسة المشهد التركي لتعرف أهمية احترام الدين لدى الشعوب المسلمة، إذ إن النجاح المستمر منذ أكثر من 12 سنة لحزب العدالة والتنمية استفاد بشكل واضح من قدرة الحزب على مخاطبة الشعور الديني المتصاعد في تركيا، بالمزاوجة مع الإنجازات العملية والاقتصادية التي حققها خلال تسيّده للساحة السياسية التركية.

ولهذا فقد اضطرت بعض الأحزاب العلمانية التركية لاستخدام بعض الشعارات لمغازلة الفئات الأكثر تدينا من الشعب التركي أثناء الانتخابات الأخيرة.

لقد فشلت القوى العلمانية العربية منذ عقود بالوصول إلى القواعد الشعبية، لأسباب كثيرة من بينها عدم قدرة معظمها على إظهار الاحترام اللازم للمشاعر الدينية لدى الشعوب، وفشلها في صياغة خطاب إعلامي متصالح مع الدين الذي يمثل قيمة عظمى للغالبية الساحقة من المسلمين، وهي بحاجة لإعادة النظر بخطابها إذا أرادت الحصول على التأييد الشعبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.