سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه ليبيا

سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه ليبيا

تشعر الصحافة الأوروبية بعقدة الذنب تجاه ليبيا، فدائما ما تلقي اللوم على دول الاتحاد في أنها أزاحت العقيد القذافي ولم تؤمن استقرارا سياسيا أو أمنيا لليبيا.

كما أن الوضع في ليبيا بات يمثل تهديدا للأوروبيين بسبب وجود تنظيمات سلفية جهادية، وتصدير الهجرة غير الشرعية، فضلا عن احتمال وجود نقص حاد في إمدادات الغاز والبترول لبعض دول الاتحاد أبرزها إيطاليا بسبب سيطرة مليشيات مسلحة على مرافئ وحقول تصدير البترول والغاز.

وتتهم الصحافة الغربية دولا كبرى ساهمت في مساعدة الثوار الليبيين على الإطاحة بنظام العقيد القذافي بإهمال ليبيا وتركها تواجه مصيرها. فعنونت صحيفة اللوموند افتتاحيتها يوم 19 مارس/آذار الماضي -ليبيا بلد يتخلَى عنه الجميع- في إشارة إلى الدول التي ساهمت في الإطاحة بنظام معمر القذافي وبقيت شاهدة على فوضى غير مسبوقة في هذا البلد.

يمثل الوضع في ليبيا تهديدا للأوربيين بسبب وجود تنظيمات جهادية، وتصدير الهجرة غير الشرعية، فضلا عن احتمال وجود نقص حاد في إمدادات الغاز والبترول الليبي لبعض دول الاتحاد

بينما تساءل موقع إنترناشونال بيزنس نيوز في نسخته الألمانية بمقال نشر يوم 18 مارس/آذار بعنوان "ليبيا دولة محطمة بعد ثلاث سنوات من الثورة" عن جدوى ما قامت به القوى الغربية في ليبيا، حيث لا تبدو ليبيا اليوم أفضل مما كانت عليه زمن القذافي.

في أبريل/نيسان الجاري قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون خلال لقاء عقدته مع الوفد الليبي المشارك في أعمال القمة الأوروبية الأفريقية في بروكسل: إن الموقف في ليبيا يدفع إلى الفزع.

وبحسب وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء فإن آشتون تتجه لتعيين ممثل خاص بها في ليبيا، في مسعى لتعزيز المساهمة الأوروبية في إدارة المرحلة الراهنة بليبيا.

وكما يبدو أن دور المبعوث الخاص سيكون سياسيا عبر تواصله مع اللاعبين الأساسيين بالساحة الليبية من أحزاب سياسية وقادة مليشيات مسلحة وزعماء قبائل محليين، وتقديم تقارير دورية لوزراء خارجية دول الاتحاد، وليس استخباراتيا كما يعتقد البعض، فليبيا بلد مفتوح لكل أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، ومن ثم لا حاجة لدور استخباراتي يقوم به مبعوث الاتحاد الخاص بليبيا.

تظل قضية مكافحة الإرهاب هاجسا مشتركا بين دول الاتحاد وبين الولايات المتحدة الأميركية، وفي ليبيا يتجسد هذا الهدف بمنع وصول أسلحة من ليبيا عبر مصر لحماس أو الجهاد الإسلامي بغزة عبر أولوية أكبر للجميع وهي الالتزام بأمن إسرائيل، خاصة بعد ثورتي مصر وليبيا والتي سقط فيهما مفهوم أمن حماية حدود البلدين، وإمكان تهريب أسلحة خفيفة ومتوسطة عبر دروب صحراوية يعرفها قاطنو حدود البلدين.

كما أن مسألة انتشار الإرهاب بدول شمال أفريقيا ومن ثم تغوله بالعمق الأفريقي يشكل ضغطا كبيرا على الدول الكبرى المعنية بهذا الشأن وعلى الأخص الولايات المتحدة الأميركية.

لكن في ظل تراجع الدور الأميركي حول العالم لا يُتوقع للولايات المتحدة تحت إدارة أوباما تقديم رؤى إستراتيجية واضحة حول ليبيا، ونُقل عن مصادر أن الولايات المتحدة فوضت الاتحاد الأوروبي بمساعدة ليبيا على الاستقرار، فيما يشبه تاريخيا تخلي القوى الكبرى عن دورها (فرنسا، بريطانيا) بعد الحرب العالمية الثانية لصالح أميركا في منطقة الشرق الأوسط.

وتثق الولايات المتحدة كثيرا في إيطاليا كدولة تُعتبر حليفا وشريكا إستراتيجيا لليبيا، إذ تتوغل إيطاليا بليبيا عبر شركة إيني الإيطالية الحكومية.

كما نقلت نفس المصادر أن الخارجية الأميركية أبلغت المسؤولين بتونس عن عدم نيتها التدخل في الشأن الداخلي التونسي، ولا يهم الإدارة الأميركية أن يكون النظام السياسي بتونس دكتاتوريا أو شموليا، بل كل ما تنبه إليه حكومة الولايات المتحدة هو ضرورة قيام الحكومات التونسية المتعاقبة بمكافحة الإرهاب.

لكن من زاوية أخرى لا يبدو الاتحاد الأوروبي كمنظومة قادرا على تقديم الكثير لليبيا، فهو غارق في أزماته الاقتصادية العاصفة التي تحد من قدرته على الفعل سواء على المستوى السياسي أو العسكري.

تركز الصحافة الفرنسية من منطلق وفكر صانع السياسة الفرنسية على اعتبار الجنوب الليبي مرتكزا رئيسيا من مرتكزات الجماعات المتشددة، وخزانا تتجمع به قيادات وقدرات تنظيم القاعدة بأفريقيا

بالطبع لا يرغب الاتحاد الأوروبي في وصول الإسلاميين للسلطة بليبيا، ويتمنى أن يكون شركاؤه بها من طبقة رجال الأعمال التي تتخذ من الأخلاق الليبرالية والرأسمالية أسلوبا سياسيا واقتصاديا يحمي بدرجات كبيرة مصالح الاتحاد ببلد لم تعرف نخبه هذه الأخلاق الجديدة أو تمارسها في أي عهد من عهود ليبيا.

على الأقل الآن يقف الاتحاد مذهولا أمام جرأة بوتين، والذي يعتقد أن روسيا أخلت مكانها بليبيا للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا بقدر كبير وألمانيا بقدر أقل، وعلى المتعجرفين الأوروبيين ألا يلعبوا في ملعب روسيا الأوكراني الإستراتيجي.

لا يبدو أن ثمة مقاربات سياسية ذات ملامح عقابية يستطيع بها الاتحاد الأوروبي ردع روسيا في الوقت الحالي، فالأوراق المتناثرة بين الفريقين بسوريا وإيران وأكرانيا وليبيا والعراق ولبنان، لا تسمح لأي منهما أن يكون الفائز الأوحد، إنها أشبه بسايكس بيكو غير معلنة لا تفرضها المفاوضات بعد حروب منهكة، بل يفرضها الاقتصاد المنهك واختبار أي الطرفين أقدر على تحمل تبعات التحرك العسكري.

مع ذلك ثمة سياسات متعارضة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي بليبيا، وهي سياسات جزئية متعارضة فيما بينها تستخدم فيها كل دولة قدرتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة.

ففرنسا تعتبر ليبيا المدخل الرئيس لها بالعمق الأفريقي محاولة استغلال إرث القذافي السابق بأفريقيا وما خلفته ليبيا بالقارة السمراء من استثمارات ضخمة، وهي البلد الذي كان محتلا للجنوب الليبي ويعرف خبايا تلك المنطقة وكيفية استمالة القادة المحليين من تبو وعرب وطوارق إلى صفها وخلق فراغات بين هذه المكونات للاستفادة منها.

تركز الصحافة الفرنسية من منطلق وفكر صانع السياسة الفرنسية على اعتبار الجنوب الليبي مرتكزا رئيسيا من مرتكزات الجماعات المتشددة، وكونه خزانا تتجمع به قيادات وقدرات تنظيم القاعدة بأفريقيا.

فمثلا ذكر موقع الإذاعة الفرنسية الخاصَة "آر تي إل" في تقرير يوم 14 أبريل/نيسان بعنوان -الجهادي مختار بلمختار ينتقل إلى ليبيا- "أن القائد الجهادي مختار بلمختار الذي قاد الهجوم الدموي على موقع عين أميناس الغازي في الجزائر تحول إلى ليبيا".

وذكر موقع أفريك انسايد الناطق بالفرنسية في تقرير نشر يوم 27 مارس/آذار الماضي بعنوان -ليبيا ملاذ جديد للإرهاب- "أن تدخل فرنسا في مالي لمواجهة مد الجماعات الإسلامية في إقليم أزواد الشمالي كان للحد من تأثيرات الوضع الأمني المضطرب في ليبيا على منطقة الساحل الأفريقي" (الترجمات الموجودة من المرصد الليبي للإعلام).

ناهيك عن تحذير وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان من أن جنوب ليبيا تحول إلى وكر أفاع للمتشددين الإسلاميين يستخدمه الجهاديون للحصول على السلاح وتجنيد العناصر. ففرنسا تستخدم الملف الليبي لصالح مشروعها الاقتصادي والأمني بأفريقيا.

بينما كل من له دراية أو معرفة بسيطة بالجنوب الليبي يعلم أنه مسرح لصراع على منافذ التهريب (السلاح، السلع، الهجرة غير الشرعية، المخدرات) بين مجموعات مسلحة عربية وأخرى من التبو والطوارق، وأن فزاعة القاعدة بالجنوب الليبي غير مسلم بها في مناطق الجنوب.

إيطاليا البلد الأقرب تاريخيا واقتصاديا وأمنيا لليبيا غارق هو الآخر في مشاكله السياسية التي لم تنته من قرابة العشرين عاما، فضعف النظام السياسي الإيطالي سيضعف الدور الإيطالي بليبيا.

 
لا يبدو الاتحاد الأوروبي قادرا على تقديم الكثير لليبيا، فهو غارق في أزماته الاقتصادية العاصفة التي تحد من قدرته على الفعل سواء على المستوى السياسي أو العسكري

بريطانيا لها طموحات بالعودة إلى شمال أفريقيا من بوابة ليبيا، كما لها مصالح اقتصادية كبرى بليبيا وتريد لشركاتها ومستثمريها أن يكون لهم موطئ قدم ببلد به فرص جيدة للاستثمار في حال توفر الأمن ولا مناص لبريطانيا من أن تكون شريكا في صناعة هذا الاستقرار.

ألمانيا ليس لها إرث استعماري بالمنطقة، وسياستها الخارجية تجاه ليبيا والشمال الأفريقي محدودة الطموح، وتتركز رؤاها الخارجية بشرق أوروبا مجالها الحيوي تحديدا. لكنها تطمح للمنافسة الاقتصادية والدخول كشريك مهم لأفريقيا عبر ليبيا ومنافسة الصين التي تعمل بصمت تام في مناطق نفوذ الغرب القديم.

ليبيا لم تستقر داخليا بعد، وبالتالي من الصعب التكهن بسياسة خارجية ليبية لها مواقف محددة من هذه الخارطة المعقدة والمتشابكة، ولذا ستظل ليبيا المجال الحيوي لصراع الدول الأوروبية الكبرى الأربعة، لكن يبدو أن المشروع الفرنسي هو الأخطر على ليبيا، كونه مشروعا يقوم بالأساس على توتير المنطقة وجعلها محل اتهام دائم.

خاصة إذا ما علمنا أن فرنسا أعاقت تحالف الحكومة المالية وبعض القبائل بشمال مالي والمتضررة من تنظيم القاعدة على ضرب قواعد التنظيم بشمال مالي، بل وحاولت دفع ليبيا لدفع وتحمل فاتورة حربها في مالي التي لن تنتهي ما دامت الأطماع الفرنسية قائمة ويحتضنها مخضرمون كمحمود جبريل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.