ربيع تونس.. يُدرك بالسفارات ما لا يُدرك بالعسكر

لهيب الأسعار ضعف القوة الشرائية للتونسيين عقب الثورة

المشهد الانقلابي
تصفية الإرث الثوري
النهضة ومحنة السلطة
الرئاسة ومرمى النار
مآلات الربيع

عندما عجز الانقلابيون عن استنساخ النموذج المصري في تونس بسبب اختلاف السياقين الثوريين وتمايز التركيبة الأمنية والعسكرية في كلا البلدين، حركت آلة الانقلاب مخالبها الدبلوماسية لخنق الربيع العربي في مهده حتى لا يمتد لهيبه إلى الجوار المغاربي فيغري غيره به خاصة إثر قساوة الدرسين المصري والسوري فيكتفي منه ببعض الإصلاحات السطحية دون تغيير كبير في عمق الدولة وتحقيق أهداف الثورة.

أنجزت السفارات الأجنبية -بطلب من الإخوة العرب- عملا جبارا في تونس من خلال فرضها الشرعية التوافقية على الشرعيتين الثورية ١٧ ديسمبر/كانون الأول٢٠١٠ والانتخابية ٢٣ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١١ مشغلة في سبيل ذلك أقصى طاقات أذرعها الإعلامية والسياسية والمالية وتحريك خلاياها المستيقظة في صفوف النخب التي تنكرت منذ البداية لمصالح أمتها بعد أن عرت نسائم الربيع زيف نضالاتها.

المشهد الانقلابي
المشهد التونسي مخالف للمشهد المصري رغم انخراط المشهدين في السياق نفسه، فمصر تقف على باب نفق مظلم لا يعلم منتهاه إلا الله ثم الراسخون في العلم الاستخباراتي وبعض عرابي الانقلابات في المنطقة العربية.

ما تسعى إليه القوى المعادية للثورة في الداخل ممثلة في أذرع الدولة العميقة بركائزها البوليسية والإعلامية والقضائية هو الحد قدر الإمكان من المساحات التي اكتسحها حريق المخبر العربي منذ انفجار الثورة

هناك نجح العسكر بفضل الدعم الخارجي القوى وغباء الإخوان السياسي في الانقلاب على السلطة الشرعية انتخابيا وإعلان انتهاء الفسحة الثورية ثم اختطاف الرئيس الشرعي وحرق المتظاهرين أحياء في ميادين القاهرة والتأسيس لواحدة ستكون دون شك من أحلك الفترات في تاريخ مصر الحديث إن لم تستعد القوى الحية في مصر ثورتها وتنفض عنها غبار العسكر السام.

أما في تونس فتتهاطل منذ مدة الأخبار السارة بشكل مريب من توافق وطني بين أطراف لا علاقة لها بالثورة أساسا واختيار رئيس الحكومة المسقط خارجيا ثم المصادقة على دستور لا يختلف عن دستور بن علي كثيرا ولا يملك أصلا آليات إنجازه اليوم، فالقضاء على إرهاب مصطنع وتطهير جبل الشعانبي الشهير وتصفية قتلة بلعيد والبراهمي، ثم تعلن النقابات العمالية عن هدنة اجتماعية بعد أن دمرت الاقتصاد وركعت المجتمع خلال ثلاث سنوات ثم يصمت الإعلام الانقلابي فجأة ويزغرد الجميع.

لقد هلل الخارج قبل الداخل، وبارك الجميع شرقا وغربا نجاح الربيع العربي في مهده تونس بعد المصادقة على الدستور العظيم وأرسل العم سام تهانيه المفعمة بالحرية والأماني- الصادقة طبعا- لشعب تونس الكريم، متعللين بكذبة كبيرة صدقها التونسيون أنفسهم، وهي أن شعب تونس مختلف عن الشعوب العربية الأخرى، في حين أن تونس -لمن لا يعلم- مَخبر متقدم للحداثة الكاذبة والديمقراطية المزيفة، مَخبر انفجر فجأة نتيجة خلل في المقادير الكيميائية التي لم يحسن بن علي وزبانيته خلطها فامتد الحريق إلى بقية المخابر العربية الأخرى ولا يزال.

ما تسعى إليه القوى المعادية للثورة العربية في الداخل ممثلة في أذرع الدولة العميقة بركائزها البوليسية والإعلامية والقضائية هو الحد قدر الإمكان من المساحات التي اكتسحها حريق المخبر العربي منذ انفجار ١٧ ديسمبر/كانون الأول العظيم في ريف سيدي بوزيد والقصرين ومنطقة الشمال الغربي التونسي.

تصفية الإرث الثوري
هذا المشهد المشبوه لعبت في تأثيثه السفارات الأجنبية بتونس دورا محوريا وحاسما، حيث كان الحج إلى إقامات السفراء الأجانب في تونس يوميا من طرف أحزاب المعارضة والأحزاب الحاكمة على السواء، وزار السفراء الأجانب كل مقار الأحزاب السياسية في تدخّل فاضح بالشأن الداخلي، بل إن منهم من قاد مظاهرات تطالب بإسقاط الحكومة.

اليوم ومع رحيل الحكومة الشرعية بدأت تطفو على السطح مؤشرات غير مطمئنة لتنبئ بأن في الأعماق مشاريع لتصفية ما تبقى من الثورة، أبرز هذه المؤشرات عودة مباغتة للدولة البوليسية من خلال حملات اعتقال وحشية طالت رموزا كثيرة من رموز الثورة -روابط حماية الثورة وقضية المناضل عماد دغيج مثلا- يقابلها تسريح مفاجئ وعفو عن رموز كبيرة من رموز الفساد والقمع في عهد بن علي، حتى أن بعضهم لا يستغرب أن يطالب الرجل بمحاكمته في تونس في ظل الحكومة الجديدة.

من المؤشرات الأخرى صمت إعلامي رهيب عن أداء الحكومة رغم التخبط الكبير في أدائها وإقدامها على إجراءات تطبيع مع الكيان الصهيوني ورفع الأسعار وبيع قطاعات حيوية في البلاد، وهي إجراءات كانت ستحرق الأرض لو حدثت في زمن الحكومة القديمة.

رئيس الجمهورية ما زال لاعبا يمثل عائقا كبيرا في وجه الثورة المضادة، ويعسر التعامل معه بآليات الشيطنة نفسها التي جوبهت بها التيارات المحافظة، وسيكون  عنوان الحرب القادمة

هذا الإعلام -الذي خدم الثورة المضادة وكان واحدا من أعمدتها المركزية كما كان قبل ذلك حجر الزاوية في منظومة بن علي الاستبدادية- تحول اليوم إلى حمل وديع أمام الحكومة الجديدة بل صارت أجنحته الخفية تقصف بعض الوجوه الإعلامية التي ما زالت تحافظ على قدر من النزاهة.

الأعمدة الثلاثة -التي تسند الثورة المضادة ممثلة في ذراع الدولة الأمنية العائد بقوة وذراعها القضائية وذراعها الإعلامية- ما كان لها أن تغير وجهة حركتها وطبيعتها لو لم تبرم صفقة في الخفاء لعبت فيها السفارات الأجنبية الدور الأبرز.

النهضة ومحنة السلطة
أغلب الآراء ترى أن حركة النهضة المحسوبة على التيار الإسلامي قدمت كل التنازلات الممكنة بل حتى غير المطلوبة في كثير من الأحيان خاصة بعد فاجعة الانقلاب المصري، قدمت ذلك للخارج عامة والأميركي منه بشكل معلن ولوكلائه في الداخل، مضحية بنسبة كبيرة من قواعدها التي رأت في ذلك تنكرا من قادة المهجر لتضحيات الداخل سنوات الجمر.

هذا الرأي يتأسس على قراءة عدم وعي الجماعة، فالحركة الإسلامية لا تثق في الشارع التونسي عامة متأثرة بموقف الجماهير المحايد من صراع الإسلاميين مع النظام البوليسي لـ"بن علي" في بداية التسعينيات من القرن الماضي حين حاول الإسلاميون جر الشارع إلى معركة ليست معركته فلم يستجب.

قد يقرأ هذا التنازل أيضا في إطار وعي قادة الحركة بالمعجزة التاريخية التي قذفت بهم من المنافي إلى هرم السلطة، فهم لم يكونوا قادحا للثورة ولا دافعا لها، بل استفادوا منها بشكل كبير باعتبارهم الفصيل السياسي الأكثر تنظيما عند هروب بن علي وبقاء معارضته الكسيحة فاقدة الاتجاه من هول الصدمة، فالشعب وطبقاته الفقيرة هما من قاما بالثورة، وهما من حرر حركة النهضة من الاستبداد، وليست حركة النهضة هي من حررت الجماهير وأنجزت الثورة.

مفاجأة الوجود في السلطة أذهلت الجميع بمن فيهم قادة الحركة التي لن تضيع هذه الفرصة التاريخية فتسمح لنفسها بمغادرة المشهد ولو كان ثمن ذلك التحالف مع التجمع الدستوري في ثوبه الجديد أو نداء تونس حزب الهارب بن علي مثلما صرح بذلك مؤخرا أحد قادة الحركة.

قراءات أخرى من داخل الجماعة ترى في تنازلات الحركة مناورات سياسية لا غير، تراعي ما يسمح به هامش المناورة الضيق في محيط شديد العداء بما يمكّن الحركة من تجنب المواجهة وتلقي صدمات قاصمة مثلما حدث في مصر، وهي قراءة يغيب عنها أن الثورة المضادة في الخارج ووكلائها في الداخل واعون هم أيضا بهذه المعادلة وبهذا الهاجس الذي تعود جذوره القريبة إلى تجربة الإسلاميين في الجزائر أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

الرئاسة ومرمى النار
رئيس الجمهورية لاعب آخر ما زال يمثل عائقا كبيرا في وجه الثورة المضادة ويعسر التعامل معه بآليات الشيطنة نفسها التي جوبهت بها التيارات المحافظة، وسيكون من دون شك عنوان الحرب القادمة بين إعلام الاستبداد وزبانيته وبين الثورة ومكاسبها، خاصة بعد أن أُجبرت كل مكونات الترويكا الحاكمة على مغادرة مواقع الحكم باستثناء المجلس التأسيسي.

قد لا تجد الدولة العميقة ونظام العصابات الذي يدعمها من التهم ما يمكن إلصاقه بصورة الرئيس خاصة مع الشعبية الكبيرة التي يحظى بها في الأوساط الفقيرة والشعبية وكذلك خارج تونس، لكنها من ناحية أخرى ستناور من خلال محورين متلازمين بعد فشل الانقلاب.

لا يجادل أحد أيضا في أن أعظم مكاسب الربيع العربي هو ما عراه من مشاهد مفزعة وتحالفات مرعبة ما كان العقل العربي ليتخيلها أو يصدقها

يتمثل المحور الأول في عقد صفقة سياسية عبر إغراء الأوفر حظا في الانتخابات القادمة بالتضحية بالرئيس نفسه مقابل تنازلات معينة، وقد سبقت ذلك صفقات كثيرة -منها لقاء باريس الشهير- لكنها لم تكلل بالنجاح.

أما المحور الثاني فيتمثل في مواصلة شيطنة صورة الرئيس ومحاولة تفكيك الدوائر المحيطة به، وهي تقنيات تتقنها أنظمة العصابات العربية، وقد حققت نجاحين كبيرين في ذلك منذ تولي الدكتور المرزوقي سدة الرئاسة: التخلص من رئيس الجمهورية حجر مركزي في إنهاء المشروع الثوري في تونس، والذهاب به إلى أدنى ما يمكن أن يحققه من إنجازات خاصة بعد أن أفشلت الرئاسة محاولات انقلابية جدية كادت تعصف نهائيا بالمكسب الثوري.

مآلات الربيع
لا يختلف اثنان في أن الربيع العربي عصف بمصالح طبقات بأسرها، وهدد ثروات وأنظمة بالزوال والاختفاء رغم براميل النفط الداعمة للانقلاب وبراميل المتفجرات الحامية للاستبداد، وهو ما يفسر في جزء كبير منه شراسة المقاومة التي تبديها أنظمة العصابات العربية في مواجهة التغيير وحجم الدموية التي تقابل بها محاولات القضاء عليها، لأن جوهر الصراع اليوم هو الوجود نفسه لمن دأب منذ نصف قرن أو يزيد على استنزاف ثروات الأمة وبيعها لأعدائها.

لا يجادل أحد أيضا في أن أعظم مكاسب هذا الربيع هو ما عراه من مشاهد مفزعة وتحالفات مرعبة ما كان العقل العربي ليتخيلها أو يصدقها، من كان يتصور أن الجيوش العربية إنما صُنعت لذبح شعوبها وحماية أنظمة العصابات العائلية أو الطائفية أو "الثورجية" التي تتحكم في رقاب الناس؟

كشف النقاب هذا هو بلا شك أعظم المكاسب التي تحققت للوعي العربي بفضل هذا الربيع، وهو كشف سيعيد حتما تشكيل وعي جديد سيمثل مركز الحركة الثورية القادمة آجلا أم عاجلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.