كي تنجح اليمن في مواجهة إرهاب القاعدة

قيادة الجيش اليمني تواصل الحملة العسكرية ضد عناصر القاعدة في شبوة

قد ينظر إلى حالة اليمن الراهنة، على أن السلطة في صنعاء استصعبت معركتها السياسية طويلة المراحل، بكل تعقيداتها القديمة: الموروثة من النظام السابق، والحديثة: المتخلقة بفعل متغيرات التصارع السياسي، لمرحلة ما بعد الثورة.

بدا مؤخرا وكأن القيادة اليمنية فضلت تأجيل معتركها السياسي والتنموي المعقد دائما، لخوض معركة سياسية أخرى ذات طابع عسكري، هدفها تصفية جماعات العنف المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.

على مدى العقدين الأخيرين، ظل الإرهاب القادم من تنظيم القاعدة مشكلة متنامية على الدوام. وفي السنوات الثلاث الأخيرة، التي أعقبت ثورة فبراير/شباط 2011، تزايد تناميها بشكل لافت حتى باتت القاعدة في اليمن أشبه بورم خبيث يكبر وينتشر بسرعة في جسد الوطن المريض.

في عهد الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، لم يكن إرهاب تنظيم القاعدة يمثل قلقا كبيرا على النظام والشعب. ذلك أن المعركة مع هذا التنظيم -بكل تفاصيلها السابقة- كانت لا تزال هما مقلقا للأطراف الغربية المتضررة بدرجة رئيسية من مغامراته الفتاكة، على رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

في الأعوام الثلاثة الماضية، وبعد أن تم التضييق على تحركاته العابرة للحدود، وأثبت عجزه عن استهداف مصالح الغرب في اليمن، انتقل إلى معركة متاحة وسهلة ضد الجيش والأمن لتغذية بقائه

لكن قواعد المعركة من جهة القاعدة تغيرت، ما بعد الثورة الشعبية الأخيرة، إلى معركة رئيسية مع النظام والشعب اليمني. إذ تحول التنظيم من قاتل للأميركيين والصليبين، إلى قاتل لوكلائهم المحليين، أولئك الذين ظل يطلق عليهم دائما "أذناب الصليبين والأميركيين".

وعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية، بعد أن ضيقت عليه الإجراءات الدولية المشددة تحركاته العابرة للحدود، وأثبت عجزا وفشلا ذريعا في استهداف مصالح الغرب داخل اليمن قبل خارجها، انتقل إلى معركة متاحة وسهلة لتغذية بقائه وإبقاء أنصاره في حالة عنف دائمة، حين كرس التنظيم جهده ووقته للتخطيط والاستعراض في استهداف قوات الجيش والأمن اليمني.

اغتال ما لا يقل عن 100 ضابط رفيع في الجيش والأمن والمخابرات، في وقت انتقل فيه لتنفيذ عمليات نوعية طالت مؤسسات ومنشآت الجيش اليمني في مختلف المحافظات، ودائما كانت ذريعته، وجود غرفة عمليات لإدارة ضربات الطائرات الأميركية بدون طيار.

في مارس/آذار 2012 هاجم معسكر "دوفس" في محافظة أبين الجنوبية وقتل ما لا يقل عن 180 ضابطا وجنديا، وفي مايو/أيار 2012 نفذ عملية انتحارية في عرض عسكري بميدان السبعين بصنعاء قتل فيها ما يقارب الـ100 من أفراد قوات الأمن الخاص، وأواخر سبتمبر/أيلول 2013 اقتحم المنطقة العسكرية الثانية في حضرموت وقتل ما لا يقل عن عشرة ضباط وجنود، ومنتصف أكتوبر/تشرين الأول 2013 اقتحم اللواء (111) بمحافظة أبين، وقال إنه قتل قرابة 40 ضابطا وجنديا.

ومطلع ديسمبر/كانون الأول 2013 نفذ عملية اقتحام مجمع وزارة الدفاع وقتل أكثر من 50 فردا بين ضابط وجندي وأطباء وممرضين ومدنيين، وفي الشهر نفسه حاول اقتحام الأمن العام بمحافظة عدن، وقال إنه قتل في العملية عددا كبير من الضباط والأفراد، وفي فبراير/شباط 2014 فجر سور السجن المركزي بصنعاء وقتل عشرة أفراد من الأمن وحرر 29 مسجونا من أفراده، وأواخر مارس/أذار الماضي هاجم نقطة عسكرية بمحافظة حضرموت وقتل ما لا يقل عن 20 جندي أمن، ومطلع أبريل/نيسان الماضي حاول اقتحام مقر المنطقة العسكرية الرابعة بمحافظة عدن وقتل عدد من الجنود.

وعلى تلك الحال، حولت القاعدة اليمن كلها إلى قاعدة أميركية تدير منها واشنطن عمليات "الدرونز". وحولت الجنود والضباط اليمنيين إلى وكلاء (عملاء) للشيطان الأكبر، فيما يحلق هذا الشيطان فوق رأسه دائما من على طائرات قنص حديثه تخطف أرواح قياداته وعناصره بين الحين والآخر.

تؤكد واشنطن أنها لم تعد مستهدفة أو لقمة سهلة لعناصر القاعدة في اليمن، وأنها فقط تساعد صنعاء على التخلص من هذا الشر الذي يدمر مقدراتها العسكرية والتنموية، مانعا عنها التنمية والاستثمار والتقدم والازدهار.

مطلع هذا العام، خرجت اليمن من مؤتمر الحوار الوطني الشامل بأجندة استحقاقات سياسية وتنموية وأمنية واجتماعية مزمنة وشاملة يتوجب العمل عليها خلال فترة محددة، لكنها على ما يؤكد الإجماع لن تزيد على عامين كاملين.

شكلت لجنة صياغة الدستور الجديد، كأحد تلك المخرجات وبدأت عملها منذ شهرين تقريبا، وقبل أسابيع فقط شكلت هيئة وطنية للرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار الوطني والإشراف ومتابعة لجنة الدستور.

تجربة القاعدة في اليمن الممتدة لأكثر من عقدين تمثل أحد المعطيات التي تؤكد قدرته على التكيف والعودة مرة أخرى بعد تعرضه لضربات قاصمة، ولذا يرى خبراء عدم الاندفاع في التأكيد على إمكانية القضاء نهائيا على التنظيم في اليمن

ومع هذه الخطوات البطيئة جدا، مقارنة بكم ونوع ما يجب القيام به وفقا لمخرجات الحوار، دخلت البلاد بداية في صراعات مسلحة تقودها جماعة الحوثي ضد قبائل معارضة لتوجهاتها في مناطق مجاورة لمحافظة صعدة التي تحكمها كليا منذ توقف حرب الدولة معها في العام 2010.

وحين بدأت تلك الجبهات بالهدوء، لم يسعفها الوقت كثيرا لتدخل البلاد في أزمة مالية خطيرة امتدت لتشمل انعدام المشتقات النفطية للاستهلاك المحلي، إلى جانب بلوغ البلاد عجزا غير مسبوق في توفير الطاقة الكهربائية، بل أكثر من ذلك تهدد الأزمة المالية بعدم قدرة حكومة الوفاق على تغطية نفقاتها لأكثر من ثلاثة أشهر قادمة، حسب تصريحات متطابقة لمسؤولين في الحكومة.

وفي غمرة ذلك كله، قررت الدولة أن الوقت قد آن لتنفيذ حملة عسكرية مؤجلة منذ عامين لاستئصال سرطان تنظيم القاعدة.

في الواقع، لقيت الحملة العسكرية الموسعة ضد القاعدة، التي انطلقت في 29 أبريل/نيسان المنصرم، تأييدا شعبيا واسعا شمل مختلف أطراف الحياة السياسية وشرائح المجتمع المختلفة.

بدت الدولة هذه المرة، وكأنها عازمة فعلا على التخلص من مشكلة إرهاب القاعدة. ترتكز العملية برا على تمشيط قوات الجيش والأمن، بمساعدة مسلحي اللجان الشعبية، للمناطق التي تتواجد فيها قيادات التنظيم وعناصره في محافظتي أبين وشبوة، جنوب شرق البلاد، فيما تساندها قوات سلاح الجو بتوجيه ضربات متواصلة لمكامن العدو، إلى جانب إرشاد وتوجيه القوات البرية.

وفي أقل من أسبوعين حققت الحملة العسكرية انتصارات ساحقة، شملت الإعلان عن قتل المئات من عناصر القاعدة بينها قيادات محلية وأجنبية. في اليومين التاسع والعاشر من الحملة أعلنت وزارة الدفاع أنها تمكنت من فرض سيطرتها على المواقع والمناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم في مديريات محافظتي أبين وشبوة.

لكن، ومع بدء شعور خلايا التنظيم بالمحافظات الأخرى بدنو الهزيمة، بدأت بمحاولات فتح جبهات جديدة بالعاصمة صنعاء، ومحافظات البيضاء وحضرموت للتنفيس والتخفيف عن عناصر التنظيم المطاردة في ميدان المعارك، من خلال تنفيذها عمليات هجومية وانتحارية ضد عناصر الجيش والأمن، لكن معظم تلك المحاولات فشلت في العاصمة صنعاء على الأقل، حيث منيت قيادات وعناصر خلايا نائمة بالقتل والاعتقال من قبل أجهزة الأمن.

الآن، يبرز التساؤل الأهم: هل تتجه اليمن حقا نحو النجاح في استئصال إرهاب القاعدة؟
أولا: لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الحملة العسكرية الموسعة تتم بمباركة ودعم إدارة الرئيس أوباما. إذ تنظر الإدارة الأميركية إلى فرع تنظيم القاعدة في اليمن كتهديد خطير ما زال قائما، حتى رغم كونه تخلى، أو بالأحرى بات عاجزا عن استهداف مصالحها في اليمن وأميركا والعالم كله.

بل تنظر واشنطن إلى زعيم القاعدة في الجزيرة العربية (الذي يتخذ من اليمن مقرا له منذ مطلع العام 2009 بعد دمج فرعي اليمن والسعودية) اليمني ناصر الوحيشي، باعتباره الرجل الثاني بعد أيمن الظواهري في زعامة التنظيم على المستوى العالمي، وتقول إنه ولي عهد الظواهري في تولي قيادة التنظيم عالميا.

لكن، مع ما تضخه السلطات اليمنية من بشائر النصر، ثمة رأي متردد يتمسك به خبراء متخصصون في شؤون التنظيمات الجهادية المسلحة.

يحرص هؤلاء على عدم الاندفاع في الحكم بشأن إمكانية القضاء نهائيا على تنظيم القاعدة في اليمن. ويجعلون من تجربة التنظيم الطويلة في اليمن (أكثر من عقدين) أحد المعطيات التي تؤكد قدرته على التكيف والعودة مرة أخرى بعد تعرضه لضربات قاصمة.

في السياق، يعودون إلى نتائج الحملة العسكرية التي قادتها الدولة ضد التنظيم في محافظة أبين منتصف العام 2012، حينها أعلنت الدولة سحق التنظيم واستعادة المناطق التي ظلت تحت سيطرته لأكثر من عام تقريبا، حتى إنه أعلن فيها قيام دولته الإسلامية بقوانينه ومحاكمه الخاصة وأنشأ معسكراته التدريبية لتدريب أبناء المنطقة الذين انضووا معه بحكم سلطته عليهم في المنطقة.

آنداك، لم يكن الأمر كما صورته الدولة على أساس أنها قضت على التنظيم، بل الحقيقة أنها طردته فقط من مواقعه، لينتقل وينتشر إلى مناطق أخرى، وخلال عام بالكثير نجح في إعادة لملمة صفوفه واستعادة قوته على نحو أقوى من ذي قبل. حيث ظهر بقوة جديدة في عمق محافظة البيضاء المجاورة لمحافظة أبين التي طرد منها، كما أنه تمكن بعدها من تنفيذ كل تلك العمليات النوعية التي أشرنا إليها آنفا في سياق هذا التقرير.

على أن مثل ذلك يمكن تكراره بكل سهولة، خصوصا إذا كررت الحملة العسكرية الحالية أخطاء سابقتها في عدم ملاحقة عناصر التنظيم، وبينهم قائده ناصر الوحيشي وبقية القادة الكبار، الذين لم يعلن أنهم قتلوا حتى الآن.

يتوجب على الدولة تعزيز انتصاراتها الميدانية بخلق بيئة رافضة للإرهاب، كما يتوجب عليها أن تتجنب خلق بؤر عنف جديدة أخرى، بعيدا عن عنف القاعدة، مع كيانات وفي مناطق لا تزال قابلة للانفجار

غير أن هذه الحملة قد تحقق نجاحات كبيرة، إذا التزمت قيادات الدولة والجيش بسياسة "النفس الطويل"، في الوقت الذي وسعت فيه عملياتها الميدانية بالترافق مع تشديد الإجراءات الأمنية والرقابية على حدود المحافظات وداخل المدن المتوقع فرار عناصر القاعدة إليها، في الوقت الذي تقوم فيه بتفعيل استخباراتها على نطاق واسع.

كما أن ذلك، سيتكلل بالنجاح، في حال عالجت الدولة قصورها السابق في بسط سيطرتها ونفوذها على المناطق التي حررتها من يد أنصار القاعدة، وعملت جنبا إلى جنب مع المجتمعات المحلية، وأجرت إصلاحات سياسية ووسعت مشاريعها التنموية في تلك المناطق المستعادة، إلى جانب تلك التي أغفلتها الدولة في العقود الماضية حتى لا تكون ملجأ مناسبا لعناصر القاعدة في المستقبل.

خلاصة الأمر، سيتوجب على الدولة تعزيز انتصاراتها الميدانية بخلق بيئة رافضة للإرهاب وعناصره الشاذة.

على أن ذلك سيتطلب جهدا كبيرا ووقتا مناسبا من الدولة للقيام به، بمساعدة كل الأطراف السياسية والمجتمع المحلي، قبل المجتمع الدولي.

كما سيتوجب على الدولة، تباعا، أن تتجنب خلق بؤر عنف جديدة أخرى، بعيدا عن عنف القاعدة، مع كيانات وفي مناطق لا تزال قابلة للانفجار.

وحتى لا تقع في تلك الورطة، عليها ألا تتقاعس في تنفيذ مخرجات الإجماع الوطني، التي أوجدت حلولا توافقية في القضايا الرئيسية والجوهرية. وسيتوجب عليها فرض تنفيذ تلك المتفقات بكل حسم وقوة، بحيث لا تترك فجوة مدمرة قد تأتي على كل ما تحقق حتى الآن، حتى وإن كان ما تحقق لا يرقى إلى الطموح الذي جاءت به الثورة الشعبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.