مغامرة حفتر العسكرية ورسائلها السياسية

حفتر يقود مجموعة من أنصاره في شرق ليبيا
حفتر يقود مجموعة من أنصاره في شرق ليبيا

جنرال القذافي السابق خليفة حفتر الذي ساعده في انقلاب 1969 يكرر نفس التجربة ببنغازي، إذ حاولت قوات قبلية وضباط جيش الدخول من طريق بوابة سيدي فرج جنوب شرق بنغازي لضرب ما أسماه الجنرال المتقاعد: قواعد الإرهاب بالمدينة.

ووجه حفتر اتهاما مباشرا لجماعات متشددة تقوم بعمليات اغتيال لعسكريين ومدنيين بشرق ليبيا، في الوقت الذي لم تقم فيه أي جهة حكومية رسمية باستكمال التحقيقات في جريمة قتل واحدة وإعلان مسؤولية طرف ما عن هذه الجريمة، بل كل ما في الأمر أن قنوات ليبية تابعة لحزب تحالف القوى الوطنية (الدولية والعاصمة) وأخرى تتبع لحسونة طاطانكي (قناة ليبيا أولا) وقناة ليبيا لكل الأحرار التي يترأس مجلس إدارتها محمود شمام، وجهت اتهامات مباشرة للإسلاميين بليبيا في الضلوع وراء هذه الاغتيالات.

يعلم حفتر وكل من يدور في فلكه أن الحسم العسكري في بلد ينتشر فيه السلاح أكثر من انتشار الماء الصالح للشرب أمر شبه مستحيل، لكنه يريد إرسال رسائل سياسية أن بإمكانه أن يكون على رأس الحربة في محاربة "الإرهاب"

بعض الليبيين لا يتذكر أن اللواء المتقاعد كان في ثمانينيات القرن الماضي رئيسا لمحكمة عسكرية أصدرت أحكاما بالإعدام على معارضين لنظام القذافي، ولا يتذكرون أن حفتر الذي كان منزله يبعد خمسة كيلومترات عن "لانجلي" مقر وكالة الاستخبارات الأميركية قدم خدمات جليلة لنظام القذافي بتمزيقه للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وكافأه القذافي على ذلك.

يعلم حفتر وكل من يدور في فلكه من مليشيات قبلية وضباط أن الحسم العسكري في بلد ينتشر فيه السلاح أكثر من انتشار الماء الصالح للشرب أمر شبه مستحيل، لكن حفتر والمليشيات التي تتقاطع مصالحها معه ككتائب القعقاع والصواعق يبتغي إرسال رسائل سياسية كوكيل أوروأميركي في الحرب على الإرهاب تقول إن بإمكانه أن يكون طرفا في اللعبة السياسية، بل بإمكانه أن يكون على رأس هذه اللعبة.

يعتقد حفتر أن دعوى الإرهاب الرائجة عالميا ستجعله محط اهتمام دوائر صنع السياسية الغربية، وأيضا تستغله بشكل مباشر دول إقليمية أعلنت حربها على ثورات الربيع العربي مبكرا بمصر وليبيا واليمن وتونس.

كما تحاول الإمارات تحديدا إقناع دول أوروبية كفرنسا بالاعتراف بانقلاب حفتر العسكري حال سيطرته على بنغازي وسيطرة حلفائه من الصواعق والقعقاع على طرابلس.

هذا الاستعراض العسكري السريع لحفتر وحلفائه نجح في بعث رسائل سياسية للداخل الليبي والذي يبحث عن حل لمعضلة الأمن ولو عن طريق الدبابة، فبادرت قبائل وضباط بإعلان انضمامهم لما أسماه حفتر عملية الكرامة، مستغلا حالة الانقسام الشعبي حيال ثورة 17 فبراير ومؤسساتها الديمقراطية الهشة.

أيضا يحاول حفتر عبر انقلابه العسكري تقديم نفسه على أنه داعم للمسار الديمقراطي في تناقض كبير، فقد اتصل بعدد من أعضاء هيئة الستين لكتابة الدستور لإقناع رئيسها علي الترهوني بتولي مهام المؤتمر الوطني بعد إسقاطه من مليشيات الصواعق والقعقاع، وهو أمر حسب ما هو متوفر من معلومات غير مُتفق عليه بين أعضاء هيئة الستين.

الثوار رغم نجاحهم في صد الهجوم على بنغازي وطرابلس يعانون من تشرذم سياسي وعدم وجود اتحاد يجمعهم، وليس صحيحا ما يُقال من أنهم يمثلون ذراعا مسلحا لحزب سياسي بعينه، ويعتقد كثير من الثوار أن السلاح وحده كاف لحل المختنقات السياسية والأمنية.

حالة الثورة المضادة التي يتزعمها حفتر وتتحالف معه فيها مليشيات قبلية قد لا تهدف بشكل أساس للسيطرة على الحكم، فمسألة السيطرة متعذرة على كل القوى السياسية والأمنية على الأقل في الوقت الراهن، لكن الثورة المضادة المتزعمة من حفتر تهدف إما إلى ضرب العملية السياسية الشرعية بالكامل والمتمثلة حاليا في الإعداد لانتخابات برلمانية تستلم التشريع ورسم السياسيات العامة من المؤتمر الوطني العام الجسم المنتخب، وهيئة الستين التي تعكف حاليا على كتابة دستور البلاد لعرضه على الاستفتاء الشعبي.

أو تهدف في أقل مطامحها إلى خلق مراكز تفاوضية قوية تستطيع من خلالها الثورة المضادة التسلل إلى جسم الدولة وتوجيهه إلى تحقيق أكبر قدر لها من المصالح الاقتصادية والسياسية، خاصة أن أحد أهم أهداف هذه الثورة المضادة بليبيا الآن إلغاء قانون العزل السياسي العائق الأكبر أمام تغلغل الثورة المضادة وقيادات النظام السابق بدواليب الدولة العليا.

أيضا تندرج محاولة كتيبتي الصواعق والقعقاع الجناح المسلح لحزب تحالف القوى الوطنية في إطار الضغط على رئيس الحكومة المنتخب أحمد معيتيق لمنح حقائب وزارية سيادية لمن يدور في فلك مصالح حزب التحالف، خاصة أن أعضاء من تحالف القوى الوطنية بالمؤتمر الوطني ساوموا رئيس الحكومة الجديد معيتيق للحصول على حقائب وزارية مقابل منحهم إياه ثقتهم.

وعندما رفض معيتيق هذه المساومات جرى اقتحام مقر المؤتمر الوطني بقصور الضيافة في طرابلس وقتل موظفين بديوان رئاسة المؤتمر لتعطيل أعمال المؤتمر، والتي أهمها منح الثقة لتشكيلة معيتيق التي قدمها للمؤتمر صباح يوم 16 مايو/أيار الذي تم فيه قصف واقتحام مقر المؤتمر مساء.

جاء موقف حكومة وزير الدفاع ورئيس الحكومة المؤقت الحالي عبد الله الثني مفاجئا للجميع عبر بيان طالب المؤتمر الوطني بتجميد أعماله لحين انتخاب مجلس النواب القادم، ورفض تسليم مقاليد السلطة لرئيس الوزراء المنتخب أحمد معيتيق ليصب هو الآخر في مصلحة الثورة المضادة الحالية، فالوزراء الحاليون بالحكومة -وخاصة وزير العدل صلاح المرغني ووزير الثقافة الحبيب الأمين ووزير الكهرباء علي محيريق- ليسوا إلا امتدادا لرئيس الوزراء السابق والهارب علي زيدان، إذ إنهم يعلمون أنهم بحكومة معيتيق سيكونون خارج مربع السلطة التنفيذية، فسعوا بشكل حثيث إلى عرقلة الحكومة الجديدة.

ليس على الثوار الآن إلا خلق بيئة شعبية حاضنة لهم ولثورتهم، عبر تولي مسؤولية توفير الأمن بكبريات المدن الليبية خاصة بنغازي وطرابلس والجنوب الليبي، فإذا ما نجحوا في ذلك سيحصلون على تأييد شعبي وزخم كبير

أيضا من الأفكار المهمة في هذا السياق بعد قيام طائرات حربية بقصف مواقع لثوار بمدينة بنغازي والتي يكمن الاطمئنان إليها أنه لا يوجد بليبيا حاليا جيش وطني غير منحاز لأطراف اللعبة السياسية، فليس الجيش مجرد أشكال تندرج في تسليح ورتب عسكرية وتشكيلات، بل هو بالأساس حزمة من الأفكار الموضوعية أهمها تجنب الخوض في السياسة أو الانحياز لأحد أطرافها. فأغلب التشكيلات الحالية من الجيش والتي تنتسب إلى رئاسة الأركان أو وزارة الدفاع هي مليشيات مسلحة لا تخضع للسلطة المركزية أو الإدارة السياسية.

فمثلا قوات الصاعقة التي أعلن جنرالها ونيس بوخماده انضمام قواته لعملية الكرامة لا تتمتع بحاضن شعبي ببنغازي، نظرا لسلوكيات أغلب جنودها ومنتسبيها الأخلاقية، فقد خرجت مظاهرات ببنغازي من أحياء عريقة بها كسوق الحوت والسلماني والصابري ضد قوات الصاعقة، وطردوا مليشيات الصاعقة من نقاط تمركزها، وهي مظاهرات شعبية صرفة لا يمكن أن تحسب على أي تيار سياسي أو عسكري، كما أن الجنرال بوخماده نفسه اعترف في أكثر من مناسبة بعدم سيطرته على قوات الصاعقة وانقسام ولاء جنودها لعدد من ضباطها.

أيضا من المهم الإشارة إلى استبعاد تدخل قوات مصرية على الأرض بليبيا، لخشية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من استخدام البترول الليبي في حل المختنقات الاقتصادية التي يواجهها الرئيس الفعلي لمصر المشير السيسي.

ففي 17 مارس/آذار الماضي أوقفت البحرية الأميركية ناقلة النفط مورنينغ غلوري بناء على أمر مباشر من الرئيس باراك أوباما، وبعدها بيومين تبنى مجلس الأمن مشروع قرار أميركي يدين تصدير النفط الليبي بطرق غير شرعية بإجماع الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن. وعليه فلن يسمح الاتحاد الأوروبي بتهديد صادرات النفط والغاز الليبي، خاصة مع إمكانية توقف صادرات الغاز الروسي لأوروبا عبر أوكرانيا.

ليس على الثوار الآن إلا خلق بيئة شعبية حاضنة لهم ولثورة السابع عشر من فبراير/شباط، عبر تولي مسؤولية توفير الأمن بكبريات المدن الليبية خاصة بنغازي وطرابلس والجنوب الليبي، فإذا ما نجحوا في توفير الأمن والحد من عمليات الاغتيال المستمرة فقد يحصلون على تأييد شعبي وزخم كبير لحماية الثورة من أية ثورات مضادة تدعمها قوى إقليمية ومحلية.

فعن طريق توفير الأمن يمكن سحب البساط من قوى الثورة المضادة وتعريتها أمام الداخل الليبي، وبالتالي السماح للعملية السياسية المتمثلة في إجراء انتخابات برلمانية وتقديم مشروع دستور للاستفتاء الشعبي أن تسير قدما، والتي تمثل البديل الوحيد والأمثل للتداول السلمي على السلطة وقطع الطريق أمام الاحتراب الداخلي واستنزاف موارد الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.