من الظواهري إلى مالكوم إكس

من الظواهري إلى مالكوم إكس - مرح البقاعي - في وقت تنسحب فيه أميركا عسكريا من العراق وأفغانستان، وسياسيا من سوريا، فإن من يشغل مواقعها الآن وفراغها الأمني والسياسي هم مقاتلو القاعدة في نسختها الأخيرة

في حين كان محرك البحث غوغل يدير الاحتفال الإلكتروني في العالم بأسره باليوبيل الفضي للاختراع الذي فتح فضاء إلكترونيا غير متناهٍ للعالم والذي أتى به العالم البريطاني، تيم بيرنرز لي، حين أطلق في منتصف مارس/آذار 1989 الشبكة العنكبوتية لتبادل المعلومات عبر الإنترنت، في الوقت ذاته كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقوم بمنع بث محطات تلفزيونية أوكرانية عن المناطق المتحدثة بالروسية في شبه جزيرة القرم.

وهي خطوة استباقية لتمكين قبضته وتهيئة المناخ لفصل الإقليم عن أوكرانيا وضمه نهائيا إلى روسيا الاتحادية، هذا بينما يقدّر عدد القوات الموالية لروسيا التي انتشرت في شبه الجزيرة بنحو 18 ألف مقاتل من أجل إحكام سيطرة قيصر الكرملين الجديد عليها.

حرب باردة جديدة يعلنها بوتين، ومن الخاصرة الروسية هذه المرة، بعد أن أحكم قبضته الدولية من خلال هيمنته على الموقف في سوريا، سياسيا وعسكريا، في غياب واضح ومقلق للدور الأميركي ولقدرته على تغيير المعادلة هناك لصالح المعارضة السورية.

يدفع أوباما ثمن تهاونه في إدارة الأزمة السورية غاليا الآن في أزمة أوكرانيا من خلال الحرب الباردة التي أشعلها بوتين من هناك بعد هيمنته على الموقف في سوريا

ويرافق ذلك تمكّن روسيا، على مشهد من دول أصدقاء سوريا كافة، من اختراق وتعطيل الإرادة الدولية في نصرة الثورة السورية، من خلال مواصلته إمداد النظام الجائح بالخبرات العسكرية والسلاح النوعي والدعم السياسي في المحافل الدولية لمساعدته على الاستمرار في فرض قبضته الحديدية على البلاد، ومتابعة حملته الهوجاء على الشعب السوري الذي أدخل نصف تعداده في دوامة التهجير والنزوح والقمع العنفي قتلا أو اعتقالا.

فالدبلوماسية الناعمة التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، والتي أودت بالحالة السورية إلى النفق المظلم الذي انتهت إليه، بحيث يتجرأ من قتل ما يزيد على الـ200 ألف من مدنيي شعبه، نساء وأطفالا وشيوخا آمنين، على الترشّح لانتخابات رئاسية جديدة ليكون أول رئيس في العالم يحكم نصف شعب، ونصف دولة، وأشباه أحياء في الداخل المنكوب، بينما يطارد من بقي طليقا خارج أقبية معتقلاته بتهمة الإرهاب ودعمه.

والأنكى من ذلك تصريح السفير المفوّض الأخضر الإبراهيمي إثر رفع تقريره عن المفاوضات السورية المعطَّلة بين المعارضة والنظام، أن "ترشّح بشار الأسد لدورة رئاسية جديدة من شأنه أن يعلن نهاية العملية السياسية"، دون أن يذكر في هذا المقام أن هذه المناورة الأسدية إنما هي طلقة الرحمة التي يطلقها وارث سوريا على ضمير المجتمع الدولي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، التي تقف عاجزة أمام التغوّل الروسي وتهوّره في الدعم المطلق لبقاء الأسد، بل وتتجرّد من كل أدواتها التي من شأنها لجم هذا الدبّ الجائع الذي يقطر دم السوريين من طرفي فكيّه.

من نافل القول إن باراك أوباما يدفع ثمن تهاونه في إدارة الأزمة السورية غاليا الآن في أزمة موازية اندلعت في أوكرانيا إثر إقالة حليف روسيا، فيكتور ياناكوفيش، من موقع الرئاسة من قبل البرلمان الأوكراني، وتسلّم المعارضة لزمام الحكم بما يناقض الإرادة الروسية في وجود رئيس هو من "صبيانها" في كييف، كما بشار الأسد في دمشق.

وقد أبدى الجمهوريون الأميركيون معارضة شرسة لمواقف أوباما وفريقه السياسي من الطريقة التي تعاطوا بها مع الملف السوري، ما أدى إلى انتشار الفوضى وانحراف مشهد الثورة من قضية تحرّر وكرامة إنسانية ومشاركة سياسية خرج لها شعب أعزل في حراكه السلمي منذ ثلاث سنوات، إلى صراع "مدبلج" -على طريقة أفلام الرعب الدموية- بين الأسد ومنظومته الحاكمة من جهة، وبين مجموعات متطرفّة، من القاعدة ومشتقّاتها، نبتت كما الفطور السامة برعاية أمنية بحتة في مناطق الفراغ السياسي في سوريا.

وكانت وزيرة الخارجية الأميركية في عهد جورج دبليو بوش، كونداليزا رايس، قد خرجت مؤخرا عن صمتها، وكتبت مقالا في جريدة الواشنطن بوست دعت فيه البيت الأبيض في واشنطن إلى "ضرورة استعادته لمكانة الولايات المتّحدة في القرار الدولي التي تآكلت بسب الإفراط في سياسة (يد الصداقة الممدودة) للخصوم على حساب الأصدقاء".

الإعلان المصور الذي أطلقته القاعدة لأول مجلة إلكترونية باللغة الإنجليزية هو أول محاولة لها بهدف التواصل مع المسلمين في الغرب ولا سيما في الولايات المتّحدة الأميركية

ورأت السيّدة الجمهورية صاحبة نظرية الضربات الاستباقية "أن غياب الإستراتيجية الأميركية النافذة في سوريا قد شدّ من عضد بوتين في الشرق الأوسط، وأن السعي الأميركي الحثيث من أجل الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران لا يمكن أن ينفصل عن عنجهيات بوتين الأخيرة في القرم".

وفي عودة إلى الاحتفالات العالمية بإطلاق الشبكة العنكبوتية للمعلومات، أطلق تنظيم القاعدة في الأسبوع نفسه إعلانا مصوّرا لأول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة الإنجليزية تتحدّث بصوته وبرنامجه على الشبكة العالمية، وتحمل المجلة اسم "Resurgence" أو "القيامة".

وتعتبر هذه المحاولة الأولى للقيادة المركزية في تنظيم القاعدة التي تنطلق بهدف التواصل مع المسلمين في الغرب ولا سيما في الولايات المتّحدة الأميركية.

فصل المقال أنه في الوقت الذي انسحبت أميركا عسكريا من العراق (وتستعدّ للانسحاب في نهاية 2014 من أفغانستان) وتابعت انسحابها سياسيا من سوريا، فإن من يشغل مواقعها الآن وفراغها الأمني والسياسي الذي خلّفته -بسبب غياب الرؤية الخارجية لسياسات أوباما وفريقه- هم مقاتلو القاعدة في نسختها الأخيرة: الدولة الإسلامية في العراق والشام.

واللافت أن الفيديو الدعائي للمجلة "القاعدية" يأتي صوت الداعية الإسلامي "مالكوم إكس" مدبلجا عبارة شهيرة له أطلقها في العام 1965، تقول: "تحدّثوا باللغة التي يفهمونها"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.