عن أحكام الإعدام في مصر

نبيل الفولي

بعد أحكام الإعدام التي صدرت بحق مئات المصريين، لا ينبغي أن نصدر نحن حكما بالإعدام على القضاء المصري كله، فما زال في مصر قضاة شرفاء، هرب منهم من هرب إلى الخارج وبقي من بقي.

ويمثل هؤلاء الشرفاء جزءا من الثورة الزاحفة من أكواخ الوطن على قصور الطغاة ومضاجع الظالمين، وهؤلاء الشرفاء أنفسهم هم من سيتولى محاكمة الأصاغر الذين ركبوا متن الوطن في لحظات تاريخية عوجاء صادفت قدرا إلهيا حاكما.

والذي صنعه الانقلاب مع القضاء هو أنه قطع جزءا غير هين منه حتى تماهى فيه، وتوحد معه، فهم ليسوا طرفا مساعدا للانقلاب، بل هم جزء منه، ليسوا ضيوفا على مجازره ومسالخه، بل أصحاب دار يمارسون الطغيان والقتل كما يمارسه الجنرالات، ويلغون في الدم الحرام البريء مثلهم.

الذي صنعه الانقلاب مع القضاء هو أنه قطع جزءا غير هين منه حتى تماهى فيه، وتوحد معه، فهم ليسوا ضيوفا على مجازره ومسالخه، بل أصحاب دار يمارسون الطغيان والقتل كما يمارسه الجنرالات
هؤلاء هم أتباع الديكتاتور المخلوع المتمارض الذي مهّد السبل لعبور الانقلاب فوق بدن مصر المنهك، فأفسد الإعلام والقضاء ورجال الأعمال والشرطة والجيش، حتى بدا لهم جميعا أن مجيء الديمقراطية يعني بالضرورة زوالهم، وأن بروز صوت الشعب يعني انقراضهم، فتنادوا وتداعوا للتآزر والتحالف، واتخذوا من القضاء ستارا يخفون به عن الناس جرائمهم، لكن سترهم مكشوف مفضوح أمام أعين من يبصر في هذا العالم.
 
والانقلاب في الأصل ليس في حاجة إلى أحكام قضائية حتى ينفذ جرائمه التي تجاوز بها وحشية البراري والغابات، إلا أنه يعتمد في الخارج على صمت المجتمع الدولي أو تواطئه، وفي الداخل على خداع الجماهير واستغفالها، ولا بد أن يستر عورته أمام هؤلاء وأولئك بهذا الغطاء الشفاف، حتى يبدو كأنه دولة أو نظام حاكم في دولة!
 
لم تغب عنا حكاية أحد شرفاء القضاة عن نبيل صليب رئيس محكمة استئناف القاهرة، أنه جمع القضاة بعد الانقلاب، وسألهم عمن لديه الاستعداد للحكم على الإخوان بما يُملَى عليه! لقد حرصوا على ألا يتماهى معهم وفيهم إلا من في قلبه من الحقد مثلما في قلوبهم، ولديه استعداد كاستعدادهم، وخزائنهم ستكون كريمة معه مقابل هذا الثمن الغالي الذي يدفعه من دنياه وآخرته، بل من رجولته وإنسانيته.

لقد أبت على بعض القضاة آدميتهم من أول الانقلاب أن يبيعوا أنفسهم للظالم، واستيقظ أضعافهم تحت سيول الدماء التي أسالها العسكر، ووسط الاستهزاء بالعدالة -التي يمثلونها- على يد العسكر، وبعدما رأوا نماذج البشر المعروضة عليهم، بين طبيب ومهندس متميز وأستاذ جامعة متفوق وفتاة عفيفة مهذبة، وطفل يحمل إصرار رجل.. لقد أبصروا الطريق متأخرين، إلا أنهم فصلوا أنفسهم عن جسم الانقلاب على كل حال.

في ظل الانقلاب من العيب الكلام عن الفصل بين السلطات، أو احترام القوانين، أو صيانة الأسس والأصول التي يقوم عليها مشروع الدولة، أو رعاية هوية المجتمع الذي يسكن قلب هذا الوطن، فكل ذلك ذرته الرياح من أول لحظات النطق بالبيان الأثيم في 3 يوليو/تموز 2013، ولو رعوا القوانين، أو احترموا سلطة التشريع أو سلطة القضاء، لكان ذلك منهم تناقضا مع ذواتهم، فبعد هدم الدار كلها ونقضها حجرا حجرا، لا يُعقَل أن تعيد بناءها من الركام، أو تشييدها من الحطام.

إن الطاغية لا يطيق العيش مع قاض عادل، والظالم لا يستطيع البقاء إلى جانب قضاء خارج عن طاعته، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الطغيان أن يترك القضاء في حاله، لا له ولا عليه
إن الطاغية لا يطيق العيش مع قاض عادل، والظالم لا يستطيع البقاء إلى جانب قضاء خارج عن طاعته، وفي الوقت نفسه لا يستطيع الطغيان أن يكون صادقا، ويعجز أن يكون صريحا، ومن هنا يصعب عليه أن يترك القضاء في حاله، لا له ولا عليه، إذ من أين سيأتي بديكور يزين به طغيانه؟ بل من أين سيأتي بمن يسوغ باطله إلا أن يكون شيخ زور أو قاضي جور؟!

ومع أننا لا نقول مع الفريق اليائس من بني إسرائيل إشارة منهم إلى بعض المحادّين لله كما سجل القرآن: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (الأعراف 164)، فالهداية ليست مستحيلة في حق أحد، فإنني ما قصدت بالعنوان الأخير هذا المعنى، أي تذكير هؤلاء بقضاء الله الحاسم بين عباده يوم الدين، وإنما أردت معنى آخر تكشف عنه السطور التالية.

 
إن قضاء الله تعالى لا يسير سيرا أعمى في هذا العالم، فمن اصطدم به أصابه، ومن رغب فيه أوقعه في شباكه! بل لله مع قدرته حكمة، وله سبحانه مع سلطانه القاهر علم وحلم ولطف، فمن صادم سننه صدمته، ومن غالب نواميسه غلبته.

والناظر في حال الانقلاب المصري يجد أنه يحفر قبره في طريق سيره، ويخطو خطوة ويلغم الطريق من خلفه، فإن سلم من خطر خلفه وراءه، طاردته مخاطر الطريق من أمامه، فهو يعلق أسباب فنائه بين عينيه، ويصنع سكين ذبحه بيديه.

وتعال بنا نخرج من هذه الأسجاع إلى عبارات أجلى وأصرح في هذا المعنى، فإن الانقلاب قد ناقض قوانين الله في خلقه في أمور، مما يبشرنا وينذره بقرب هلاكه، أهمها:

– أنه أقام أمره على الكذب والخداع الذي أغرق معه الدنيا بأعاجيب ضحك من سفاهتها العالم، وهو أمر إن انطلى على الناس ساعة لن ينطلي عليهم دهرا، وإن خدع بعضهم عجز عن خداعهم كلهم، وهذا يمكنك اكتشافه من قصص استيقاظ كثير من المخدوعين في الانقلاب الذين اكتشفوا أنهم كانوا مغفلين كبارا!!

– أن الواقفين في وجه الانقلاب ليسوا أغلبية الشعب من حيث العدد، إلا أنهم عقل الوطن الواعي، وقلبه النابض، وروحه المتفتحة، في حين أن مؤيديه ينقسمون بين صاحب خطيئة يجد مصلحته في بقاء دولة الفساد، وقوى بشرية وكتل جماهيرية سلبية أو معطلة لكن خدعتهم أبواق الانقلاب، ولو دعاهم داعي الجد فلن يبرحوا الأرض ولو أذن لهم أو حتى أمرهم أبوهم!

الأزمة الاقتصادية التي يزداد تفاقمها في مصر هي أزمة حوالي تسعين مليونا من البشر، وشعب بهذا العدد لا يمكن أن يعيش على المعونات، بل لا بد أن ينتج ويصنع ويزرع، وهو ما يبدو مستحيلا في ظل غليان الشارع
– أن الأزمة الاقتصادية التي يزداد تفاقمها في مصر هي أزمة حوالي تسعين مليونا من البشر، وشعب بهذا العدد لا يمكن أن يعيش على المعونات، بل لا بد أن ينتج هو، ويصنع ويزرع هو، وهو ما يبدو مستحيلا في ظل غليان الشارع وغباء العسكر. والجماهير لا تكفيها وعود، بل تريد لقمة عيش محسوسة ملموسة في يدها.

– أحكم الانقلاب خططه لمنع أنصاره من الفرار، مخافة أن ينفرط عقده، ولولا هذا لسمعنا كل يوم عن فرار وزراء وإعلاميين ورجال أعمال من أنصاره إلى الخارج، وقد صحبت ذلك حدة في التعامل مع من يريد مجرد إرادة أن يقفز من عربتهم لينجو بنفسه، ومن هنا فإن تجار الدم ومسوّقي الانقلاب يعملون في أجواء متوترة، ويتحركون ويدهم مرتعشة، وقلوبهم ملؤها الخوف والوجل من الخصم والصديق، ومثل هؤلاء يناقض بقاؤهم ناموس الوجود، ويصادم انتصارهم وسيادتهم على الناس سنة الله التي قد خلت في عباده.

– وفوق هذا كله فإن الظلم المستشري والمتمدد في أوصال المجتمع واللاحق بأكثر فئات المجتمع، قد يؤدي إلى تآكل مادي في المظلوم، إلا أن التآكل الذي يلحق بالظالم يأتي أعمق وأوسع دائرة، خاصة حين يرى ظلمه ولم يفت في عضد المظلوم، بل زاده صلابة وثباتا.

إن قضاء الله وقدره يمسك بالفناء في يده، يطارد الانقلاب في كل زاوية، يضيّق عليه مجاري الأنفاس من لحظة إلى أخرى، تمهيدا لخنقه تماما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.