حدود التغيير في العلاقات المصرية الأميركية

تصميم للمعرفة-حدود التغيير في العلاقات المصرية الأميركية - بشير عبد الفتاح

برغماتية أميركية
انقسام الإدارة
انفتاح مشروط

تبنت واشنطن حزمة من الإجراءات العقابية ضد القاهرة كتجميد بعض جوانب التعاون العسكري معها على شاكلة المناورات العسكرية المشتركة السنوية المسماة "النجم الساطع" وعرقلة تسليم عشر طائرات هليكوبتر عسكرية من طراز "أباتشي" يعتمد الجيش المصري عليها في محاربة الإرهاب بسيناء.

برغماتية أميركية
ورغم تلك الإجراءات التي أرجعها الخبير العسكري الأميركي كين آلارد في مقاله بصحيفة "واشنطن تايمز"، إلى إطاحة الجيش المصري بالرئيس السابق محمد مرسي، علاوة على قلق إدارة أوباما من خوض المشير السيسي للسباق الرئاسي، فأحسب أن إدارة أوباما قد لا تجد بدا من التعامل ببرغماتية مع هذا الواقع المصري المعقد، وذلك في ضوء اعتبارات شتى:

أولها، أن ترشح السيسي للرئاسة أمسى أمرا واقعا بعدما استنفدت واشنطن كل وسائلها لثنيه عن عزمه الترشح سواء من خلال نصحها إياه بذلك، أو مطالبة أصدقاء عرب مقربين لحمله على التراجع.

مع انكماش الطبقة السياسية المصرية جراء عقود من التجريف السياسي ربما لا تجد واشنطن مناصا من القبول بالجيش شريكا وحليفا، إلى حين ظهور بديل مدني علماني يرتجيه الرافضون لمواصلة الرهان على العسكر

وثانيها، تيقن إدارة أوباما من اقتناع غالبية المصريين بالمشير كمنقذ ومخلص للبلاد والعباد في هذه المرحلة الحرجة، الأمر الذي غذى مخاوف واشنطن من نجاح السيسي في توظيف تشدده حيالها لتعزيز شعبيته، حسبما أكد تقرير بثته شبكة "سي إن إن" من أن قرار تجميد المساعدات العسكرية الأميركية لمصر سيساهم في تعزيز شعبية السيسي جراء حالة الإحباط الشعبي المصري تجاه أميركا، في الوقت الذي طفقت دول خليجية عربية تضخ مليارات الدولارات للسلطة التي تلت إسقاط مرسي.

وثالثها، قناعة واشنطن التامة بغياب البديل المدني الملائم، الذي يمكنها الرهان عليه خلال المرحلة الحالية بعد تعثر تجربة الإخوان المسلمين في الحكم وإقصائهم من المشهد السياسي.

فمع انكماش الطبقة السياسية المصرية جراء عقود من التجريف السياسي الذي دأب نظام يوليو على ممارسته، ربما لا تجد واشنطن مناصا من القبول بالجيش شريكا وحليفا، إلى حين ظهور ذلك البديل المدني العلماني، الذي يرتجيه الرافضون لمواصلة الرهان على العسكريين.

وفي هذا السياق، أكد آرون ميلر، الدبلوماسي المعني بشؤون الشرق الأوسط، بمقال في صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "أميركا ليس لديها خيارات في مصر"، أن "الجيش هو القوة الرئيسية في مصر، وحسنا فعلت إدارة أوباما بتخليها عن إقرار الديمقراطية هناك وإيثارها العمل مع الجيش وليس ضده، فلولاه لغرقت مصر في الفوضى والتفسخ".

ولطالما دأبت واشنطن على الاحتفاظ بمسارين متوازيين في العلاقات مع القاهرة، أولهما عسكري بين البنتاغون والجيش المصري، والآخر سياسي بين الإدارة والسلطات الحاكمة في القاهرة، ودائما ما كانت قناة الاتصال الأولى هي الأقوى والأقل عرضة للتأثر بأية نتوءات، فخلال الأشهر الماضية، حافظ وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل على علاقة مستقرة ووطيدة مع المؤسسة العسكرية في مصر رغم الأجواء الملبدة.

ورابعها، التوجه المصري شرقا، حيث استبدت بواشنطن مخاوف هائلة على خلفية مساعي القاهرة وموسكو لإعادة تفعيل التعاون العسكري بينهما مثلما تجلى في الإعلان مؤخرا عن بيع موسكو للقاهرة 24 طائرة عسكرية مقاتلة متطورة من طراز ميغ -35، والتي لم تكن منبتة الصلة بالزيارة التاريخية التي قام بها وزيرا الدفاع والخارجية المصريان إلى موسكو في فبراير/شباط الماضي، وما تخللها من تصريحات للرئيس الروسي بوتين داعمة لترشح السيسي لانتخابات الرئاسة المقبلة حتى قبل إعلان ترشحه رسميا، الأمر الذي أثار انتقادات أميركية رسمية، كونها المرة الأولى منذ أكثر من عقود أربعة خلت، يسعى فيها رئيس مصري محتمل للحصول على دعم سياسي دولي من خارج المعسكر الغربي.

ومن جانبها، اعتبرت شبكة "فوكس نيوز" الأميركية هذا التطور محاولة من بوتين لاستعادة نفوذ بلاده في الشرق الأوسط عبر مصر، من خلال الدعم السياسي والعسكري للقيادة المصرية الجديدة.

وبدوره، ارتأى الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقال له بصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية مطلع مارس/آذار الماضي أن اللقاء الذي جمع السيسي وبوتين في موسكو، والذي وصفه "بلقاء الأقوياء"، قد ذكره باللقاء الشهير الذي شهدته العاصمة الروسية خلال ستينيات القرن الماضي بين الزعيمين الراحلين، المصري جمال عبد الناصر والسوفياتي خروتشوف.

بينما يطيب لدوائر مصرية تصور أن اختراقا قد طال علاقة بلادهم بالعم سام يمكن القول إن الزيارات المصرية لواشنطن لم تفض إلى تذويب الجليد كليا مع أميركا، وإن نجحت في الإبقاء على بعض قنوات الاتصال بين البلدين

وفي ذات اليوم الذي كان بوتين يستقبل السيسي ويوقع معه اتفاقية تسليح وشراكة تجارية، وبينما سبقت روسيا مصر بإعلان جماعة الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا بإصدار المحكمة العليا الروسية حكمها في هذا الشأن عام 2005، كانت الإدارة الأميركية تعلن رسميا على لسان المتحدثة باسم خارجيتها أن واشنطن لا تعتبر الإخوان المسلمين تنظيما إرهابيا، مشددة على أن السفارة الأميركية بالقاهرة على تواصل دائم مع قيادات الجماعة عبر اجتماعات ولقاءات منتظمة لبحث الوضع السياسي في مصر!

انقسام الإدارة
بينما يطيب لدوائر مصرية تصور أن اختراقا قد طال علاقة بلادهم بالعم سام على ضوء زيارتين لواشنطن قام بهما اللواء التهامي مدير المخابرات العامة، ومن بعده السيد نبيل فهمي وزير الخارجية، يمكن القول إن تلك الزيارات لم تفض إلى تذويب الجليد كليا مع أميركا، وإن نجحت في الإبقاء على بعض قنوات الاتصال بين البلدين في ظل موجات التوتر المتجددة التي تلقي بظلالها على علاقاتهما منذ مطلع يوليو/تموز الماضي.

فثمة انقسام واضح داخل الإدارة الأميركية بشأن التعاطي مع القاهرة هذه الأيام. فمن جانب، يحبذ البيت الأبيض ومعه وزارتا الخارجية والدفاع استئناف المساعدات لمصر، كما استبقت الإدارة قرار الإفراج عن الأباتشي بإدراج جماعة "أنصار بيت المقدس" على لائحة الإرهاب في التاسع من أبريل/نيسان الماضي، مستنكرة اعتداء الجماعة على مدنيين وتهديدها للأمن المصري ولأمن إسرائيل إثر تنامي نفوذ المتطرفين في نقطة جيو-إستراتيجية على الحدود مع إسرائيل، حيث أرجع كيري الإفراج الجزئي عن المساعدات لالتزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل.

وفي سابقة كانت الأولى من نوعها، لفت بيان وزارة الدفاع الأميركية حول الإفراج عن الأباتشي إلى اعتبار مكافحة الإرهاب في مصر "مصلحة قومية أميركية".

وعلى الجانب الآخر، تتحفظ مستشارة الأمن القومي سوزان رايس -كما بعض الدوائر داخل الكونغرس- على أداء السلطات المصرية، خصوصا في ما يتصل بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان فضلا عن أسلوب التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم كانت معارضتهم للإفراج عن المساعدات الأميركية للقاهرة.

وبناء عليه، بدت إدارة أوباما مرتبكة حيال الحالة المصرية. فمن جهة، يلزمها القانون بقطع العلاقات مع أية دولة تشهد تغييرا لسلطة منتخبة بغير الانتخابات، على غرار ما جرى من قبل مع دول عديدة مثل بيرو عام ١٩٩٢، وغينيا بيساو عام ٢٠١٢.

ومن جهة أخرى، تدرك إدارة أوباما أهمية العلاقات مع مصر، لذا كان لزاما عليها إقناع المؤسسات المشاركة في عملية صنع السياسة الخارجية أو المؤثرة فيها بأن ما شهدته مصر مطلع يوليو/تموز الماضي ليس انقلابا، تلافيا منها لمخالفة القانون وإلا وقعت تحت طائلته، وهي مهمة جد شاقة خصوصا بعدما اتخذ مجلس الأمن القومي موقفا متشددا تجاه مصر منذ اندلاع الأزمة.

ولما كان لزاما على إدارة أوباما الامتثال للقانون، فقد جمدت المساعدات العسكرية التي كان مفترضا أن تحصل عليها مصر في النصف الثاني من العام الماضي بشكل مؤقت وجزئي، بينما تحركت بالتوازي لدى الكونغرس للحصول على غطاء قانوني يتيح لها مرونة في التعامل مع القانون، ونجحت في ذلك بالفعل، حيث منحها الكونغرس هامشا للمناورة وفقا لتقدم مصر في تطبيق خارطة المستقبل والالتزام بالقواعد الديمقراطية.

ولذلك أضحى بمقدورها البدء بإرسال جانب من المعدات العسكرية المجمدة إلى مصر بشكل تدريجي، بدءا بمروحيات أباتشي، فيما سيتوقف شحن باقي المعدات التي سبق تجميدها، كصواريخ "هاربون" ودبابات "إم1″، على كيفية إجراء الانتخابات الرئاسية المرتقبة، فضلا عن أسلوب السلطات المصرية الجديدة في التعاطي مع جماعة الإخوان المسلمين.

انفتاح مشروط
كان الكونغرس الأميركي قد توصل مطلع العام الجاري إلى اتفاق حول مشروع قرار موازنة السنة المالية 2014، يقضي بمنح مصر المساعدات التقليدية السنوية، سواء العسكرية البالغة 1.3 مليار دولار، أو الاقتصادية البالغة 250 مليون دولار شريطة أن تؤكد وزارة الخارجية والبيت الأبيض التزام الحكومة المصرية بالسير نحو إعادة الديمقراطية إلى البلاد عن طريق استكمال خارطة المستقبل والتزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل.

وبعدما أعلن كيري أمام الكونغرس الشهر الماضي أن السلطات المصرية ملتزمة باتفاقية السلام مع إسرائيل وإن تعذر عليه تأكيد التزامها بالديمقراطية، تم الإفراج الجزئي عن مساعدات مالية تقدر بـ650 مليون دولار وعشر طائرات أباتشي فيما لم يرفع الحظر عن باقي المساعدات التي تشمل طائرات "إف 16" وستمائة مليون دولار.

غير أن هذا الانفتاح الأميركي حيال مصر قد بدا مشروطا ومحدودا، حيث أوضحت واشنطن على لسان المتحدثة بلسان خارجيتها جين بساكي أن كيري بصدد تقديم إقرارين عامين إلى الكونغرس فيما يخص التزام مصر بالعلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، كما جهودها لمكافحة الإرهاب الدولي والتزامها بتعهداتها تجاه معاهدة السلام مع إسرائيل وكذا بالنهج الديمقراطي، لافتة إلى تأكيد الوزير الأميركي أنه لا يزال غير قادر على الإقرار بأن القاهرة تتخذ خطوات لترسيخ الانتقال الديمقراطي بما يتضمنه من انتخابات حرة وشفافة وتقليص القيود على حرية الرأي ودمج الإخوان المسلمين في العملية السياسية، ما يعنى التزام واشنطن بقرارها في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بتجميد المساعدات العسكرية لمصر.

بين إصرار أميركي على استتباع القاهرة وحرص السلطات الجديدة في الأخيرة على تغيير قواعد اللعبة ستبقى العلاقات المصرية الأميركية أسيرة لحالة الصيرورة الحالية لحين استكمال خارطة المستقبل

وجاءت أحكام الإعدام الجماعي الجديدة ضد عناصر إخوانية بمحافظة المنيا لتقوض ذلك الانفتاح الجزئي المشروط في العلاقات بين القاهرة وواشنطن.

فبعيد أيام قلائل على إعلانها الإفراج عن صفقة الأباتشي و650 مليون دولار، وفي تعليق منها على تلك الأحكام -التي اعتبرتها مناهضة للمعايير القانونية الدولية للعدالة- حذرت واشنطن من عواقبها الوخيمة على العلاقات مع مصر، حالة تنفيذ الأخيرة لها، ولم تتورع دوائر بالكونغرس عن التهديد بالتراجع عن استئناف مساعدات عسكرية للقاهرة ما لم تلغ تلك الأحكام.

ورغم ترشيح أوباما روبرت بيكروفيت سفيرا لبلاده لدى القاهرة مؤخرا دونما تحديد موعد لتسلمه مهام منصبه، يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، ناثان براون، في بقاء منصب السفير الأميركي بالقاهرة شاغرا منذ رحيل السفيرة السابقة آن باترسون في أغسطس/آب الماضي، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي الأميركي بالقاهرة إلى مستوى قائم بالأعمال، بالتزامن مع قرار الإدارة الأميركية تعليق المساعدات العسكرية والاقتصادية للقاهرة، دليلا على تدهور العلاقات بين البلدين، حيث عزفت الإدارة الأميركية عن ترشيح سفير جديد طيلة قرابة عام مكتفية بتعيين ديفيد ساترفيلد، قائد القوات متعددة الجنسيات في سيناء، قائما بأعمال السفارة منذ سبتمبر/أيلول الماضي وحتى يناير/كانون الثاني من العام الحالي، ليخلفه مارك سيفيرز نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية في القاهرة، إلى اليوم، دون أن تفكر واشنطن في ترشيح ساترفيد سفيرا خلفا لباترسون، رغم أنه يحمل درجة سفير كما عمل سفيرا لبلاده في لبنان من عام ١٩٩٨ إلى ٢٠٠١.

انطلاقا مما سبق، وما بين إصرار أميركي على استتباع القاهرة وحرص السلطات الجديدة في الأخيرة على تغيير قواعد اللعبة أو اقتناص شيء من الاستقلالية في مواجهة واشنطن، يمكن القول إن العلاقات المصرية الأميركية ستبقى أسيرة لحالة الصيرورة الحالية ورهنا لعملية المراجعة المعقدة إلى حين استكمال المصريين الاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية لخارطة المستقبل.

وعندئذ، ستتحدد معالم التغيير الذي لا يتوقع أن يكون عميقا أو جوهريا بالضرورة في إستراتيجية واشنطن إزاء القاهرة بناء على مدى توافق تلك الاستحقاقات المرتقبة مع المعايير الدولية للنزاهة والشفافية، ثم على النهج الذي ستنتهجه السلطات المصرية الجديدة فيما يتصل بسياساتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.