الأمم المتحدة والمسألة السورية

الأمم المتحدة والمسألة السورية

الأدوار السياسية العامة
الدور الأمني والعسكري
الدور الإنساني

كيف تبدو تجربة الأمم المتحدة في سوريا الراهنة؟ ما هي معالمها السياسية والأمنية والإنسانية؟ وهل من أفق لتفعيل مقارباتها المعتمدة، أو إعادة إنتاجها؟

الأدوار السياسية العامة
بداية، يُمكن القول إن الدور الأهم المنوط بالأمم المتحدة حيال الوضع في سوريا هو دور سياسي أولا وقبل كل شيء. وأي دور آخر هو بالضرورة تابع أو مكمل.

وقد كان الاعتقاد السائد هو أن الأمم المتحدة يُمكنها رعاية مقاربة سياسية توافقية، في ضوء القناعة الأميركية الروسية المشتركة، القائلة بأن لا حل عسكريا للوضع القائم. وهذا ما اتضح بداية في بيان أو وثيقة جنيف، التي أعلنت في يونيو/حزيران من العام 2012.

يُمكن القول إن الدور الأهم المنوط بالأمم المتحدة حيال الوضع في سوريا هو دور سياسي أولا وقبل كل شيء. وأي دور آخر هو بالضرورة تابع أو مكمل

وباعتباره الجهة المنوط بها حفظ السلم، أصدر مجلس الأمن الدولي أربعة بيانات رئاسية حول الوضع في سوريا، في 3 أغسطس/آب 2011، و21 مارس/آذار 2012، و5 أبريل/نيسان 2012، و2 أكتوبر/تشرين الأول 2013، كما أصدر أربعة قرارات، شكلت أساس مقاربته للأوضاع القائمة.

في أولى خطواته الرئيسية، عين مجلس الأمن الدولي كوفي عنان -الأمين العام السابق للأمم المتحدة- مبعوثا خاصا إلى سوريا.

وقدم عنان خطة من ست نقاط، تضمنت وقف العنف المسلح، وتطوير المساعدات الإنسانية وضمان إيصالها، واعتماد مقاربة سياسية لحل الأزمة. وقد ضَمَّن مجلس الأمن هذه النقاط في قراره الرقم (2042)، الصادر في الرابع عشر من أبريل/نيسان 2012.

ولاحقا، شكلت هذه النقاط جوهر بيان جنيف لعام 2012، الذي ما زال يُمثل أساس المقاربة السياسية الدولية للتسوية.

وفي 22 يناير/كانون الأول 2014، عقد في سويسرا مؤتمر "جنيف2″، الذي استند إلى هذا البيان، والذي حضره لأول مرة ممثلون عن كل من الحكومة السورية والمعارضة.

وافتتح المؤتمر بكلمة للأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، رأى فيها أن "اليوم يوم أمل ضعيف لكنه حقيقي".

لم ينجح مؤتمر جنيف الثاني في الوصول إلى أهدافه المعلنة، بسبب تباين الأولويات والتفسيرات، وغياب أية مرجعية لها القول الفصل في هذا الشأن.

وعلى الرغم من ذلك، فإن مجرد عقد المؤتمر كان إشارة في الاتجاه الصحيح. والسؤال الآن هو: ماذا بعد جنيف؟

بداية، يجب الاعتراف بأن لا حصيلة تفاوضية يُمكن الوقوف عليها، وإعادة الانطلاق منها، على صعيد المقاربة السياسية للحل. ولا بد من الاعتراف أيضا بأن وثيقة جنيف لعام 2012 لم تعد -رغم أهميتها- كافية لإطلاق عملية سياسية جديدة. وهي قد تصبح، في حقيقة الأمر، سببا لإدامة الجمود القائم.

وعليه، فإن الأمم المتحدة معنية بإعادة صياغة هذه الوثيقة، أو بلورة رؤية جديدة على نحو تام. وهذا يستلزم بالضرورة توافقا أميركيا روسيا، لا يبدو سهلا في وقتنا الراهن، وإن لم يكن مستبعدا على نحو تام. إذ إن مرحلة ما بعد أزمة القرم ليست كما قبلها في حساب العلاقات الأميركية الروسية.

والخلاصة، أن الوقت لا يبدو نموذجيا لانتظار مبادرة أممية ثانية حول سوريا، ولا بد أن يبادر السوريون لبلورة مقاربة سياسية ناجزة، تساهم في صياغتها -على نحو واقعي- كافة الفعاليات والقوى الوطنية، في داخل القطر وخارجه.

هذه المقاربة، يجب ألا تحلق في الفضاء، وأن تبدأ بحل القضايا العالقة على الأرض، التي تطوّق حياة الناس، والتي لا يختلف عليها أحد، فمشروعية أية مقاربة تُستمد مما تقدمه لا بما تعد به.

الدور الأمني والعسكري
بالانتقال إلى الدور الأمني للأمم المتحدة في سوريا، يُمكن ملاحظة حضور يمتد منذ العام 1974، وذلك من خلال قوات "الاندوف"، المتمركزة على خط فض الاشتباك في الجولان السوري المحتل.

وفي العام الماضي حدث تطور جديد، تمثل في إيعاز مجلس الأمن الدولي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بمساعدة دمشق على تنفيذ قرارها القاضي بالاستغناء عن هذه الأسلحة.

وقد أصدر مجلس الأمن في 27 سبتمبر/أيلول 2013، القرار الرقم (2118)، الذي طالب بالتخلص من الأسلحة الكيميائية السورية. واستند هذا القرار إلى الاتفاق الأميركي الروسي الذي تم في جنيف، قبل نحو أسبوعين من ذلك التاريخ. وأعقبه قرار من المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية قضى بوضع إجراءات خاصة لتدمير البرنامج الكيميائي السوري، وفق جدول زمني متفق عليه.

قبل التطوّر الخاص بالسلاح الكيميائي، وفيما بدا محاولة أممية للدخول الأمني المباشر على خط الأحداث في سوريا، سعى مجلس الأمن في العام 2012 لتثبيت وقفٍ لإطلاق النار، وأذن لفريق قوامه ثلاثين مراقبا عسكريا غير مسلح بالاتصال مع الأطراف السورية المختلفة، والبدء في الإبلاغ عن تنفيذ وقف كامل للعنف.

فكرة إرسال قوات حفظ سلام غير مطروحة لأن هذا الخيار لا يتحقق في ظروف القتال الفعلي، بل يأتي بعد وقف إطلاق النار، أو في الحد الأدنى توقف الأعمال الحربية

وتم الإعلان عن وقف الأعمال القتالية في أبريل/نيسان من العام 2012، وبدأ تنفيذه في جميع أنحاء البلاد في الثاني عشر من الشهر ذاته.

وفي ٢١ أبريل/نيسان من ذات العام، اتخذ مجلس الأمن الدولي القرار الرقم (٢٠٤٣)، الذي أنشأ بموجبه بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سوريا لفترة أولية مدتها تسعون يوما، وبدأت البعثة مهامها، لكنها قررت تعليق أنشطتها في ١٥ يونيو/حزيران من العام ذاته، قبل أن توقف عملها نهائيا بحلول أغسطس/آب.

هذه البعثة كان من الممكن أن تنهض بكامل الدور الذي أتت من أجله، وكان يُمكن أن يُبنى على نجاحها مسار سياسي، يمتلك من مقومات النجاح ما يجعله منطلقا لتحقيق المصالح الوطنية العليا.
ولكن لماذا فشل المسعى الأممي في شقه الأمني هذا؟

الجواب بسيط جدا: غياب الثقة، وتعاظم الضغوط على الأطراف المحلية والمراقبين الدوليين. وهنا، خسر الوطن رهانا آخر، أو فرصة أخرى، لبناء استقراره.

وهل بالمقدور الآن إعادة التجربة؟ الجواب: على الأرجح لا. وذلك لعدة اعتبارات:

أولا، لأن ذلك يعني تقسيم سوريا، أو إعادة رسم خارطتها وفقا لخطوط النار. وثانيا، لأن البيئة الدولية قد تغيّرت، وكذلك امتدادها الإقليمي.

وفي الأصل، فإن فكرة إرسال مراقبين غير مسلحين لا تبدو مهمة واقعية في وقتنا الراهن، وذلك لتعدد جهات الاشتباك، وعدم اعتراف بعض هذه الجهات بأية قرارات دولية.

وعلى صعيد فكرة إرسال قوات حفظ سلام، يُمكن ملاحظة أن هذا الخيار لا يتحقق في ظروف القتال الفعلي، بل هو يأتي بعد وقف إطلاق النار، أو في الحد الأدنى توقف الأعمال الحربية. وهذه درجة أدنى من الحالة الأولى، بالمفهوم القانوني.

كذلك، فإن إرسال مثل هذه القوات يجب أن يكون برضى كافة الأطراف. وهذا لا يحدث عمليا إلا بتوافق سياسي داخلي، ويستحيل حدوثه دون ذلك، لأن أحدا لا يقبل بأن يُفرض عليه منطق الأمر الواقع.

ومن المنظور العملي، فإن أي وقف لإطلاق النار -مهما كانت نوعيته- يجب أن يستند إلى منطق تفاوضي، كمقدمة لتسويات موضعية أو شاملة. أي ضمن منطقة أو بلدة معينة، أو على مستوى القطر عامة.

إن بعض التسويات الموضعية قد حدثت خلال الأشهر الأخيرة، وكانت حصيلتها رابحة، أمنيا واجتماعيا، لأهالي البلدات والأحياء التي جرت فيها.

ونحن ندرك الآن بأن هناك تقييمات متباينة لهذه التجربة، لكن المعيار هو موقف الناس ورأيهم. وما دام هؤلاء يجدون في التسويات خلاصا أمنيا، وسبيلا للتطبيع الاجتماعي، واستئناف الحياة المعيشية، فيجب أن يحترم خيارهم وتقر إرادتهم، وإلا فلا ضرورة بالأصل للحديث عن الديمقراطية.

الدور الإنساني
على صعيد الدور الإنساني للأمم المتحدة، أصدر مجلس الأمن الدولي، في 22 فبراير/شباط 2014، القرار الرقم (2139)، الذي طالب بوصول آمن للمساعدات الإنسانية إلى كافة المناطق والبلدات السورية. وكان هذا القرار أهم قرارات المجلس ذات الصلة بالشأن الإنساني في القطر السوري، علما بأن هذا الجانب قد ورد في بيانات وقرارات سابقة منذ العام 2011.

وقد طالب القرار جميع الأطراف بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، وتمكين الإخلاء الآمن للمدنيين العزل، الراغبين في مغادرة مناطق الاشتباك.

وكانت الأمم المتحدة قد رحبت، قبيل ذلك، بالهدنة الإنسانية التي اعتمدت في حمص القديمة، وطالبت بتعميمها على ريف دمشق ومدينتي نبل والزهراء.

أن أي وقف لإطلاق النار، يجب أن يستند إلى منطق تفاوضي، كمقدمة لتسويات موضعية أو شاملة، أي ضمن منطقة أو بلدة معينة، أو على مستوى القطر عامة

وفي وثائقها ذات الصلة بالشأن الإنساني، تشير الأمم المتحدة إلى أن هناك نحو عشرة ملايين سوري بحاجة إلى المساعدات، كما يعيش ثلاثة ملايين مواطن في مناطق يصعب وصول المساعدات إليها.

وتشتكي وكالات الإغاثة الدولية من عدم توفر السلع المطلوبة في السوق المحلية، حيث تأثر هذا السوق بالعقوبات الدولية، المفروضة على البلاد منذ سنوات.

وعلى سبيل المثال، يذكر المجلس الدانماركي للاجئين أنه كان قادرا في أوائل الأزمة على شراء الملابس الشتوية من مصنع واحد في حلب، بيد أنه يضطر اليوم لاستيرادها من الخارج بأسعار مضاعفة.

وفي السياق ذاته، أجبر نقص الوقود في السوق المحلية برنامج الأغذية العالمي على البحث عن هذه السلعة في الأسواق الإقليمية، التي تعاني في الأصل من القيود المفروضة على التصدير المتجه إلى سوريا.

إن التداعيات الاجتماعية عميقة الأثر للمعارك المتنقلة في البلاد، معطوفة على العقوبات الدولية، وانعكاساتها على العملة الوطنية، قد أفرزت وضعا ضاغطا على الشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة، وأوقعت ملايين السوريين في ظروف لم يشهدوها طوال حياتهم.

وهنا، كان لزاما على المجتمع الدولي أن يدعم الجهد الإغاثي، ويسند منظومة عمل إنساني واسعة النطاق، تشكلت من آلاف الجمعيات التطوعية، المنتشرة حاليا في مختلف مدن القطر وأريافه.

إن واجب دعم هذه المنظومة التطوعية لا يخص مؤسسات العمل الإنساني الدولي وحدها، بل هو التزام أخلاقي لكافة الأفراد والهيئات داخل القطر وخارجه. وهذا الدعم هو أسمى تعبير عن القواسم القومية والإنسانية المشتركة التي تجمع سوريا بمحيطها. وليس هناك من شيء أكثر من ذلك سموا ونبلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.