أردوغان.. معالم النصر ومستقبل الشرق

أردوغان.. معالم النصر ومستقبل الشرق ..مهنا الحبيل

لم تكن النتيجة القوية لانتصار حزب العدالة التركي ذي الجذور الإسلامية مفاجئا وفق تقييمات سمعتها مباشرة في إسطنبول من باحثين وإعلاميين أتراك عشية تصويت الناخبين وإن فاقت النتائج كل التوقعات حين انتزعت بلديات رئيسية وتاريخية لحزب الشعب المعارض.

لكن أهم معلم في مسيرة تركيا الحديثة وتجربتها الديمقراطية التي تعمقّت كثيرا بعد هذه الجولة، هو فوز الطيب رجب كما ينادونه الأتراك بأكبر حضور وكاريزما شعبية له ولمشروعه الوطني التركي وإيمانه بالحق الحضاري لعودة الشرق الإسلامي.

وهنا مفصلُ مهم يحتاج القارئ العربي أن يتوقف عنده، يتعلق الأمر بتجربة حزب العدالة وقصة بنائه السياسي وكفاح أردوغان في تأسيس هذا المشروع، إن الإشكالية الأولى التي يحتاج الباحث لتصحيحها هي فصل مشروع هذا الحزب عن طبيعة تجارب الحركات الإسلامية العربية، رغم وجود روح شرقية إسلامية مشتركة ومرجعية لمدرسة التشريع الإسلامي الكبرى بين هذه الشخصيات والعناصر في الجانبين التركي والعربي، لكن هناك اختلافات جذرية في تشكل المشروع السياسي وأساسه الفكري الاجتماعي.

حزب العدالة هو مشروع وطني سياسي واجتماعي لتركيا الحديثة وليس مشروعا سياسيا كالذي تقدمه حركات الدعوة الإسلامية في تجارب العمل الإسلامي عربيا

إن قصة تأسس حزب العدالة والتنمية بدأت منذ الانفصال عن مشروع الأب الروحي الكبير لإسلاميي تركيا نجم الدين أربكان الذي لا تزال بصمات مشروعه لاستقلال تركيا وقوتها الحضارية متداخلة بعمق في خطط النهوض التي يطرحها العدالة في برامجه الانتخابية، لكن هذا الانفصال انطلق أساسا لكي يُدشن مشروعا وطنيا سياسيا واجتماعيا لتركيا الحديثة وليس مشروعا سياسيا تقدمه حركات الدعوة الإسلامية كما هو في تجارب العمل الإسلامي العربي، وإن اُستخدمت العناصر والتعبيرات السياسية إلا أنّ العمق التأسيسي مختلف هنا كليا.

وهذه مادة بحث لا يُمكن أن يستوفيها المقال لكنها مدخل مهم لفهم سياقات التطورات التركية وصعود تجربة حزب العدالة والعهد الجديد لأردوغان، الذي يراقبه العالم باهتمام كبير وتحسب له القوى الدولية والإقليمية حسابات أكبر من أي وقت مضى.

وهذا لا يعني أن الحزب مُحصّنا من انتكاسة أو هزيمة في انتخابات أغسطس/آب القادمة، فالعمل السياسي بطبيعته خاضع لاعتبارات الصعود والهبوط، لكن المؤكد أن الحزب خرج من هذه التجربة بقوة شعبية تدعم مشروعه وإرادته الوطنية التي بالغ خصومه في المراهنة على إسقاطها في الـ 30 من مارس/آذار المنصرم، للدرجة التي دفعتهم لتهديد أمن تركيا بممارسات علنية، وهو ما جعل أردوغان يقلب المشهد عليهم في رسالة قوية في خطاب النصر عشية فوزه الكاسح.

وتمسّك أردوغان برابطة الشرق الإسلامي وتذكيره بقضية فلسطين وثورتي سوريا ومصر والحريات الإنسانية والسياسية للشرق، كانت تأكيدا لهذه الروح التي هاجمها خصومه وصوّت لفوزها الشعب التركي.

ولكن هذه المواعظ لم تأت ضمن خطاب مواعظ وتحفيز عاطفي كما جرى في التجارب الإسلامية العربية، وإنما بعد استكمال أردوغان وحزبه تأسيس البرنامج التنفيذي لمعيشة المواطن وتقدمه الصناعي والفرص الوظيفية وتكريس حرية الحياة المدنية منذ آخر سلطات العهد العسكري الذي عانت منه تركيا, وواصل الحزب البناء على مشروع تركيا الحديثة الذي ساهمت فيه أحزاب وشخصيات علمانية لكن مع إحياء روح الشرق ورفع الحظر عن قيم الدين الإسلامي والمواءمة الحضارية الدقيقة بينهما.

وخلال التطواف على مناطق وأحياء الناخبين وسؤالهم يظهر للمراقب بوضوح هذا الاندماج فأعلام الـ"AK" أي حزب العدالة في أيدي المحجبات والسافرات والقاعدة الشبابية للحزب ليست حصرا على الإطلاق على الحالة الدينية ومواقف عُمال وبسطاء ورجال أعمال وأصحاب محلات سياحية تبيع بعضها الخمور كما هو في صفوف المساجد والمتدينين وتكايا الصوفية ومعاهد الإسلاميين كلها تظهر الرضى عن المستوى الاقتصادي والتقدم الصناعي والاستقرار المدني والسياسي والطمأنينة الاجتماعية وكل ذلك مجيّر لديهم بالإيمان بقيادة الطيب رجب وحزبه.

تمسّك أردوغان برابطة الشرق الإسلامي وتذكيره بقضية فلسطين وثورتي سوريا ومصر والحريات الإنسانية والسياسية للشرق، كانت تأكيدا لتلك الروح التي هاجمها خصومه وصوّت لها الأتراك

والصدمة التي ظهرت على موقع جيهان الإخباري -وهو موقع شهير موال لجماعة فتح الله غولن وسُخّر بقوة لخدمة التحالف بينها وبين حزب الشعب بعد تبين عدم دقة النتائج التي أعلنتها الوكالة- هي إحدى مؤشرات الارتباك الذي صعد فور تبيّن النتائج، وكأنما هذا التحالف الذي انضم له بقوة في مدينة إسطنبول حزب الحركة القومية التاريخي ومُني بهزيمة مؤلمة، وضع كل رهاناته على إسقاط أردوغان وشق حزبه وهو ما اتضح عكسه, وبات هذا التحالف تحت حساب حملته الانتخابية التي استخدم فيها محظورات كثيرة وأهمها تعريض أمن تركيا القومي للخطر.

ورغم القرار الخاطئ من أردوغان غير المبرر والذي بُني على حسابات غير دقيقة وهو ما أفصحت عنه النتائج حيث إن شعبية الحزب لم تكن لتتأثر كثيرا بحملات تويتر التي خَطّط لها التحالف المعارض في اللحظات الأخيرة عبر طرح ذات القضايا التي لُفّقت للحزب -بحسب موقفه وأعلن عن مقاضات كل الأطراف المشاركة- وتسويقها بحجب تويتر وإلزامه باحترام القضاء التركي كما يفعل مع أميركا وإنجلترا حين يتضرر مواطن من إشاعة كاذبة وهو ما يُصر عليه أردوغان.

هذا القرار لم يُغيّر في حركة التصويت رغم انزعاج الشباب منه واحتمال مساهمته في فقدان بعض الأصوات للعدالة، إلا أن الكتلة التصويتية الضخمة كانت قد حسمت قرارها وقررت الرد على مشروع إسقاط أردوغان وتعريض التجربة السياسية التركية لمخاطر الفوضى الاجتماعية والاقتصادية.

وهذه الفوضى كانت تدفع لها الخلية السياسية والتجارية التي يطلق عليها أردوغان جماعة بنسلفانيا الأميركية التي تديرها جماعة غولن، دون أن يعي بالضرورة كيف تحوّل مشروعه الروحي الفكري إلى ترسانة سياسية تقتحم كل بازار السياسة، وتواجه قاعدة شعبية وليس حركة دينية سياسية منافسة، وهذه القاعدة تضم أكبر التيارات الصوفية التي اتحدت مع القاعدة المدنية ضد مشروع غولن والمعارضة وأسقطته، وهي معادلة جديدة فرضها الشعب التركي تصبُ اليوم بلا شك في مصلحة أردوغان ومشروعه الوطني وجسوره مع الشرق الإسلامي.

لقد كان واضحا في خطاب زعيم حزب الحركة القومية بعد النتائج الحذر الشديد من آثار هذا التحالف والذي حاول فيه أن يجعل بينه وبين تحالف غولن وحزب الشعب مسافة بعد اندفاعهم في حملة تشويه أردوغان وحزبه وتورطهم في استثارة الطائفة العلوية طائفيا وربط بعضها بنظام الأسد في حين امتنع أردوغان وحزبه بصرامة وحمى المجتمع التركي وحياته المدنية من تأثيرات حرب النظام السوري.

وقد وصل تهور المعارضة إلى زرع أو استثمار خلية تجسس وبث تسجيلها بالتعاون مع النظام السوري وتسويق إعلامي إيراني وغربي يضرب في عمق الأمن القومي التركي كمكالمة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو ومسؤولي الأمن والدفاع العسكريين الأتراك.

هذا الاندفاع الخطير للمعارضة يجعلها اليوم وعبر قناعة شعبية قوية تحت طائلة المحاكمة القانونية وتحييد عناصرها المتهمة بهذه الحملة حتى صدور الأحكام.

وبالتالي يتضح هنا عدم إدراك التحالف المعارض لخطورة ما يلي الانتخابات من محاسبة قانونية باعتبار أنه راهن على خسارة العدالة وأردوغان وخروج ميدان تقسيم ضده لدفعه للاستقالة بعد الهزيمة, مع دعم إسرائيلي شبه معلن وغطاء غربي، في حين يتحوّل انتصار أردوغان الكبير اليوم إلى تفويض للمحاسبة القانونية بحسب الدستور لحماية الممارسة السياسية والأمن القومي التركي في ظل كسب متزايد لأردوغان داخل مؤسسة الجيش التركي، وهو ما يعني أن رئيس الوزراء يستفيد اليوم من أخطاء خصومه الكبرى.

إن التفكير العربي الصحيح يكون بمد الجسور والتعامل مع هذا العهد الجديد، مع هذا الشريك التركي القوي وبناء التحالفات الذكية معه، من أجل توازنات الأمن والاستقرار العربي

إن إصرار أردوغان على مواجهة التحدي بتحد أكبر شكّل أيقونة لمستقبل خطير إما أن يكون الحزب ومشروع الحركة الإسلامية الحديثة للوطن التركي كل الوطن في قيادة الشعب بانتخابه الحّر أو أن يسقط وتطوى صفحتهم ويعقبها صراع اجتماعي سياسي يؤدي إلى فوضى تحصد الحياة الديمقراطية الحديثة في تركيا، وهو ما رفضته صناديق الاقتراع، وبدأ أردوغان التأسيس عليه لكنه أرسل رسالتين: رسالة لمحاسبة المتورطين، ورسالة للشعب وطموحاته الاجتماعية والمصالحة الوطنية وتأكيده على ذلك في الخطاب الثاني بأنه يفهم كليا ما يريده الشعب لمسيرة حقوقه.

لقد أضحى صعود الطيب رجب واقعا أمام القوى العالمية والإقليمية، وحتى توقيت هذا الصعود جاء في مصلحته في هذا المحور، فقضية أُوكرانيا واضطراب العلاقات الروسية الأميركية واستمرار فشل النظام السوري في حسم المعركة رغم كل الدعم الدولي والإقليمي الذي قُدم له، وعودة توازن ميداني نسبي للثوار مع واقع إنساني كارثي وأسئلة المستقبل الإستراتيجي للخليج العربي، كلها ملفات تفرض حضورا جديدا لتركيا عبر شخصية مركزية مفوضة شعبيا وذات قدرة على اتخاذ القرارات وصناعة المعادلات الدقيقة، وبالتالي فالتعامل مع أردوغان وانتصاره الجديد بات مطلبا لكل هذه التقاطعات.

وهو تحد يدركه الحزب كما سمعت منهم ويُعّد لبناء داخلي يُقابل به هذا العهد الجديد، تُركيا التوازن الإقليمي وأبعاده العالمية وتركيا قيادة المشرق الإسلامي.

وعليه فإن التفكير العربي الصحيح يكون بمد الجسور والتعامل مع هذا العهد، مع هذا الشريك التركي القوي وبناء التحالفات الذكية معه، لتوازنات الأمن والاستقرار العربي، في حين تبعث تركيا أردوغان من جديد ملف نهضة إنسان الشرق الإسلامي والتبشير برسالة القيم والحضارة وحرية الإنسان، بثقافة تنتمي للأصول ولكنها تعي فقه المرحلة ولغة العبور لصناعة الإنسان والأوطان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.