الجزائر على مفترق طرق

الجزائر على مفترق طرق - زرواق نصير

 
التفاعلات السياسية للحملة الانتخابية المتمثلة في تصاعد السجال بين أهم المتنافسين على الرئاسة وأنصارهم، وحدة الخطاب المتبادل وتحول بعض التجمعات الدعائية إلى احتجاجات بشعارات سياسية رافضة لمرشح السلطة وأحيانا بالعنف، وغياب التفاعل الشعبي الجاد معها، كلها أحداث تعكس عمق الهوة بين إرادتين وتطلعين.

وبين ما يريده الشعب ويتطلع إلى تحقيقه، وما تريده السلطة وتعمل على استمراره، علما بأن كثيرا من المناكفات المصاحبة للحملة الانتخابية على محدوديتها قابلة للتمدد والتشدد مستقبلا.

ويلاحظ أن الحراك الاجتماعي المرافق وتأثيره على الخطاب السياسي، بدأ يمسك بجزء من عملية التغيير ويرسم فصلا مهما من المشهد السياسي العام.

وتؤشر حالة الاستقطاب السياسي الفائض في كل الوسائط الإعلامية وفضاءات التواصل الاجتماعي، على أن الجزائر وصلت نظريا إلى نهاية الطريق الواحد والوحيد الذي مشته منذ الاستقلال، وأن عليها بداية طريق جديد وهي تقف على مفترق طرق وقد تهيأت عمليا لاستقبال مرحلة جديدة تحدد فيها وجهتها وتحسم خياراتها عن طريق إشراك كل القوى السياسية والفكرية والاجتماعية بالتوافق والتفاهم.

تؤشر حالة الاستقطاب السياسي الفائض في كل الوسائط الإعلامية وفضاءات التواصل الاجتماعي على أن الجزائر وصلت إلى نهاية الطريق الواحد والوحيد الذي سلكته منذ الاستقلال وأن عليها الآن سلوك طريق جديد

فقد بات ضروريا طي صفحة حكم "أقلية" ثقافية/فكرية/إيديولوجية تستمد وجودها من السيطرة على مقدرات الدولة، وتتغلغل في مفاصلها، وتعتمد خطابا معاديا للثقافة والفكر السائدين في المجتمع، حتى وإن أسهمت بعض "مراكز القوة" في نظام الحكم في الدفع نحو "الحراك" الاجتماعي السياسي وتغذيته بالعمل لصالح طرف بعينه على حساب طرف آخر في محاولة لقلب المشهد، لتعيد إنتاج وفرض نفسها من جديد.

بدأت مشكلات "الدولة" الجزائرية تطفو على السطح وتبدو أكثر وضوحا، وتكاد الأصوات تتوحد على إعلان رسالة وحيدة مفادها: أن الشعب لم يعد يتفاعل مع خطاب السلطة ومنظومة الحكم، وبدأ يأخذ زمام مبادرة الدعوة للتغيير الحقيقي.

فلأول مرة تخرج مطالب تصحيح مسار الدولة وبناء مؤسساتها وإعادة صياغة حاضر الجزائر وصناعة مستقبلها من ساحة المجتمع بهذا الإصرار. ولذا، فإن "جراحة سياسية" باتت ضرورية مع فشل خطاب السلطة وعدم قبول مبررات استمرارها وتسويق بقائها، حتى وإن حاولت التسويغ لأولوياتها تحت عناوين "الأمن" و"الاستقرار" و"المؤامرة الخارجية" و"مصلحة الوطن"، إلى غيرها من العناوين.

على أن ما يجب استحضاره هو وجود عقبتين أساسيتين لا مجال لعبور آمن نحو جمهورية ثانية أو تغيير تحت مسمى آخر، دون نقاش جاد لاستخلاص رؤية إجماعية أو توافقية حولهما، وهما: سؤال الشرعية وإشكالية التغيير، ومدى تزكية المؤسسة العسكرية لفكرة التغيير.

يتبدى سؤال الشرعية في أيلولة ميراث "الشرعية الثورية" القائمة منذ الاستقلال مع نهاية جيل الثورة التحريرية وحتمية تسلم جيل الاستقلال الحكم، وحول ماهية آلية هذا الانتقال للسلطة، وما الفئة التي سيؤول إليها الحكم؟ هل سيتم ذلك وفق آلية دستورية تعطي الشعب سلطة الاختيار في "منح الشرعية" من خلال صناديق الاقتراع؟ أم يتم الانتقال من خلال "التوريث" المباشر من المنظومة القائمة إلى منظومة تخلفها لتستمر شرعية المؤسسات القائمة بناء على منطق القوة وعلى الشعب "تزكية" خيار السلطة في منح الشرعية كما هو الحال منذ الاستقلال؟

فالمرشحون للرئاسة يتحدثون عن "تغيير" الدستور، دون بيان آلية هذا التغيير، هل يتم من قبل المنظومة القائمة في شكل منحة تمس أساسيات الدستور بما يؤسس لجمهورية ثانية حقيقية، أم هو تغيير "انتقائي" لا يؤدي إلى تغيير جذري في آليات صنع القرار وإعادة توزيع موازين القوة في صناعة القرار وبناء المؤسسات والتأسيس لحياة سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة تعيد التوازن المفقود للدولة، أم عن طريق توافق (عقد) يكون لكل القوى السياسية والفكرية والاجتماعية الحق في المشاركة في صياغته، ويؤدي إلى عملية التغيير؟

وأما العقبة الثانية فهي إشكالية التغيير نفسه، من حيث شكل التغيير وجوهره.

ما يجب استحضاره هو وجود عقبتين أساسيتين لا مجال لعبور آمن نحو جمهورية ثانية دون نقاش جاد لاستخلاص رؤية توافقية حولهما وهما: سؤال الشرعية وإشكالية التغيير، وموقف المؤسسة العسكرية من التغيير

شكليا، ما الذي يجب تغييره: الرئيس أم النظام كله؟ وطريقة التغيير: بالحراك الشعبي أم الضغط السياسي الاجتماعي أم تنازلات يقدمها نظام الحكم؟ وكيفية التغيير: سلمي مدني يفتح آفاق التغيير عبر مرحلة انتقالية هادئة أم تغيير حدي عنيف تفاصلي؟

ومن حيث الجوهر، ما المراد تغييره: بنية النظام كلها دفعة واحدة أم تفكيك مرحلي لمنظومة الحكم أم تغيير على مستوى معين من الحكم؟ وما سقف التغيير؟ وما حده الأدنى بالنسبة للسلطة ومعارضيها؟ علما بأن التجارب المطروحة في العالم العربي تجعل مسألة التغيير في الجزائر قابلة لأن يتحكم فيها بالتوافق والحوار.

إن تسيير النظام للدولة بمنطق "إدارة" الأزمات بدل مواجهتها والعمل على حلها منذ عشرين عاما مؤشر على أن جولة النظام قد وصلت إلى نهايتها، وأنه يعيش خريف الحكم في ظل تحديات متطلبات إدارة الدولة، وعدم قدرة آلياته على التفاعل مع الحراك الشعبي وعجز أعضائه عن الاستجابة للتجديد والتغيير، مع الضغط المتصاعد إلى غير انخفاض.

فأدوات إدارة المشهد السياسي وتحريكه: من امتيازات ومناصب لأحزاب بلا قاعدة ولا تمثل إلا نفسها ومصالحها، ومشاريع عبثية موجهة للشباب غير منتجة، وزيادات وهمية في المرتبات والأجور يقابلها تضخم وتخفيض في قيمة الدينار، وتضخيم مشاريع تنموية ضرورية وعادية ووصفها بالمعجزة، والتخويف الدائم من وجود مخاطر تهدد الأمن القومي، وتصوير مطالب التغيير على أنها انتحار جماعي، والمحاربة الكلامية الإعلامية للفساد المالي وحمايته في الواقع، والتطمينات الكاذبة بأن الاقتصاد ينمو خارج قطاع الطاقة بأرقام زائفة، وانتخابات دستورية محسومة النتائج تضمن الولاء، وغيرها، لم تعد تسعف النظام ولا تلقى أدنى قبول من طبقات المجتمع وفئاته الحيوية.

لا مفر من ضرورة التغيير والانتقال إلى مرحلة جديدة لأسباب موضوعية منها:

– كارثية تسيير طرف واحد للدولة (منظومة الحكم) مع غياب الرقابة والمحاسبة وتمييع دور البرلمان، وهو ما صنع طوفان الفساد المالي والإداري وانعدام شفافية صرف المال العام وجهل الرقم الحقيقي لمداخيل الدولة ووجهتها (الميزانية تقوم على الثلث من السعر الحقيقي للنفط).

– انحسار الفكر السياسي المتطرف من الساحة لونًا (مدني وعسكري) وعنوانًا (علماني وإسلامي).

– حرف المؤسسات الأمنية عن عقيدتها ودورها الوظيفي (الشرطة والدرك) من الحفاظ على النظام العام ومحاربة الجريمة، إلى مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية والعمالية وتحميلها عبء فشل الإدارة وعجز المسؤولين وما يتبع ذلك من إنهاك مادي ومعنوي للدولة ولهذه المؤسسات.

– تحول النظام إلى "عبء ثقيل" على الدولة التي أصابها الترهل والركود بسبب غيبوبته الفكرية عن حقيقة الأوضاع وعدم قدرته على استيعاب الواقع وقراءة المستقبل والاكتفاء بتدوير الوجوه السياسية والتنفيذية نفسها منذ عقدين تقريبا دون تجديد.

– التراخي في احتواء بؤر التوترات الاجتماعية ذات المخاطر العالية (مشكلات الجنوب كغرداية وورقلة) سياسيا واجتماعيا واقتصاديا والاعتماد على الحلول الأمنية.

الجزائر بما تمتلك من ثروات وموارد وتاريخ لا يمكن أن تستمر داخليا بحالة "البؤس" السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري، ولا يصح أن تبقى على "هامش أفريقيا"

– عزلة النظام سياسيا واجتماعيا مع دخول المجتمع مرحلة التمايز معه إلى حد القطيعة أحيانا، فكلما زادت حدة النقد والرفض الشعبي ضاق هامش المناورة وازدادت صعوبة عملية التكيف الإيجابي مع تطورات الموقف.

– عجز النظام -كما الأحزاب- عن إنتاج كفاءات جديدة، والاكتفاء بتدوير الوجوه نفسها منذ عقدين تقريبا دون تجديد، مع غياب معارضة قوية تمارس دورها في التمايز مع السلطة لا التماهي معها.

– احتواء فئة المنتفعين وأصحاب المصالح للنظام وتضخم نفوذ أصحاب الثروات وتمدده في دوائر الحكم والتشويش على عمل "فكر الدولة" في الإدارة وحماية المصالح الوطنية العليا.

لا أحد يملك الحق في جرّ الدولة إلى منطق "هذا أو الطوفان"، فالجزائر فعلا تقف على مفترق طرق ولا مفر لها من اختيار وجهتها وتحديد مسارها، ولها من التجارب الخاصة، وحولها من التجارب القائمة ما يغني عن المغامرة، وللجميع الفرصة كاملة في التوافق على برنامج الحد الأدنى لرسم معالم المرحلة القادمة.

فالتاريخ له مسارات حتمية في السياسة والاجتماع لا يمكن تغييرها أو الوقوف في وجهها، والجزائر تحكمها سنن التاريخ وقوانينه في الاجتماع السياسي كغيرها من الدول.

الجزائر بما تمتلك من ثروة وجغرافيا وموارد ومساحة وسكان وتاريخ لا يمكن أن تستمر داخليا بحالة "البؤس" السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري، ولا يصح أن تبقى إقليميا على "هامش أفريقيا"، وقد كانت ثورتها بالأمس هي العامل الأساس في استقلال محيطها الإقليمي ولا يستقيم أن "تقزم" دوليا وتنتكس بالرضا بصفة "شرطي حدود" لمواجهة الإرهاب الدولي، ووقف تدفق هجرة الأفارقة نحو أوروبا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.