ثلاث سنوات من ثورة سوريا.. نحو سياسة جديدة

ثلاث سنوات من ثورة سوريا.. نحو سياسة جديدة..سلامة كيلة

بعد ثلاث سنوات من الثورة لا بد من أن تكون قد تراكمت خبرات مهمة، وظهرت المشكلات التي تضعف الثورة، لهذا لا بد من إعادة بناء الرؤية التي تحكمها.

هذا ما فرض إعادة صياغة البرنامج الذي يحدد أهداف الثورة، ويفرض إعادة بناء السياسات التي تستطيع تجاوز الاستعصاء القائم وتحقيق الانتصار.

بدأت الثورة "سلمية"، أي عبر كل أشكال التظاهر التي حشدت في مدن عديدة وفي أوقات مختلفة مئات الآلاف.

استمرت كذلك رغم أن السلطة استخدمت السلاح منذ 18 مارس/آذار في درعا، واستمرت في استخدامه بعدئذ، وحتى بعد توسيع الصراع من قبل السلطة عبر إدخال الجيش في الصراع ضد الشعب.

إذا كانت بعض أطراف المعارضة تحرّض على استخدام السلاح منذ الأشهر الأولى للثورة، فإن ما فرض انتقال الثورة إلى العمل المسلح هو الوحشية التي كانت تمارسها السلطة

وإذا كانت السلطة تمارس الوحشية والإذلال من أجل دفع الشعب لحمل السلاح، انطلاقا من أن هذه الخطوة هي التي سوف تعطيها التفوق نتيجة ضخامة القوى العسكرية لديها، وإذا كانت بعض أطراف المعارضة (الإخوان المسلمون) تحرّض على استخدام السلاح منذ الأشهر الأولى، فإن ما فرض انتقال الثورة إلى العمل المسلح هو الوحشية التي كانت تمارسها السلطة.

ولأن الشباب الذي كان يتظاهر هو الذي حمل السلاح، فقد تراجعت المظاهرات، خصوصا مع زيادة عنف السلطة، ومن ثم ميلها للقتل الوحشي والتدمير، وأصبح التسلح هو "المبرر" لكي تزيد وحشية السلطة، وتسمح بالتدمير وتهجير الشعب. بالتالي مالت الثورة لأن تكون مسلحة دون نشاط شعبي مقابل أو رديف، وهذا بات يرتهن لقلة خبرة المسلحين العسكرية، وقلة قدرتهم التنظيمية بعد أن قتل أو اعتقل أو هرب الصف الأول من المنظمين في التنسيقيات، الأمر الذي فُتح على فوضى عسكرية، وتشكل مناطقي للكتائب المسلحة، وفشل في إدارة المناطق التي باتت تحت سيطرتهم.

لقد تسربت فكرة "التحرير" من بعض أحزاب المعارضة كسياسة عسكرية، وفرضت هذه الأحزاب تسمية المنشقين عن الجيش، الذين انخرطوا في الثورة عبر "الجيش الحر".

بالتالي باتت الإستراتيجية العسكرية التي تمارس هي إستراتيجية تصارع "جيشين"، تكون مهمة "الجيش الحر" هي تحرير المدن والمناطق السورية من سيطرة السلطة. وفي ظل الاختلال الكبير في ميزان القوى، حيث تمتلك السلطة قوات مدربة على القمع والقتل، وأسلحة لا يمكن مجاراتها من حيث قوة النيران، وتتحكم في الأرض، ووجود الطيران الحربي والصواريخ البعيدة المدى، لم تكن إستراتيجية الثورة العسكرية صائبة، لأنها همشت الحراك الشعبي، واعتمدت كتائب مسلحة ضعيفة التدريب والتسليح، وتميل للدفاع عن مناطقها، وإذا تقدمت تتقدم في محيطها، لهذا وقعت تحت ضغط التفوق الكبير في الأسلحة التي تمتلكها السلطة.

وإذا كانت سيطرت على مناطق انسحبت قوات السلطة منها، في الشمال والشرق خصوصا، فقد دخلت في عملية "تقدم بطيء" بعدئذ، وفشل أحيانا، ولم تستطع الإفادة من ضعف السلطة لكي تحسم الصراع، إضافة إلى أنها لم تمنع دخول قوى أصولية، زرعتها السلطة، وكان واضحا أن وجودها سوف يؤدي موضوعيا إلى "تخريب" الثورة، أو عرقلة نشاطها. كما لاحظنا متأخرين.

كل ذلك يفرض أن يعاد النظر في الوضع كله، بحيث لا بد من إعادة تنشيط الحراك الشعبي، وتنظيم القوى الشعبية بحيث يكون لها دور فاعل، واعتبار أن الثورة هي ثورة شعبية يكون للعمل المسلح فيها دور داعم لتطوير النشاط الشعبي الذي هو وحده سيحسم الصراع وليس الحرب، في وضع يعاني من اختلال كبير في ميزان القوى.

فالسلطة تُدعّم بالسلاح و"المرتزقة" من إيران والعراق ولبنان، وتدعّم بالسلاح من إيران وروسيا، وبالخبرات من هؤلاء جميعا، بينما لا أحد يريد دعم الثورة عسكريا، على العكس من ذلك جرى دعم القوى الأصولية من أجل تخريب الثورة خدمة للسلطة، وبهدف تحويلها إلى مجزرة تكون عبرة للشعوب كافة، وبالتالي لا يمكن تحقيق تغيير في طبيعة التسليح القائم، يمكن أن يؤدي إلى تحقيق اختلال ميزان القوى.

وهذا يفرض التالي:

لم تقم الثورة من أجل "دولة الإسلام"، بل كانت من أجل الحرية والعدالة. ولم تقم ضد شخص أو عائلة، بل ضد نمط اقتصادي وفئات تدافع عنه، ومن أجل اقتصاد يحقق الرفاه

أ- أن تتشكل مجالس شعبية تدير كل المناطق الواقعة خارج سيطرة السلطة، والمحررة، وأن تكون مهمتها تشكيل إدارة كاملة فيما يخص القضاء و"الشرطة" والخدمات.

ب – تنشيط الحراك الشعبي (أو المدني كما يتكرر)، وتفعيله في المناطق التي تسيطر عليها السلطة بكل الأشكال الممكنة، وأظن أن الشعب بعد ثورة السنوات الثلاث قد اكتسب خبرة تجعله قادرا على ذلك.

ج – تنظيم الكتائب المسلحة وتوحيدها في مظلة واحدة، تتشكل من قيادات عسكرية خبيرة، حيث إن الأمر يتعلق بإعادة بناء الإستراتيجية العسكرية، وتحديد الأولويات التي تتعلق بضرب مفاصل السلطة الأساسية، وليس الانخراط في "تحرير المدن" بحيث تصبح هذه المدن عرضة للقصف العنيف، وللبراميل المتفجرة والصواريخ. والانطلاق من ضرورة تدمير ما تبقى من "البنية الصلبة" للسلطة (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري)، وتدمير كل القوى التي تستجلب من لبنان والعراق وإيران، والسيطرة على السلطة ليس عبر "تحرير دمشق"، بل عبر السيطرة على المواقع التي تتحكم السلطة من خلالها في دمشق، وفي السلطة كلها.

د- إنهاء مهزلة التسميات "الإسلامية" للكتائب المسلحة، ومعرفة أن هذه التسميات لن تجلب المال أو السلاح، أو أنها تجلب المال للقوى التي تقبل الخضوع لأجندات خارجية، لا تريدها أن تُسقِط السلطة، بل تريدها أداة مساومة مع السلطة.

لقد أضرت هذه التسميات أكثر مما أفادت، وفتحت الأفق لتقوية قوى طائفية أصولية لا تقتل السلطة، بل تريد فرض "دولة الإسلام" على الشعب في المناطق التي تتراجع السلطة عنها.

ه – لا بد من فهم أن ليس كل الجيش يقاتل مع السلطة، بل الجزء الأكبر منه بات محيّدا ومهمشا، وهذا ما يفرض التفكير في كيفية التأثير فيه من أجل أن يلعب دورا في التغيير.

ويقتضي هذا أولا عدم التعامل معه كعدو، ومن ثم كيف يمكن الاستفادة من دوره، فهو يتشكل من أبناء المناطق التي تعرضت للقتل والتدمير، وهو من أبناء الشعب الذي ثار، ويمتلك الميول ذاتها.

في مستوى آخر لا بد من تهميش كل المجموعات الأصولية، التي يعمل بعضها لمصلحة السلطة وبعضها لمصلحة دول إقليمية، ومواجهة منطقها الوهابي الذي يؤسس على مخيال "قروسطي"، ويسترجع ماضيا وهميا، ويتشكل من خليط من فئات مأزومة (وربما لديها هوس جنسي) واختراق مخابراتي متعدد.

فالثورة لم تكن من أجل "دولة الإسلام" التي يدعو هؤلاء لها، بل كانت من أجل الحرية والعدالة كما أوضحنا سابقا، ولم تكن ضد شخص أو عائلة، بل كانت ضد نمط اقتصادي وفئات تدافع عنه، من أجل اقتصاد يحقق الرفاه.

ولا شك أن إدخال هذه الأفكار الأصولية كان من أجل تشويش الثورة وتشويهها، لأن ما يمارسه هؤلاء يخرّب مجتمعيا ويستفاد منه من قبل السلطة وعالميا للقول إن ما يجري ليس ثورة بل "إرهابا جهاديا".

لا بد أن يحل الخطاب "الوطني" الطبقي الديمقراطي محل أي خطاب آخر، ولا بد بالتالي من مواجهة الخطاب الأصولي الوهابي، وتهميش قواه.

في مستوى ثالث لا بد من تجاوز الأوهام حول "الدور الخارجي"، فليس هناك قوة دولية تريد انتصار الثورة، بل إنها تريد المجزرة لأن كلا منها تتحسس وضعها في ظل الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية، والتي تؤسس لثورات كبيرة في العالم.

لا بد من تجاوز الأوهام حول "الدور الخارجي"، فليس هناك قوة دولية تريد انتصار الثورة، لأن كلا منها تتحسس وضعها في ظل أزمة عميقة تعيشها الرأسمالية، وتؤسس لثورات كبيرة في العالم

ولأن من يتدخل يُخضع الملتحقين به لسياساته التي لا تهدف إلى انتصار الثورة قطعا، وكل يتسابق من أجل الحصول على مصالح اقتصادية وعقود إعادة الإعمار، لنهب البلد بديلا عن نهب آل الأسد ومخلوف وشاليش وكل الحاشية.

بالتالي لا بد من الانطلاق من القوى المحلية، ومن القدرات المحلية، وتنظيمها بما يجعلها قوة.

ولهذا لا بد من فضح كل الذين يراهنون على القوى الإمبريالية، أو يتعاملون معها، أو يعتقدون بأن سوريا المستقبل يجب أن تكون "في حضن الغرب". هذا خطاب مسيء ويضر الثورة، ولقد أضرها كثيرا في الماضي دون جدوى، لأن القوى الإمبريالية (وأميركا خصوصا) لا تريد التدخل، ولم تعد قادرة على ذلك.

في الأخير، ما هو مهم هو كيف يمكن أن يتحرك الساحل السوري؟ أي كيف يمكن أن تفقد السلطة "بنيتها الصلبة"، وتواجه البيئة الاجتماعية التي استغلتها طيلة السنوات الثلاث، وأفقدتها خيرة شبابها؟

فالصراع مع السلطة لن يحسم إلا من خلال الإفادة من كتلة الجيش المهمشة أولا، ومن تحرك الساحل ثانيا.

بغير ذلك ربما يستمر الصراع فترة أطول إذا لم تسارع القوى الدولية التي تريد تحقيق مصالحها في سوريا إلى فرض حل وفق جنيف2، أو بشكل آخر.

الثورة ليست في أحسن حالاتها، والسلطة كذلك في أسوأ حالاتها، لهذا لا بد من أن يعاد بناء الثورة بما يسمح لها بأن تحسم الصراع، وهذا يفترض انخراط كل الشعب، وتنظيم العمل العسكري، وإعادة بناء الأهداف والسياسات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.