سباق أطلسي روسي نحو الشرق

سباق أطلسي روسي نحو الشرق - عامر راشد - نتيجة السباق المحتدم حاليا بين روسيا والغرب على كسب ثقة الصين والهند، ستحدد من هو الرابح الأكبر في الجولة الثانية والحاسمة من تداعيات الأزمة الأوكرانية

الجولة الأولى
أزمة القرم
عناق ثلاثي

وضعت أزمة شبه جزيرة القرم وتداعياتها روسيا ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في حالة صراع يتوقع أن تكون طويلة الأمد، ستفرض في سياقها السعي لبلورة تحالفات دولية جديدة، على حساب العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، التي كان يعتقد حتى وقت قريب أنها متينة سياسيا واقتصاديا، رغم ما اعتراها من مظاهر صراع جيوسياسي.

وتتجه أنظار أميركا والغرب وروسيا نحو الصين والهند، كحجر زاوية في بناء تحالفات يمكن لها أن تكون حاسمة في المواجهة المفتوحة بين موسكو و"الناتو".

الجولة الأولى
نجاح روسيا في ضم شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول، من دون التورط في مواجهة عسكرية مباشرة مع أوكرانيا، ألحق ضربة جيوسياسية إستراتيجية مؤلمة بدول حلف "الناتو".

تتجه أنظار أميركا والغرب وروسيا نحو الصين والهند، كحجر زاوية في بناء تحالفات يمكن لها أن تكون حاسمة في المواجهة المفتوحة بين موسكو و"الناتو"

ومما لا شك فيه أن الخطوة الروسية المباشرة تجاه القرم وسيفاستوبول خضعت لحسابات دقيقة لدى الكرملين، إلا أن تلك الحسابات لم تأخذ بعين الاعتبار -كما يجب- التداعيات السلبية المتوقعة على المدى المتوسط، سواء لجهة العلاقات مع الحلفاء الأطلسيين، أو لجهة علاقاتها مع دول الجوار، ومنها دول (رابطة الدول المستقلة).

وللتعويض عن خسائرها السياسية والاقتصادية المتوقعة في علاقاتها مع الغرب تعمل روسيا على تعزيز الشراكة مع الصين والهند، بينما سبق للولايات المتحدة الأميركية أن وضعت تطوير علاقاتها مع هاتين الدولتين في صلب إستراتيجيتها للقرن الحادي والعشرين.

لكن الجانبين الروسي والأميركي يعانيان من عدم المقدرة على إيجاد أرضية ثابتة يمكن لها أن تؤسس لشكل من أشكال التحالف الإستراتيجي طويل الأمد مع الصين والهند.

أزمة القرم
عانى حلف شمال الأطلسي في العقد الأخير من تراجع دوره، رغم توسيع عضويته من بعض دول أوروبا الشرقية، ولم تفلح المساعي التي بذلتها واشنطن، منذ تفككك الاتحاد السوفياتي، بتفعيل دور الحلف إلى المستوى الذي كان عليه قبل عام 1991. وأقر بذلك الرئيس باراك أوباما في قمة زعماء الحلف بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه، أغسطس/آب 2009، حيث أكد أوباما أن قادة "الناتو" "فشلوا في حل كل المشاكل العالقة بين دوله، وحاجة الحلف لأن يتغيّر، ويكتسب مزيدا من الحداثة، ليكون قادرا على مواجهة التحديات غير التقليدية..".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التجاوب الأوروبي مع دعوات أوباما كان متقدما نسبيا عن التجاوب مع إدارتي بيل كلينتون وبوش الابن، ويرجع ذلك إلى مضمون خطة "الإستراتيجية العسكرية الأميركية للقرن الـ21" التي اعتمدتها إدارة أوباما، حيث اعترفت فيها بأن "مفهوم الأمن المتداخل الذي تعتمده أوروبا في إستراتيجيتها الدفاعية الموحدة" يتكامل مع دور الحلف، وهو ما كانت ترفضه الإدارات الأميركية السابقة، التي كانت تتعامل مع أوروبا كتابع لها، وخاضعة لقيادتها في الإستراتيجية الدفاعية للحلف.

غير أن الدول الأوروبية عملت على توظيف هذا التنازل الأميركي في تكييف عمل قوات الحلف مع متطلبات التحول إلى قوات لحفظ السلام، وتثبيت ذلك في "العقيدة الإستراتيجية الجديدة للحلف"، التي تم اعتمادها عام 2010.

روسيا الاتحادية تعاملت حينها بكونها الرابح الأكبر، من خلال قرار قادة الحلف تحسين العلاقات الدبلوماسية وإحياء العمل معها في مختلف المجالات دون أي شروط مسبقة، واستئناف عمل مجلس روسيا "الناتو"، وتجاوز نتائج تدخلها العسكري في النزاع الجورجي الأوسيتي الجنوبي، واجتياحها للأراضي الجورجية.

كما أن تأجيل النظر في طلب أوكرانيا وجورجيا الانضمام لعضوية الحلف تم اعتباره كانتصار لروسيا، التي أوصلت -حسب وجهة نظر الكرملين- رسالة قوية لأوروبا والولايات المتحدة، بنجاحها في خلق واقع سياسي وعسكري في منطقة القوقاز، وآسيا الوسطى، أوقف التغلغل الأميركي في الخاصرة الأمنية الروسية الرخوة، ومكن روسيا أن تنتقل بعد ذلك من الدفاع للهجوم في ردها على مشروع نشر "الدرع الصاروخية" الأميركية وتمدد الحلف الأطلسي شرقا، بقرار نشر صواريخ "إسكندر" الإستراتيجية في إقليم كالينغراد الروسي، الواقع ضمن أراضي الاتحاد الأوروبي.

وأرست روسيا من خلال ذلك معادلة يتهدد فيها الأمن الأوروبي بشدة، ما دفع أوروبا لأخذ الاعتراضات الروسية بعين الاعتبار، وتفضيل لغة الحوار والتعاون مع موسكو الممسكة بملفات حساسة تفوق حينها في أهميتها بالنسبة لأوروبا الأزمة القوقازية، والدرع الصاروخية وتوسيع حلف الأطلسي، مثل الملف النووي الإيراني، وكونها مصدرا آمنا لإمدادات الطاقة التي تحتاجها القارة الأوروبية، ونفوذها في دول آسيا الوسطى، وأهمية تعاونها في محاربة القاعدة وطالبان… إلخ.

السلوك الروسي إزاء أزمة القرم سيحفز أميركا بدعم أوروبي، إلى التشدُّد، وأخذ زمام المبادرة من جديد، على وقع اتهامات لها بالتخلي عن شعارات قيادة العالم الحر

غير أن مكاسب روسيا من نتائج تراجع دور الحلف الأطلسي لم تحسم على المدى الإستراتيجي، لأن إدارة الرئيس أوباما في تقييمها، ومراجعتها لأخطاء الإدارة الأميركية السابقة، لم تعترف بنهاية عهد الريادية الشمولية "السياسية والاقتصادية" للولايات المتحدة، بل راهنت على أن ما وقع مجرد صعوبات في ظروف طارئة، يمكن لواشنطن من خلال دبلوماسية وسياسة خارجية مرنة التغلب عليها، وإعادة بناء مواقفها الجيوسياسية المهزوزة، وتجديد تأثيرها الطاغي على المجريات الدولية، بالتوازي مع محافظتها على التفوق العسكري.

وشكَّلت أزمة شبه جزيرة القرم فرصة استثنائية لها كي تدفع وبقوة نحو إعادة الاعتبار لدور "الناتو" وتطويره، عبر تخطي الخلافات التي شابت علاقات دول الحلف في العقدين الأخيرين، لا سيما بخصوص ضرورة تغيير أهداف الحلف ومهامه، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق وحلف "وارسو".

وثمة تقدير راجح بأن السلوك الروسي إزاء أزمة القرم سيحفز الولايات المتحدة، بدعم أوروبي، إلى التشدُّد، وأخذ زمام المبادرة من جديد، تحت وقع ضغوط متصاعدة من قبل أوساط نافذة في صنع القرار الأميركي، تتهم إدارة أوباما بأنها تخلت عن شعارات قيادة العالم الحر.

عناق ثلاثي
أمام تحدي إمكانية اتخاذ الاتحاد الأوروبي لقرار إحداث تحول نوعي بطيء، ولكن فاعل على المدى المتوسط، في علاقاته الاقتصادية والتجارية مع روسيا، تنشط روسيا في البحث عن بدائل تعوضها عن خسائرها المتوقعة، كون الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لروسيا، إذ يقدر حجم التبادل التجاري الروسي الأوروبي بأكثر من 400 مليار دولار، تحتل صادرات النفط والغاز الجزء الأعظم منها، علما بأن أوروبا تعتمد على روسيا في تأمين أكثر من ثلث احتياجاتها من ورادات الطاقة، بينما تشكل صادرات النفط والغاز الروسي عموما ما يقارب 70% من واردات الخزينة الروسية.

وفي مقدمة البدائل التي تعمل عليها موسكو بناء شراكة إستراتيجية شاملة مع بكين ونيودلهي، بزيادة التبادل التجاري، والتعاون الاقتصادي والعسكري، وتنسيق المواقف السياسية.

ووقعت روسيا والصين مؤخرا على اتفاقية لزيادة الواردات النفطية الروسية إلى الصين، وتجري مفاوضات بين الجانبين بشأن توريد الغاز الروسي.

كما حافظت روسيا على علاقات متقدمة مع الهند، خاصة في مجال التعاون العسكري والتكنولوجيا النووية المدنية، حيث تتجاوز واردات الهند 30% من حجم الصادرات العسكرية الروسية. وتم في 21أكتوبر/تشرين الأول 2013 التوقيع على خمس اتفاقيات للتعاون في مجال الطاقة والعلوم والتقنيات بين البلدين.

غير أن علاقات موسكو مع بكين ونيودلهي لا تخلو من عقبات، رغم تطورها، ومن المفروغ منه أن الحديث هنا لا يدور عن تحالف ثلاثي، تحول دونه خلافات مزمنة بين الصين والهند، ويتوقع لعلاقات روسيا معهما أن تصبح أكثر صعوبة في ظل المواجهة الروسية الأطلسية، التي ستفرض على البلدين حسابات معقدة في الموازنة بين مصالحها الاقتصادية المشتركة والواسعة مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، مقابل علاقاتهما مع روسيا.

فضلا عن حساسيات سياسية لم تعلن عنها بكين ونيودلهي إزاء أزمة القرم، وما يبنى عليها من توقعات تتعلق بسلوك موسكو اللاحق، وفي الخلفية مخاوف من تكرار السيناريو في بعض بلدان (رابطة الدول المستقلة) وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق، التي يوجد فيه عدد كبير من المواطنين الذين ينحدرون من أصل روسي. ويشار هنا إلى أن هذه المخاوف تثير حفيظة دول آسيا الوسطى الشريكة في "منظمة شنغهاي للتعاون"، وهو ما سينعكس سلبا على روسيا، بتنشيط الصراع على آسيا الوسطى، ومحاولات إيجاد طرق جديدة بعيدا عن الأراضي الروسية، بعدما كانت قد انعدمت تقريبا حظوظ خط (نابوكو- السيل الجنوبي) للغاز، في السنوات الأخيرة، وازدادت حظوظ "السيل الشمالي" الذي تتحكم به موسكو.

ومن المؤشرات القوية على ذلك إعلان إيطاليا -الشريك المهم في خط "السيل الشمالي"- أنها يمكن أن تتخلى عن الغاز الروسي في غضون عامين.

يضاف إلى ما سبق مجموعة من المؤشرات الأخرى، منها أن الصين والهند لا تنظران بارتياح لما جرى في القرم، لأنهما لا تريدان تكرار التجربة السابقة في التبت وكشمير، المقصود الاعتماد على استفتاءات لتقرير المصير، لذلك رغم أنهما ترفضان فرض عقوبات على روسيا، إلا أنهما تصمتان بالنسبة لتطورات أزمة القرم والأزمة الأوكرانية ككل.

لا يمكن للصين والهند التفريط بعلاقاتهما مع أوروبا وأميركا ليس فقط بناء على حجم التبادل التجاري، إنما لحاجة البلدين الماسة للتكنولوجيا الغربية، التي يتوقف عليها إلى حد كبير مستقبل تطوير قدراتهما الاقتصادية وتحديثها

وتطالب الصين بأسعار تفضيلية لواردتها من النفط الروسي، وهذا المطلب حاضر أيضا في المفاوضات حول الغاز الطبيعي بين البلدين، ومن المفروغ منه أن الهند ستكون لديها مطالب مماثلة، وهو ما سيرتد خسارة على الخزينة الروسية.

ناهيك عن أن السوقين الصينية والهندية لا يمكن لهما أن تعوضا الخزينة الروسية عن خسارة السوق الأوروبية، خاصة أن روسيا ستواجه منافسة حادة من قبل إيران والعراق، حيث يمكن لأي قرار جديد بتخفيف العقوبات الغربية عن إيران أن يربك الحسابات الاقتصادية والتجارية الروسية، بينما وصل العراق مؤخرا إلى أعلى رقم قياسي في إنتاج النفط وتصديره منذ خمسة وعشرين عاما.

من المهم أيضا عدم إغفال أن الصين والهند لا يمكن لهما التفريط بالعلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، ليس فقط بناء على حجم التبادل التجاري، إنما لحاجة البلدين الماسة للتكنولوجيا الغربية، التي يتوقف عليها إلى حد كبير مستقبل تطوير قدراتهما الاقتصادية وتحديثها.

في المقابل من المتوقع أن تدفع الولايات المتحدة وأوروبا نحو إقامة منطقة حرة عابرة للمحيط الأطلسي، بما تعنيه من فوائد الصين والهند والغرب.

ويمكن لأميركا ودول "الناتو" أن تحدث تغييرا كبيرا في معادلة السباق مع موسكو نحو الشرق، إذا ما لمست بكين ونيودلهي تحولا جوهريا في إستراتيجية واشنطن الجديدة نحو منطقة المحيط الهادي، يطمئنهما إلى أن تحول الاهتمام الأميركي إلى المنطقة لا يهدف إلى محاصرة تنامي النفوذ الاقتصادي للتنين الصيني والفيل الهندي، واحتواء قوتهما العسكرية والسياسية الصاعدة.

وبنتيجة السباق المحتدم سيتحدد من هو الرابح الأكبر في الجولة الثانية والحاسمة من تداعيات الأزمة الأوكرانية، مع التأكيد على أن حظوظ روسيا تبقى أقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.