سوريا.. ثلاث سنوات من الثورة

سوريا.. ثلاث سنوات من الثورة - غازي دحمان

مرت ثلاث سنوات على ذلك اليوم الذي دشن فيه السوريون ثورتهم، تلك الثورة التي تحولت إلى حدث شغل العالم وكاد يوصله في لحظات معينة إلى شكل من أشكال الحروب، يوم أبحرت سفن أميركا إلى الشاطئ السوري ردا على تجاوز بشار الأسد الخط الأحمر الذي وضعه رئيس الولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما، لكن الأزمة تجاوزت كل ما هو متوقع وتسير واثقة إلى حالة مديدة من الاستنقاع.

وبحسب تقديرات استخباراتية دولية، فإن الأزمة السورية قد تستغرق عشر سنوات أخرى على أقل تقدير، مما يعني أن البلاد ما زالت في المراحل الأولى من حربها الضروس.

ويستند هذا النوع من التقديرات إلى جملة من المعطيات، لعل أهمها ما تؤكده دراسات علم الاجتماع والخبرة التاريخية من أن زمن الحروب الأهلية عادة ما يمتد من عشرة أعوام إلى خمسة عشر عاما.

بحسب تقديرات استخباراتية دولية، فإن الأزمة السورية قد تستغرق عشر سنوات أخرى على أقل تقدير، مما يعني أن البلاد ما زالت في المراحل الأولى من حربها الضروس

الوقائع على الأرض تقول أكثر من ذلك أيضا، ثمة بنية تحتية كاملة صارت مجهزة لمثل هذا الاحتمال، كل الموارد والإمكانيات في الإقليم صارت تعزز مثل هذا الاتجاه، كما أن مفرزات الحدث نفسه تسير باتجاه تكوين بنية رديفة لمثل هذا التطور، لا يمكن إلا أن تفرض وقائعها.

الواقع يشير إلى تكريس سوريا ساحة هامشية يمكن أن يمارس فيها كل شيء، من التخلص من الجماعات التكفيرية إلى حد تجريب السياسات الدولية، وصولا إلى جعلها ساحة مناطحة دائمة، هذا ليس خيارا يجري الإعداد له، ولا إستراتيجية تنوي الدول تطبيقها على الأرض السورية، بقدر ما هو واقع حال، سيجري تكريسه بسبب الإهمال أو العجز أو التقاعس، لكنه بعض من ملامح مستقبل سوريا القادم.

على المستوى اللوجستي يجري بناء منصة المعركة وتجهيزها من أجل قتال أكثر ولزمن أطول، أنبتت في المراكز الإقليمية القريبة قواعد لتزويد الحرب بكامل عددها من سلاح وأيديولوجيا ورجال ومال، هذه البنية يصعب تفكيكها بالزمن المنظور، بل إن محاولة النكوص عنها من شأنه خلق حالة من الارتباك في تلك المراكز.

الأكيد أن تلك المراكز ستبني على مقتضيات الحالة واقعا سياسيا موازيا ذا نمط حربي، بما يعني معه تغيير حتى البنية السياسية داخل تلك المراكز وجذب الأكثر تطرفا فيها إلى دوائر صنع القرار.

لا تبدو البيئة الدولية بعيدة عن مثل هذا التطور، حيث يجري، بقصد أو بدونه، تحويل سوريا إلى ساحة لتفريغ التوتر الدولي، الأمر ربما لم يصل بعد إلى حد التجهيز العملاتي للساحة من أجل هذه الوظيفة، بمعنى عدم تبلور دوائر مختصة بهذا الأمر حتى اللحظة، ولكنها على المستوى النظري تسير الأمور بهذا الاتجاه، إذ لا يبدو وجود مشكلة لدى مراكز القرار في الدول الفاعلة في أن تتحول سوريا إلى هذا المآل، ليس في الأمر سرا، الأمور تتطور بهذا الاتجاه والأزمة تنقل ذاتها إلى الإطار الأوسع.

على المستوى الاجتماعي تتغير عناصر القضية لتسير باتجاه مفارق، حيث يشكل سيل النازحين معطى ثابتا في الواقع الإقليمي وهو يسير إلى التحول إلى واقع مكرس وخاصة على مستوى توطن اللاجئين في البلاد التي هاجروا إليها، مع الزمن وتقادم الأزمة وبحث اللاجئين لحلول لأوضاعهم المعيشية وقيام علاقات مصاهرة وعمل وترابط مع شعوب البلدان التي يهاجر إليها السوريون.

كل ذلك يشكل بنية محفزات ستساهم في توطين السوريين، ولن يقتصر الأمر على مكون سوري واحد، فالأكراد كما السنة كما المسحيون والدروز، معرضون لمثل هذه الخيارات.

من جهته يسعى النظام والأطراف الداعمة له إلى تدمير بيئة الثورة نهائيا، وسبيله في ذلك، تهيئة ظروف الهجرة والتشرد، لذا فهو يعمل على إفراغ مناطق كثيرة عن قصد، كما يعمل على تحويل الحياة في مناطق أخرى إلى جحيم بحيث يبدو معها خيار الهجرة أفضل الخيارات الممكنة.

فصائل المعارضة ذات أنشطة محلية، وغير منسقة، ولا توجد لديها إستراتيجية شاملة، ولم تنتقل بعد من مرحلة مقاتلي العصابات إلى قوة ميدانية قادرة على إلحاق الهزيمة بالقوات النظامية

ولا شك أن إيران التي تدعم خطط بشار الأسد يوافقها مثل هذا الاتجاه، وذلك لخلق واقع ديمغرافي مناسب لمشروعها حيث تدرك أن أحد شروط استمرار هيمنتها على سوريا يكمن في تنفيذ هذه الإستراتيجية على الجسد السوري.

ويبدو هذا الأمر واضحا من خلال مشاركة حزب الله المكثفة والجدية في الحرب في مناطق سورية معينة مثل القوس الذي يمتد على طول الحدود الشرقية للبنان والتهجير الذي شمل مناطق واسعة وعددا من السكان يتجاوز المليون نسمة والعبث بالتركيبة السكانية لهذه المناطق، وهو الآن يكمل نفس المنهجية شرقا باتجاه حمص التي صارت فارغة من سكانها الأصليين باستثناء جيوب بسيطة في الرستن وتلبيسة.

هذا الواقع يجري صناعته في سوريا يوما بعد آخر، بمنهجية وخطة واضحة، وتصرف ميزانيات وتخصص موارد هائلة لإنجاز هذه الإستراتيجية.

فقد جرى تدمير البنية العمرانية لثلثي سوريا، وجرى أيضا تدمير الحياة الاقتصادية لملايين من الناس وهو أمر على عكس ما يتصور الكثير لن يمكن إعادته للإنتاج قبل وقت طويل، هذا في حال افترضنا انتهاء الحرب على السوريين في وقت قريب.

فقد دمر النظام أدوات إنتاج القسم الأكبر من السوريين، وخاصة على مستوى المشاريع الصغيرة في الأرياف والضواحي، كما عمد إلى قتل وتهجير واعتقال أعداد كبيرة من الكوادر المدربة والخبيرة، أما المشاريع الكبيرة فقد هاجرت إما لدول الجوار، تركيا والأردن، وإما عبرت البحار بعيدا عن سوريا.

بعد ثلاثة أعوام، كل شيء في بنية الحدث السوري تغير، البنية الثورية جرى إعادة صياغتها مرات ومرات، حتى صارت مفارقة لتلك التي جرى تدشينها في لحظات التأسيس الأولى، بنية النظام نفسها جرى أيضا إعادة قولبتها إما بقصد حمايتها وإما مجاراة للتغيرات الميدانية والسياسية، لتنتهي إلى بنية مغلقة في الداخل بوصفها نواة النظام الصلبة، ومفتوحة على الخارج الإقليمي بشرايينه المذهبية، وهي حالة وإن كانت ملحوظة في مرحلة ما قبل الثورة من خلال العلاقات الصلبة مع إيران وحزب الله، إلا أنها بقيت ضمن مساحات تفاعل محددة، بعكس حالة الاندماج والتماهي الراهنة.

البنية الإقليمية بدورها شهدت تغيرا كبيرا، قوام ذلك التغيير حالة السيولة الجغرافية والديمغرافية الحاصلة والمتطورة إلى حالة صراعية مستقبلية نتيجة تعاظم التيارات الطائفية التي تقسم البلاد والمنطقة بحدة وعلى مساحة واسعة من الحدود والتخوم.

المفارقة أن المشكلة تكمن أيضا في تهتك بنى القوى المتصارعة نفسها، وهو ما ينذر بطول الأزمة، فمن جهة تبدو فصائل المعارضة ذات أنشطة محلية، وغير منسقة، ولا توجد لديها إستراتيجية على مستوى جغرافية البلاد بالكامل، ولم ينتقلوا بعد من مرحلة مقاتلي العصابات إلى قوة ميدانية قادرة على إلحاق الهزيمة بالقوات النظامية.

سيضطر العالم للتعامل مع مخرجات الصراع السوري لأعوام عديدة، الأزمة أسست بنيتها الخاصة والمغلقة التي لا يمكن اختراقها بالحلول، فقط ما هو متاح استمرار تغذية الأزمة

كما أن القوات النظامية تحولت من جيش يمتد نفوذه وشرعيته على مستوى الوطن، إلى مجرد فصيل، وإن كان كبيرا، كما فقد هويته الوطنية، سواء لجهة تغير وظيفته، وإن لم تكن له وظيفة واضحة على مدار سنوات طويلة، أو لجهة تركيبته وبنيته التي اختلط فيها الجانب المليشياوي المذهبي مع ملامح وبقايا التنظيم المؤسسي العسكري.

ساهم كل ذلك بالتأثير بديناميكية الصراع السوري، بحيث تحول إلى نمط من الصراع الفوضوي بتشابكات وتعقيدات كثيرة، كما أن أيديولوجيته انحرفت إلى طابع "جوهراني" عميق بمرجعيات أبعد من تلك الموجودة في الميدان، مرجعيات بعضها ذو طبيعة تاريخية وبعضها مخفي.

التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية صار أمرا غير ممكن بعد أن أصبحت صراع وجود بالنسبة لكل الأطراف المعنية.

ويبقى السيناريو الأرجح، هو استمرار الصراع المسلح لعدة سنوات، وفي خضم ذلك سيتم التأسيس لأجيال جديدة من المقاتلين المستعدين للقتال في سوريا أو أي مكان آخر.

وسيضطر العالم للتعامل مع مخرجات الصراع السوري لأعوام عديدة، الأزمة أسست بنيتها الخاصة والمغلقة التي لا يمكن اختراقها بالحلول، فقط ما هو متاح استمرار تغذية الأزمة بما يضمن استمرار أوار نارها المشتعل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.