الجزائر.. ترتيبات سياسية بنكهة انتخابية

الجزائر.. ترتيبات سياسية بنكهة انتخابية

undefined

يجب على أي مراقب وقبل أن يخوض في التكهنات بنتائج الانتخابات أن يرصد الواقع والتغييرات بعد ثلاث عُهَد متتالية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة في سدة الحكم.

العالم العربي كله يعيش هرجا ومرجا ومخاض ولادة عسيرة تتوق فيها الشعوب العربية للانعتاق من الدكتاتورية وحكم الفرد المستبد نحو منظومة القيم الديمقراطية والحريات، مثل ما حصلت عليه دول أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي بسقوط المعسكر الاشتراكي.

الجزائر تعيش في بؤرة توتر عالية الخطورة، وهي في قلب دول الساحل والصحراء، وحدودها الطويلة تجعل من الصعوبة بمكان أن تتمكن من حمايتها وحسن مراقبتها إلا باستنزاف كبير للموارد الوطنية، والتحكم في المراقبة لا يأتي بثماره إلا على المدى المتوسط.

تعيش الجزائر في بؤرة توتر عالية الخطورة، فهي في قلب منطقة الساحل والصحراء، وحدودها الطويلة تجعل من الصعوبة بمكان أن تتمكن من حمايتها وحسن مراقبتها إلا باستنزاف كبير للموارد الوطنية

الأمن القومي أو الوطني مهدد من حيث عدم تحكم جيراننا بحدودهم، فهناك غياب شبه كلي للدولة في كل من ليبيا ومالي وفلتان في الجنوب التونسي وعدم سيطرة الطرف النيجري على حدوده مع الجزائر مع الأطماع المغربية في مناطق بولايات الوطن الغربية، وهو ما تجسد في حادثة تعديه على السيادة الترابية الجزائرية بشنه حرب سنة 1963، وذلك ما يجعل الحدود الغربية كذلك من أكثر الجهات تعقيدا ومسا بالسيادة الوطنية.

غياب شبه كامل لصوت وكذا دور الجزائر في المحافل الدولية والإقليمية لارتباط السياسة الخارجية بشخص الرئيس، ففي الوقت الذي يُستقبل فيه العاهل المغربي بالأحضان لمدة ساعتين بالبيت الأبيض الأميركي من طرف الرئيس أوباما تُلغى فيه زيارة وزير خارجية أميركا جون كيري بمناسبة الحوار الإستراتيجي الجزائري الأميركي مع عدم تحديد تاريخ آخر للزيارة.

إذا استثنينا بعضا من دول الخليج -والتي تستمد شرعية استمرار وجودها وكذا حمايتها من العلاقة مع أميركا والغرب عموما- فإن الجزائر الدولة العربية الوحيدة التي ساهمت في إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الإفلاس إبان الأزمة الاقتصادية بأكثر من أربعين مليار دولار كسندات خزينة وبمعدلات فائدة هامشية لا تكاد تذكر، في حين أحجمت عن إقراض ثورتي تونس ومصر بنسب فائدة عالية.

لأول مرة تقرض الجزائر صندوق النقد الدولي قرابة سبعة مليارات دولار، وهو المبلغ نفسه المطلوب من مصر الثورة وتونس الثورة، لكن صندوق النقد الدولي تفاوض معهما على المبلغ ذاته بنسب فائدة مضاعفة على ما تجنيه الجزائر.

بإعطاء الأفضلية لشركات بعينها غربية وخاصة أميركية في عقود النفط والغاز، ثم إصدار تشريع للاستثمار في الغاز الصخري تكون الجزائر صانعة الاستثناء تقريبا في دول المنطقة.

انضمام الجزائر المستقلة إلى منظمة الدول الفرنكفونية رسميا في حكم الرئيس بوتفليقة -وهو الحلم الذي كان يراود فرنسا أن يحدث مهما كلفها من تنازلات لصالح الجزائر -تم ذلك الانضمام ومن دون مقابل.

لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة يغير الرئيس في العقيدة العسكرية للجيش الوطني الشعبي بعدم التدخل في شؤون الغير -اللهم إلا في إطار تعاون وتنسيق عربيين لتحرير فلسطين أو دفع اعتداء محتمل على أي دولة عربية (طبعا هذا جزء من العقيدة العسكرية نظريا، ولو أنه في حروب العرب مع الكيان الصهيوني) مما أدى إلى فتح المجال الجوي أمام الطيران الفرنسي لقصف الأراضي المالية، وهذا يحدث كأول تغيير في هذه العقيدة.

ثم يفتح ربما مرة ثانية في هذه المرة أمام الطيران الأميركي في حادثة التعدي الإرهابي على قاعدة عين أمناس ومحاولة التدخل من طرف القوات الخاصة لهذه الدولة لولا رفض بقايا وطنيين عندنا، ثم تصوير العملية من طرف طائرات الأواكس الأميركية.

كل هذه التنازلات وغيرها -والتي يضيق المجال عن ذكرها- لا يقابلها دعم من هذه الدول في أي من الملفات الشائكة كملف الصحراء الغربية مثلا، ولا تفويض الجزائر للعب أي دور إقليمي، بل العكس من ذلك تماما هو الذي حدث.

وهذا ما يؤكد أن كل هذه التنازلات القاتلة والتغييرات الإستراتيجية هي لترتيبات داخلية -وللأسف خاصة- لا تمت للمصلحة الوطنية بأي صلة.

تغييرات دراماتيكية مجتمعة في الهرم القيادي لحزبي السلطة جبهة التحرير والوطني الديمقراطي وإزاحة أمينيهما العامين كمترشحين محتملين وجاهزين للمنافسة (بلخادم وأويحي) وعدم الاستقرار في الأجهزة الحزبية للسلطة وقلة تماسكها وهشاشة التحالفات في ما بينها، لتسويق تزوير الانتخابات والسطو على إرادة الناخب الجزائري.

انضمام الجزائر المستقلة إلى منظمة الدول الفرنكفونية رسميا في حكم الرئيس بوتفليقة -وهو الحلم الذي راود فرنسا وحاولت تحقيقه مهما كلفها من تنازل لصالح الجزائر- تم دون مقابل

يرصد المراقب تغييرا حكوميا بعد رجوع الرئيس من العلاج من فرنسا، أي قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية مس بالأساس الدفاع والداخلية والعدل والإعلام والمجلس الدستوري، ليتسنى للسلطة بسط التحكم التام في العملية الانتخابية بكل مراحلها مع عدم ترك أي ثغرة يمكن أن تشوش على الترتيبات المعدة لذلك (من تعداد الكتلة الناخبة -قبول الترشح من عدمه-صناعة أرانب محتملة بإمضاءات مزيفة وقت الحاجة-التحكم في إدارة الطعون-التوزيع الإعلامي الذي يخدم تلميع أو تبخيس أي شخص-توزيع الريع على الطبالين-إلى جميع المراحل التي تخص العملية الانتخابية-إلى الجهة التي تعلن الرئيس الفائز بقرار نهائي غير قابل للاستئناف).

يرصد كذلك رفعا لحصة ولاية باتنة في تعداد الوزراء ليصبح عددهم بين ست وسبع حقائب وزارية، منهم نائب وزير الدفاع الفريق قائد صالح، والحال أنها ينحدر منها منافس قوي وفعلي لترشح بوتفليقة.

يرصد كذلك دمج منصبين، أحدهما عملياتي والآخر سياسي بما لا ينسجم ودور كل من المنصبين، تم ذلك لمنصب وزير الدفاع وقيادة أركان الجيش الوطني، ويرصد تغييرا في حركة الولاة والإداريين بمعيار القبيلة والولاء.

حركة مست عديدا من إطارات القضاء من الذين يشرفون على ضبط القوائم الانتخابية، وتعود لهم الكلمة الأخيرة في القرار خاصة في الكتل الانتخابية الكبرى والتي تشرف على تسجيل أفراد الجيش والأمن الوطني، وكذا قوى الدفاع المدني، مع تغيير عميد قضاة التحقيق في بعض ملفات الفساد الكبرى وخاصة قضية الخليفة.

– لأول مرة ومنذ الاستقلال تسير الدولة بمنطق القبيلة أو الملكية الجمهورية.

– استقالة المجتمع من مشاريع السلطة المترهلة وعزوف شبه كامل عن المشاركة في العملية الانتخابية والذي قد يتحول بحالة إصرار حزب الفساد على العهدة الرابعة إلى استفتاء وليس انتخابا.

– ذهاب شبه كامل لبوصلة القيادة عند السلطة ما عدا استحواذها على خزائن الثروة لتضميد الجراح بشراء السلم الأهلي وتأجيل الانفجار قدر المستطاع.

– نرقب بالصحراء حراكا اجتماعيا ومطلبيا وأحيانا سياسيا جديدا وكذلك طائفيا متجددا مؤطرا بجمعيات حقوق إنسان لأول مرة مع اعتماد السلطة في معالجته على آليات بالية، وفي حالة ضعف المناعة للجسم الوطني قد يؤدي ذلك لتفكك النسيج الاجتماعي وانكسار اللحمة الوطنية وتهديد الوحدة الترابية.

تأثيرات الوضع في مالي والدفع من قوى خارجية للاقتتال بين القبائل العربية وقبائل الطوارق هناك ستكون لهما انعكاسات خطيرة، خصوصا على منطقتي الهقار والطاسيلي الجزائرية بين الطوارق
وقبائل الشعانبة والذين يتنافسون منذ مئات السنين على خطوط التجارة نفسها مع منطقة السودان (دول مالي والنيجر ودول غرب أفريقيا السوداء).

والشيء نفسه يقال عما يحدث لقبيلة المقارحة بليبيا مؤخرا والتي هي الامتداد نفسه للقبائل العربية، خاصة الشعانبة في الصحراء الجزائرية.

ومما يُرصد كذلك:

– إنهاء دور المؤسسات وتدجين قوى التأثير في المجتمع وتهميش دور الشباب بعمليات القيادة.

– تحكم المال الفاسد في كثير من المنابر الإعلامية وكذا بعض مفاصل الدولة والتأثير في التعيينات بالمناصب الإدارية وكذا الاقتصادية وأحيانا الإستراتيجية.

رفع شحنات وكميات الكيف والمخدرات التي تغزو الجزائر من حدودها الغربية كسلاح إستراتيجي يستعمله القصر المغربي بالدفع لاستفزاز الجزائر والدفع بعدم الاستقرار الداخلي.

رغم البحبوحة المالية والطفرة التي لم يسبق لها مثيل منذ الاستقلال فإنه قابلها عدم إقلاع تنموي وتوزيع غير عادل للتنمية، فغابت التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة وبقي الاقتصاد الوطني بعد أكثر من خمسين عاما من الاستقلال أعرج معتمدا على مداخيل النفط، وأي هزة في أسعار النفط سيدخل البلد في أزمة تفقده كل توازناتها الهشة.

تصالح المال الفاسد والجهوية المقيتة مع السلطة الحاكمة بالجزائر يرهن البلاد وقدراتها وإمكانياتها المادية والبشرية لنزوات ورغبات هذا التحالف بما يتناقض والمصلحة العليا للوطن

ثراء فاحش لأشخاص وجهات وجماعات ضاغطة على حساب الأكثرية الساحقة وعلى باقي التجمعات والجماعات وجهات الوطن.

تخلي الدولة غير المبرر عن تنظيم السوق أدى لاحتكار كلي لمواد أساسية من طرف هؤلاء الأشخاص (كالسكر والحليب والزيت والدقيق وأغلب المواد والمنتجات الغذائية الضرورية بما يتنافى وقانون المنافسة وينذر بخطر تحكمهم في تفجير الأوضاع متى شاؤوا بزيادة الأسعار أو باختلاق الندرة).

تصالح المال الفاسد والجهوية المقيتة مع السلطة الحاكمة يرهن البلاد وقدراتها وإمكانياتها المادية والبشرية لنزوات ورغبات هذا التحالف بما يتناقض والمصلحة العليا للوطن.

ستُجرى هذه الانتخابات ولأول مرة -إذا لم تتدخل أطراف فيها- بغياب التيار الإسلامي بالشكل المؤثر والمتنوع بين مقاطع ومتحالف ومترشح كما كان يحدث في الاستحقاقات الأخرى.

مشهد ربيع الجزائر في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1988 يتكرر، فالرئيس يستجمع كل أدوات السلطة بيده (سنة 1988 جهاز الحزب الواحد) للاستقواء بها في وجه القليل غير المدجن تقابله قوة أكبر منه بكثير يمثلها شباب مستقيلون من مشاريع السلطة وكافرون بشعاراتها حتى الوطنية.

وتكمن خطورة هذه القوة في أنها قوة جارفة غير منظمة تفتقد القيادة الموحدة، حيث لا توحدها الإيديولوجيا ولا المطالب، وإنما يوحدها شيء واحد هو انعدام الثقة في السلطة، والسخط عليها، والأكثر خطورة في حراكه أنه لا يفرق بين السلطة وبين الدولة.

وربما تحسبا لهذا اليوم القريب في ما يبدو حسب توقعات السلطة، قامت الأخيرة ببناء العديد من السجون التي تفوق عدد الأسرة الفندقية على طول الجزائر شرقا وغربا شمالا وحتى جنوبا هذه المرة، فحيثما تنقلت برا ورأيت على الطرق الوطنية بناءات ضخمة، تسأل ما هذه البناية؟ يقال لك سجن جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.