الابتزاز في العلاقات المغربية الفرنسية

تصميم : الابتزاز في العلاقات المغربية الفرنسية - يحيى اليحياوي - قد يتم تجاوز الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، ولكن الإشكال يبقى في الدعوى المرفوعة أمام قضاء فرنسي يزعم أنه مستقل ولا يعير الحسابات السياسية والشخصية كبير اعتبار

 undefined

انفجرت في الأيام الأخيرة من فبراير/شباط الماضي، أزمة دبلوماسية حادة بين المغرب وفرنسا، على خلفية واقعتين اثنتين، قد لا تكون لهما قيمة كبرى، بمعيار ما تتداوله وسائل الإعلام العالمية من أحداث قتل للبشر والشجر وتفجير للحجر، أو ما يعتمل هنا وهناك من محاكمة لهذا الرئيس ومطاردة لذاك.

ومع ذلك، فقد كان لهاتين الواقعتين نصيب معتبر من التغطية الإعلامية، إن لم يكن بوسائل الإعلام الدولية، فعلى الأقل بوسائل إعلام المغرب وفرنسا، حيث مجريات الحدثين:

– الواقعة الأولى، ذات طبيعة قضائية صرفة في شكلها ومظهرها (أو هكذا قدمت وتقدم لنا رسميا بهذه الجهة من المتوسط كما من تلك)، وتتمثل في إقدام وزارة الداخلية الفرنسية على إرسال سبعة من رجال أمنها إلى إقامة سفير المغرب بفرنسا، من أجل إشعاره، ثم تبليغه بوجود شكاية مقدمة من لدن مغربيين، مدعومين من جمعية "العمل المسيحي من أجل إلغاء التعذيب" كطرف مدني (جمعية أهلية ترصد حالات التعذيب بالعالم، وتتوفر على فروع بالقارات الخمس).

وتتضمن الشكوى المقدمة اتهاما لمدير جهاز مراقبة التراب الوطني (جهاز المخابرات المغربي) بتعذيب المغربيين المذكورين (عادل لمطالسي، الذي يحمل الجنسية الفرنسية، والنعمة أسفاري، من أصول صحراوية)، وتطالبه بالمثول أمام قاضي التحقيق للاستماع إليه في النازلة.

تتضمن الشكوى المقدمة اتهاما لمدير المخابرات المغربي بتعذيب مغربيين (عادل لمطالسي، الذي يحمل الجنسية الفرنسية، والنعمة أسفاري، من أصول صحراوية)، وتطالبه بالمثول أمام قاضي التحقيق للاستماع إليه في النازلة

الجمعية -وخلفها القضاء الفرنسي- لم تطالب بمحاكمة مدير المخابرات المغربي، بل طالبته فقط بالمثول أمام محاكمة للاستماع إلى إفادته فيما نسب إليه من مزاعم الضلوع في تعذيب صاحبي الشكاية، يبدو أن لها بإزاء هذه الأخيرة إثباتات ما، أو وثائق، أو شهادات، أو دلائل أولية أو ما سوى ذلك، لقاضي التحقيق أن ينظر فيها ويتثبت منها، ثم له بالبناء على ذلك، أن يأمر بالمتابعة، أو يقضي بانتفاء "التهمة" بالجملة أو بالتفصيل، ويحفظ الملف نهائيا أو على الأقل إلى حين.

– أما الواقعة الثانية فذات بعد أخلاقي (أو هكذا تبدو لأول وهلة)، وتكمن في تصريح مقتضب، نقلته جريدة "لوموند" الفرنسية عن الممثل والمخرج السينمائي الإسباني خافيير بارديم، خلال عرضه لفيلم وثائقي عن الصحراء (المغربية فيما يخصنا، الغربية فيما يخص الآخرين)، زعم فيه أن سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة وصف له المغرب بـ"العشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها".

لا يبدو -ظاهريا على الأقل- أن ثمة خيطا ناظما للواقعتين معا، اللهم إلا تزامن وقوعهما، وصدورهما عن جهة واحدة. كما لا يبدو وللوهلة الأولى، أن ثمة رابطا مباشرا بين "الحدثين" يمكن بالبناء عليه، فهم الخلفيات المبطنة والغايات المضمرة:

– فالأول ينبني في إخراجه ومرجعيته على مواد في القانون الفرنسي (الفصلان 689/1 و689/2 من المسطرة الجنائية تحديدا) مفادها أن "أي شخص ضلع في أفعال ذات صلة بالتعذيب، أو في معاملات فظة للأفراد، تحط من كرامتهم، خارج تراب الجمهورية الفرنسية، بالإمكان متابعته من لدن القضاء الفرنسي، في حال كان متواجدا في فرنسا" بهذه الصورة أو تلك، بما فيها مروره بالتراب الفرنسي، ولو من باب المرور العابر.

– أما الثاني فيرتكز، في ملابساته ومنطوقه، على رواية لممثل ومخرج سينمائي مغمور، جرت أطوارها من مدة فيما يروج، وفندها السفير الفرنسي بالأمم المتحدة جملة وتفصيلا، بل وكشف لأحد أصدقائه المغاربة بأنه "لم يدل للسينمائي الإسباني خافيير بارديم بأية تصريحات تسيء للمغرب، ولم يسبق له أن التقاه في أي لقاء رسمي، بل إنه صدم لما نقل عنه من كلام لم يتفوه به أبدا".

بهذه النازلة (نازلة تشبيه المغرب بالعشيقة) لا يبدو لحد الآن، أن هناك حججا دامغة تثبت أن الكلام قد صدر حقا وحقيقة عن السفير الفرنسي، تماما كما لم تتسرب دلائل تفيد بتورط مدير المخابرات المغربي في تعذيب المشتكيين، حتى وإن كان هذا الأخير هو المشرف الأول على معتقلات باتت معروفة بتحولها إلى أقبية للتعذيب، كما الحال بمعتقل تمارة الشهير، والذي شهد حالات تعذيب بالوكالة، لفائدة الإدارة الأميركية زمن بوش الابن.

ولما لم تكن لدينا المعطيات الدقيقة الكافية لإبداء الرأي المباشر في النازلتين معا، فإن القراءة الأولية لسياقهما تثير ثلاث ملاحظات جوهرية، قد يكون من شأنها برأينا، تقديم بعض عناصر الفهم:

– الملاحظة الأولى عن التوقيت، ويبدو لنا بهذه النقطة أن إطلاق "الروايتين" بتزامن مع زيارة الملك محمد السادس لبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء، ونجاحه في استنبات مشاريع اقتصادية كبرى ببعض من هذه الدول، ناهيك عن تكريس سلطته الرمزية هناك، قد أزعج الفرنسيين كثيرا، وأثار غضب بعض من مخططيها الإستراتيجيين، الذين لا يتوانون في الاعتقاد ثم القول بأن هذه المنطقة من العالم هي بمثابة الحديقة الخلفية المتبقية لهم، بعدما اندحر نفوذهم بالعديد من مناطق العالم، ولن يسمحوا بالتالي لأي كان أن يزاحمهم فيها، أو يقترب من مجالها، مجرد الاقتراب.

صحيح أن المغرب لا يمانع في تنفيذ مشاريع هناك، بالوكالة عن فرنسا أو من خلال إشراك مقاولاتها، أو عبر التنسيق معها كليا أو جزئيا، لكننا نزعم مع ذلك أن سلوك المغرب قد يبدو لفرنسا وكأنه اندفاع في التوجه، قد لا يكون لفائدتها على المدى المتوسط والبعيد بميزان الخسارة والربح. فالأسد الهرم يخشى سلوك أضعف الحيوانات من حوله، فما بالك إن اقتربت منه أو لامست ذيله؟

ما يضير فرنسا هو أن يتزايد نفوذ المغرب بأفريقيا ويتسع ويتقوى، فيقضم بالمحصلة من مصالحها، أو ينال من بعض رمزيتها، أو يؤجج العداء ضدها وإن بصورة غير مباشرة

وصحيح إلى حد ما، أن ربط الواقعتين المذكورتين بتوجه المغرب نحو أفريقيا فيه بعض من المبالغة، لكن هذه الفرضية يجب ألا تخضع للاستبعاد، لا سيما في ظل علاقات دولية بات الابتزاز من بين ظهرانيها سلوكا عاديا ومقبولا، قد لا يكون مستوى "الضرب تحت الحزام" إلا أحد مستوياته الدنيا.

– الملاحظة الثانية، عن السياق. والسياق هنا لا يحيل على تخوف فرنسا على نفوذها بأفريقيا جنوب الصحراء، بسبب "تغلغل" المغرب المباشر هناك (لا سيما وقد نجح في إعطاء مضمون إستراتيجي للتعاون مع أفريقيا)، ولكنه تخوف متأت من احتمال أن يكون هذا الأخير (التغلغل أقصد) معبرا لاستثمارات ضخمة قادمة من الخليج، تتموطن بالسوق المالية المغربية قبلما تتجه إلى هناك، حيث سبل الاستثمار سالكة، والحاجة إلى رؤوس الأموال ورجال الأعمال أكثر من الحاجة إلى سلاح القتل وتقنيات الحرب.

المغرب هنا لا يتطلع إلى تعويض فرنسا أو منافستها، وهو أبعد من أن يكون قادرا على ذلك بكل الأحوال. إنه يبحث عن موطئ قدم ليس إلا، بعالم تتحكم فيه التنافسية على الأسواق، وتقوده المشاريع المشتركة المدرة للثروة ومناصب الشغل، وتحكمه إستراتيجيات التحالف في البحث والتطوير، ثم الإنتاج والتسويق والاستهلاك.

الذي يضير فرنسا في هذا السلوك ليس طموح المغرب للاشتغال على هذه الأسس الجديدة. الذي يضيرها هو أن يتزايد هذا النفوذ ويتسع ويتقوى، فيقضم بالمحصلة من مصالحها، أو ينال من بعض رمزيتها، أو يؤجج العداء ضدها وإن بصورة غير مباشرة.

– أما الملاحظة الثالثة فترتبط بالجهة أو الجهات الثاوية خلف الحادثتين، وطريقة إخراجها لهما بالفضاء العام. فالمخرج السينمائي الإسباني لم يختر لغة الإيحاء لتغليف تصريحه، بل عمد إلى إخراجه بصيغة استفزازية، تؤشر قطعا على خلفية عدائية للمغرب، لا سيما وقد كان بصدد تقديمه لفيلم وثائقي عن الصحراء غير منصف للمغرب بالمرة.

وبأسلوب لا يعدم الخشونة، عمدت الشرطة الفرنسية إلى محاصرة سكن السفير المغربي بباريس، لتبلغه استدعاء قاضي التحقيق، بطريقة فجة ومستفزة، بل ومتجاوزة على الأعراف الدبلوماسية والاتفاقات القضائية المبرمة بين البلدين.

هذه الملاحظات الثلاث لا تعبر فقط عن نية الدولة الفرنسية (عبر جهازها القضائي) في تصعيد الموقف، بل إن سلوكها يشي كما لو أن ثمة نية لتصفية حسابات ذات خلفية سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو ما سواها، أو إعمال مبدأ الابتزاز لإدراك مبتغى من المبتغيات.

لا يبدو لنا، بالمقابل، أن فرنسا بحاجة إلى كل هذه الأساليب لضمان وفاء المغرب و"ولائه" لها:

– فهي تدرك جيدا أن المغرب هو حليفها الأساس بمنطقة المغرب العربي، وإلى حد ما بأفريقيا، ليس فقط من الناحية الاقتصادية والتجارية، بل أيضا من الناحية الجيوستراتيجية الصرفة.

وقد تأكد لها ذلك جليا بالحرب في مالي، ويتأكد لها أكثر بحجم المعاملات التجارية التي تتم بين البلدين.

– وهي تدرك أن مستقبل ثقافتها ولغتها يمر حتما عبر البوابة المغربية، ليس فقط بحكم الإرث التاريخي "المشترك"، ولكن أيضا بحكم تجذر ذات الثقافة واللغة في ذهنية النخب الحاكمة، واعتمادهما بالمنظومة التربوية والتعليمية دون منازع، ناهيك عن حمل معظم المسؤولين الكبار للجنسية الفرنسية، فيما يشبه الولاء المزدوج للبلدين.

– وهي تعلم علم اليقين أن المغرب لن يتجرأ على الإقدام على مبادرات داخلية أو خارجية إذا لم يستشرها بشأنها، أو يحسب لها الحساب، أو يطلعها على المزمع الإقدام عليه بالجملة وبالتفصيل.

فرنسا تدرك ذلك جيدا، والمغرب أيضا. ما السر إذن في توتيرها لعلاقتها به فجأة؟

قد يقال بأن ما صدر عن السفير الفرنسي رأي خاص لا يجب الاعتداد به، وقد تم نفيه على أية حال. وقد يقال بأن هذا كلام عابر، بمقدور الحكومة الفرنسة لملمته بهذه الصيغة أو تلك، حتى وإن اضطرت إلى تقديم اعتذار للمغرب في حال تأكدت صحته.

تدرك فرنسا أن المغرب هو حليفها الأساس بمنطقة المغرب العربي، وإلى حد ما بأفريقيا، ليس فقط من الناحية الاقتصادية والتجارية، بل أيضا من الناحية الجيوستراتيجية الصرفة

من الوارد أن يتم التجاوز على هذه الواقعة. لكن كيف التجاوز على شكاية أمام قضاء يدعي ويتفاخر بأنه مستقل، ولا يعير الصداقات الشخصية أو الحسابات السياسية كبير اعتبار، بل وسبق له أن أحرج الحكومة الفرنسية، عندما طالب بمثول رؤساء ووزراء وبرلمانيين يتمتعون بالحصانة؟

كيف السبيل "لإسقاط" دعوى يقول أصحابها إنهم كانوا ضحايا عنف وتعذيب من لدن مدير المخابرات المغربي، أو من خلال المصالح التابعة له؟

لن نستطيع، بهذه النقطة، أن نبحث للمدير إياه عن شفاعة ما، إن ثبتت في حقه التهمة بناء على هذه الحجة أو تلك. لكننا بالآن ذاته، لسنا مع أن يتابع مسؤول سام (أو مواطن عادي حتى) بدولة ذات سيادة، دونما ركوب ناصية الإجراءات القانونية التي تستوجبها الاتفاقات المبرمة بين البلدين، أي أن تحال الشكاية أولا على وزارة العدل الفرنسية، لتحيلها بدورها على الخارجية الفرنسية، لتحيلها هذه الأخيرة على الخارجية المغربية.

إننا مع أن تأخذ المساطر القضائية مسالكها الطبيعية، سواء بخصوص "ادعاء" المخرج الإسباني، أو فيما يتعلق بشكاية المواطنين المغربيين.

ثم إننا مع أن يتم القصاص من المدعي تماما كما من المعتدي، إن ثبتت التهم فيهما أو في أحدهما. لكن أن يتم تحريف الملفين وتوظيفهما لابتزاز المغرب وإهانته، فهذا سلوك مجاني صرف، عاشه المغرب مرات عديدة بظل الحكومات الاشتراكية في فرنسا، حيث تنتعش اللوبيات المناهضة للمغرب وترتفع أصواتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.