قصة العلاقات السورية الروسية

قصة العلاقات السورية الروسية . الكاتب :عبد الجليل زيد المرهون

undefined

رهان روسي
منشأة طرطوس
مسار الدعم العسكري
حضور في كافة القطاعات

في الـ 17 من يناير/كانون الثاني 2014، نقلت وكالة رويترز عن مصادر مطلعة قولها إن روسيا كثفت في الفترة الأخيرة من إمدادات العتاد العسكري إلى سوريا، بما في ذلك عربات مدرعة وطائرات بدون طيار وقنابل موجهة، فما دلالة ذلك؟ وماذا يعني في سياق العلاقات بين البلدين؟

رهان روسي
أجل، هو رهان على سوريا ومن خلالها على البحر الأبيض المتوسط، لا شيء في هذه اللحظة يفوق أهمية المتوسط في حسابات روسيا الجيوسياسية.

هذا البحر -الذي سماه ابن خرداذبة في كتاب المسالك والممالك ببحر الشام- هو بوابة أوروبا والبحر الأسود، واستتباعا روسيا ذاتها، إنه الخاصرة الرخوة للأمنين الأوروبي والروسي على حد سواء.

الصراع الدولي على البحر الأبيض المتوسط يُمثل أحد عوامل التمسك الروسي بسوريا منذ العهد السوفياتي وحتى يومنا هذا، لأهميته الإستراتيجية للقوى العظمى

وكانت مجموعة من القطع البحرية الروسية تتواجد -بصفة مستمرة- في البحر المتوسط إبان الحقبة السوفياتية، وتحديدا منذ عام 1967، بينما كانت مجموعة أخرى تتواجد في المحيط الهندي، وقد عادت هذه القطع إلى قواعد الأسطول الروسي بعد سقوط الدولة السوفياتية.

قبل ذلك، في الحرب العثمانية الروسية -خلال القرن الـ18- تحركت السفن الروسية في البحر الأبيض المتوسط لتدعم أسطول البحر الأسود الروسي في فرض الحصار على مضيقي البوسفور والدردنيل والاستيلاء عليهما.

وفي حسابات التاريخ والحاضر معا، لا يُمكن فصل حالة الأمن في البحر الأسود عن الوضع السائد في البحر المتوسط.

وبمنظور القوى الكبرى، فإن من يخسر في أي من البحرين يكون قد خسر بالضرورة في البحر الآخر، ومن يتقدم في أحدهما يتقدم في الآخر، بالضرورة أيضا. وهذه معادلة تدركها روسيا والقوى الغربية على حد سواء.

وهنا، يبدو من المفيد التذكير بأن البيئة الجيوسياسية للبحر الأسود قد تغيّرت على نحو جوهري، قياسا بما كانت عليه حتى الأمس القريب، ذلك أن بلغاريا ورومانيا أصبحتا عضوتين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما أصبحت أوكرانيا وجورجيا دولتين مستقلتين.

وفضلا عن ذلك، تراهن دول الناتو على إمكانية أن يغدو بحر آزوف متاحا لقواتها، إذ إن مضيق كيرتش -الذي يصل بحر آزوف بالبحر الأسود- يخضع لرقابة أوكرانيا، التي تمثل اليوم موضع صراع روسي غربي حاد.

وفي السياق ذاته، وقعت الولايات المتحدة مع رومانيا -في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2005- اتفاقية تسمح للقوات المسلحة الأميركية باستخدام قواعد عسكرية، ونشر قوة أميركية قوامها 1500 شخص في قاعدة على البحر الأسود.

باختصار، فقد بات البحر الأسود منطقة نفوذ أطلسية، تضررت فيها مكانة روسيا ودورها التاريخي، وكان هذا أحد العوامل الدافعة باتجاه تعزيز موقع البحر المتوسط -واستتباعا موقع سوريا- في السياسة الروسية الراهنة.

ويُمكن أن نلحظ أن روسيا قد ردت -اعتبارا من عام 2008- على ما اعتبرته "هجوما" أطلسيا على البحر الأسود بتحريك عدد كبير من سفنها الحربية نحو البحر الأبيض المتوسط، وتنفيذ مناورات حربية في مياهه، لم يكن بعضها معهودا في حجمه حتى في ذروة الحرب الباردة.

وخلاصة، فإن الصراع الدولي على البحر الأبيض المتوسط يُمثل أحد عوامل التمسك الروسي بسوريا منذ العهد السوفياتي وحتى يومنا هذا.

منشأة طرطوس
وفي إطار مقاربة دورهم بمنطقة البحر المتوسط، حصل الروس على ما يوصف "بنقطة صيانة وإمداد"، في مدينة طرطوس على الساحل السوري، وهذه المنشأة لا يجري تصنيفها كقاعدة عسكرية بالمفهوم النظامي للمصطلح المتعارف عليه دوليا.

ويستخدم الروس منشأة طرطوس وفقا لشروط ميسرة، فهم يدفعون لدمشق مبلغا محدودا كرسم استئجار، بينما تُحل كافة الأمور الأخرى في إطار اتفاقية حول تعاون الأسطولين الروسي والسوري.

وكانت وسائل إعلام في موسكو قد نسبت في أوائل عام 2009 إلى مصدر في رئاسة أركان القوات البحرية الروسية قوله إن هناك قرارا سياسيا بتوفير "نقاط قاعدية" للقوات البحرية الروسية في الوطن العربي، و"لا بد من توفيرها في الأعوام القليلة المقبلة".

والمقصود هنا هو توفير أماكن لرسو السفن العسكرية في موانئ البلدان المعنية، مع تجهيزها بالمنشآت الكفيلة بتقديم الخدمات الفنية إلى هذه السفن، وتزويدها بالمؤن والماء والوقود والذخائر.

وإبان العهد السوفياتي، كانت جزيرة سقطرة اليمنية تمثل قاعدة متقدمة للبوارج والأساطيل الروسية، وكانت بمثابة قاعدة عسكرية رسمية، ظلت تعمل حتى قيام الوحدة بين شطري اليمن عام 1990.

خلافا لتجربته مع عراق ما قبل عام 1990، فإن الاتحاد السوفياتي لم يتسلم نقدا من سوريا على نحو دائم، فقد كانت بعض الأسلحة تقدم في صورة مقايضة، وكان بعضها الآخر يصل إلى السوريين في شكل مساعدات مرفقة بدعم فني مجاني

إن روسيا الراهنة فقدت كافة قواعدها العسكرية -فيما وراء الفضاء السوفياتي السابق- بما في ذلك قواعدها في كوبا وفيتنام، ولم يبق لها سوى منشأة طرطوس السورية، ومن هنا تأتي أهمية هذه المنشأة في حسابات الروس الجيوسياسية كونية الطابع.

ومبدئيا، لا يتم إنشاء القواعد والمرافق العسكرية الخارجية إلا بعد أن تدعو الدولة المضيفة دولة حليفة إلى القيام بذلك، وتوقع اتفاقا خاصا بالوضع القانوني للقوات، وحرية الوصول إلى القواعد والمرافق المختلفة.

وتمكّن القواعد العسكرية الخارجية قوات الدول الحليفة من سرعة الاستجابة للأزمات الطارئة، وقد تختفي هذه القواعد نتيجة لتغير الظروف أو بسبب قيام الدولة -أو الدول الحليفة- بإعادة تنظيم قواتها لمعالجة تهديدات متغيرة.

وهناك اليوم طيف واسع من القواعد العسكرية الخارجية، متعددة المهام، موزعة على أرجاء العالم، تعود غالبيتها العظمى لدول غربية، وثمة تحوّل -في الوقت الراهن- من القواعد الضخمة التي تتطلب بنية تحتية داعمة كبيرة إلى المواقع الأصغر، التي تعتمد بصفة أساسية على دعم الدول المضيفة لها.

وبالعودة إلى منشأة طرطوس ذاتها، فإن تعريفها التقني محدود الإطار لا يقلل من مكانتها بأي حال من الأحوال، ذلك أن فرص اضطلاعها بأدوار عسكرية -استطلاعية بالدرجة الأولى- تبقى واردة ومتاحة متى كان هناك قرار سياسي بذلك، وخاصة إذا علمنا أن الرادارات العاملة في بعض قطع البحرية الروسية تغطي حيزا يصل مداه إلى آلاف الأميال، ولعل هذا تحديدا هو سر الاعتراض الإسرائيلي المتكرر على منشأة طرطوس.

ووفقا لبعض الدراسات الإسرائيلية، فإن محللي الدفاع في إسرائيل يرون في البوارج الروسية على الساحل السوري "قواعد متحركة" تنهض بمهام التجسس والاستطلاع الإلكتروني.

مسار الدعم العسكري
ولا تقتصر أهمية سوريا في حسابات روسيا -التاريخية والراهنة- على موقعها الجغرافي، وما قد يوفر لها من حضور على سواحل البحر المتوسط، بل هناك رهانات كبرى ترتبط "بالجيوبوليتيك" الإقليمي ومكانة السوريين فيه.

وقد تطوّرت العلاقات الروسية السورية في مسار تاريخي طويل، ومثّل الاتحاد السوفياتي -على مدى عقود- القطب الأول في تفاعلات سوريا الدولية اقتصاديا وعسكريا، بل وحتى ثقافيا.

لقد كان السوفيات جهة التسليح الأولى لسوريا، تشاركهم في ذلك -بدرجة أقل كثيرا- بقية دول الكتلة الاشتراكية السابقة.

وتعد سوريا الدولة العربية الوحيدة التي لا تزال بنيتها العسكرية شرقية التسليح بصورة شبه كلية، وهذا خلاف ما حدث في مصر، التي اتجهت نحو التسليح الغربي منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين.

أما ليبيا والعراق، فقد دخل السلاح الغربي فيهما -وإن متأخرا- مع نظيره الشرقي، رغم الغلبة الكبيرة لهذا الأخير.

وإذا أردنا الدخول في مقارنة أولية بين تجربتي التسليح السوفياتي في كل من سوريا والعراق -على سبيل المثال- نجد أن سلاح المدرعات قد أخذ حيزا كبيرا في التجربتين، وتقدمت أنظمة الدفاع الجوي في سوريا على مثيلاتها في العراق، وتقدم سلاح الجو العراقي على نظيره السوري.

وخلافا لتجربته مع عراق ما قبل عام 1990، فإن الاتحاد السوفياتي لم يتسلم نقدا من سوريا على نحو دائم، فقد كانت بعض الأسلحة تقدم في صورة مقايضة، وكان بعضها الآخر يصل إلى السوريين في شكل مساعدات مرفقة بدعم فني مجاني.

كانت سوريا بالنسبة للسوفيات رهانا تتقدم فيه الحسابات الجيوسياسية الكبرى على كل ما عداها، ولم تكن الاعتبارات المالية مطروحة في هذا الرهان بأية صورة من الصور.

حضور في كافة القطاعات
كذلك، فإن سوريا -كما العراق- لم تمثل رهانا أيديولوجيا بالنسبة للسوفيات، على النحو الذي كان قائما بالنسبة لدول الكتلة الاشتراكية أو اليمن الجنوبي، اعتبارا من عام 1978.

وعلى العكس من ذلك، كان ثمة تناقض أيديولوجي بارز بين السوفيات من جهة وسوريا والعراق من جهة أخرى.

ولأن الحسابات الجيوسياسية كانت متقدمة على ما سواها، فإن الحزب الشيوعي السوري لم يُمثل أولوية في علاقات السوفيات بسوريا.

لا نجد دعما روسيا -عسكريا أو سياسيا- يقدم لأي دولة في العالم على النحو الذي يجري تقديمه لسوريا، وقد يبدو الأمر محيّرا للوهلة الأولى، لكن الأمر يرتبط بجوهر الخيارات الجيوسياسية

وفي العراق، حين حاول السوفيات جعل الحزب الشيوعي العراقي بوابة للعلاقة مع الدولة، جاء الرد من بغداد سريعا، ليقول لموسكو إن العلاقة بين دولتين وليس بين حزبين. وكان حينها الحزب الشيوعي مؤتلفا في الجبهة القومية التقدمية، ولم يكن قد عاد للاصطدام مع الدولة العراقية بقيادة حزب البعث.

في سوريا -السبعينيات والثمانينيات- لم يكن للشيوعيين ثقل -في الداخل أو الخارج- مماثل لرفاقهم العراقيين، وهذا الوضع عكس نفسه على كثير من الخيارات والرهانات، وقد يكون هذا الواقع نتيجة وسببا في الوقت نفسه لبعض السياسات السوفياتية ذات الصلة بالدولة السورية.

وأيا كان الأمر، يجب التأكيد أخيرا على أن العلاقات السوفياتية السورية كانت ذات طبيعة صعبة، رغم مضمونها المتقدم، فالتناقض الأيديولوجي بقى عامل ضغط، وقلقا غير منطوق به.

ومن الاتحاد السوفياتي إلى روسيا الراهنة، بدت سوريا محافظة على موقعها في الحسابات الجيوسياسية للدولة الروسية، ورغم أن المضمون البراغماتي بدا ملتصقا بسياسات الدولة الجديدة، وخياراتها في الساحة الدولية، إلا أن هذا الأمر لا يبدو كثير الوضوح فيما يخص مقاربة العلاقة بدمشق.

ونحن اليوم لا نجد دعما روسيا -عسكريا أو سياسيا- يقدم لأي دولة في العالم على النحو الذي يجري تقديمه إلى سوريا، وقد يبدو هذا الأمر محيّرا للوهلة الأولى، لكننا هنا بصدد رهان يرتبط بجوهر الخيارات الجيوسياسية.

إن روسيا اليوم أكبر الحاضرين في سوريا بمعايير الأمن، وهي حاضنتها الدولية سياسيا، وأحد مصادرها المهمة على صعيد الطاقة، ومصدر العديد من المعونات المتجهة إليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.