الدب و"البوفالو" وزهر البرتقال

الدب و"البوفالو" وزهر البرتقال

undefined

الراديكاليون يحررون القصر
النار تقترب من روسيا
الحليف الافتراضي
بين دمشق وكييف
دور أميركي "مشين"

ما هي الأهمية الجيوسياسية والإستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تاريخا ومستقبلا؟ ولماذا يخشى قيصر روسيا غير المتوج، التقارب الأوكراني الغربي الذي كانت حكومة كييف قد بدأت بتدعيمه اقتصاديا وسياسيا مع جوارها الأوروبي في الصيف الفائت؟

وهل يعتبر مبلغ الـ15 مليار دولار الميسّر، والمقدم من بوتين إلى الحكومة الأوكرانية، رشوة سياسية لاستمالتها من جديد إلى مواقع حلمه الإمبراطوري، يحاول بواسطته استعادة المساحات الجغرافية السوفياتية، ولكن في صيغة أممية جديدة هو صاحب صولجانها الأوحد؟

وإذا كانت أوكرانيا أولى الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي فهل تكون عودتها إلى حظيرة السيطرة الروسية مجرد أضغاث أحلام وهي الجمهورية الكبرى، والأكثر أهمية بالنسبة للكرملين؟

وإذا كان بوتين يحاول أن يكسب حربه غير المعلنة إلى جانب النظام السوري البائد، وعلى الأرض السورية النائية، فماذا ستعني خسارته في الجوار الأوكراني بالنسبة لتمدد نفوذه الدولي الذي يسعى إليه غاضّا البصر والبصيرة عن الكلفة الإنسانية المترتبة عليه؟

إذا كان بوتين يحاول كسب حربه غير المعلنة إلى جانب النظام السوري البائد، وعلى الأرض السورية النائية، فماذا ستعني خسارته في الجوار الأوكراني بالنسبة لتمدد نفوذه الدولي؟

وكيف ستؤثر هذه الخسارة في الموقف الروسي من الأزمة السورية من منظور توازن القوى بينها وبين الولايات المتحدة، لا سيما بعد عزل البرلمان الحليف الأوكراني الرئيس فيكتور يانوكوفيتش ولجوئه إلى مدينة خاركوف في شرق البلاد التي يتحدث أهلها اللغة الروسية.. أتساءل؟!

الراديكاليون يحررون القصر
تحرك بوتين في الخريف الفائت معتمدا على سياسة العصا والجزرة لاحتواء الأزمة الاقتصادية التي كانت قد عصفت بكييف وأخذت تهدد تركيبتها السياسية، ومستقبل تحالفاتها، راسمة في المدى القريب تغييرات درامية في مقارباتها الدولية، لا سيما مع دول الاتحاد الأوروبي.

وفي الوقت الذي قدّم بوتين دعما ماليا لرفع الأعباء الاقتصادية عن كاهل حكومة كييف "الحليفة"، لوّح أيضا بفرض حصار اقتصادي عليها في حال انحيازها لبروكسل.

وقد أخذت الحكومة هذا التهديد على درجة من الجدية والأهمية بسبب اعتمادها الكبير على الغاز الروسي المخفّض الثمن، إلا أن الموقف الشعبي جاء بما لا يناسب الهوى الروسي وحكومة كييف الحليفة التي أودت بها -وبسرعة غير مسبوقة في عمر الثورات- اعتصامات ساحة الاستقلال في العاصمة، وقد أسفر فضّها بالقوة عن سقوط 35 ضحية من المعتصمين "الراديكاليين" على يد قوات الأمن الأوكراني.

النار تقترب من روسيا
رغم هذا الانهيار المفاجئ للحكومة الحليفة فإن بوتين لم يتدخل مباشرة كما فعل في جورجيا عام 2008، وبقي يراقب تصدع حكومة كييف وهروب رئيس دولتها بغيظ وحنق بالغين، لا يلجمهما سوى محاولة احتفاظه بماء الوجه في غمار لعبة كسر العظم الدائرة بينه وبين الولايات المتحدة التي ساحتها الشرق الأوسط ومحورها سوريا، وذلك قبيل أن تنتقل نار الثورات الشعبية إلى البيت الروسي لتلتهم ألسنتها ساحات كييف ثم برلمانها وقصرها الرئاسي.

فالدب الروسي الطامح إلى العودة ببطش "ناعم" إلى الساحة السياسية الدولية، مستخدما إستراتيجيات الحرب الباردة ولكن بأدوات سياسية أكثر رهافة تتناغم مع عصر أوباما الدبلوماسي بامتياز، لم نره يحشد دباباته على الحدود الأوكرانية متوعدا بإعادة الرئيس المعزول إلى الحكم بالقوة.

ولم نره أيضا يراهن على إخماد الثورة البرتقالية الثانية كما يراهن على إخماد ثورة الشعب السوري بالشراكة مع حليفه الأسد، ولم نره حتى يرسل خبراءه الأمنيين لمساعدة الأمن الأوكراني على استعادة زمام الأمور كما هي مهمة خبرائه الموفدين لدعم النظام السوري.

بيد أن بوتين لم ينسَ في الوقت عينه أن يدفع الرئيس الهارب يانوكوفيتش للطلب من مندوبه الامتناع عن التوقيع على الاتفاق الأوكراني الرسمي مع زعماء المعارضة الذي أنهى الاحتجاجات الدامية في كييف، ونص على انتخابات مبكرة وإعداد دستور جديد للبلاد.

الحليف الافتراضي
في الوقت الذي رحبت فيه موسكو -على غصة- بانتهاء أعمال العنف، اعتبرت الاتفاق المبرم بين الحكومة والمعارضة مجرد إملاءات غربية فرضت على الأخيرة.

وبناء عليه ستواصل رهانها على تداعيات الأزمة التي لا يعتبر الكرملين أنها ستنتهي في وقت قريب، فالمعلومات التي لدى موسكو تفيد بأن الثوار أو من تدعوهم "الراديكاليين" ما زالوا يحتفظون بالسلاح ولم يستعملوه بعد، إضافة إلى الانقسامات الاجتماعية العميقة في المجتمع الأوكراني، والحالة الاقتصادية المتدهورة باطراد، وانتفاء أي شكل من التوافق بين النخب في كييف.

وفي جانب آخر، فإن بوتين يدرك تماما أن حليفه الافتراضي ياكونوفيتش كان يترنح دائما في ولائه السياسي بين بروكسل وموسكو، وأن دائرة "الألغاركية" التي اعتمدت عليها روسيا في إرساء دعائها  بكييف كانت تحمل من الأضداد للسياسات الروسية أكثر بكثير مما تحمل لها من التوافق أو الولاء.

رغم أن الدائرة الضيقة التي اعتمد عليها الروس تمثل الفئة الحاكمة في كييف، فإنها كانت تخشى من تمدد نفوذ المال الروسي إلى مفاصل الدولة بحيث يتم الاستيلاء على قرارها تماما من قبل رجال الأعمال الروس

وعلى الرغم من أن هذه الدائرة الضيقة تمثل الفئة الحاكمة في كييف، فإنها كانت تخشى من تمدد نفوذ المال الروسي إلى مفاصل الدولة بحيث يتم الاستيلاء على قرارها تماما من قبل رجال الأعمال الروس.

وكان من اللافت أن معظم رجال المال الأوكرانيين -بمن فيهم الذين صنعوا ثرواتهم في روسيا- كانوا يفضلون الاحتفاظ بأموالهم في الغرب، مثل حال رجل الأعمال بترو برويشنكو، ممول أعمال الاحتجاج في كييف.

بين دمشق وكييف
عينا زعيمة المعارضة الأوكرانية يوليا تومشينكو وحزنهما ساعة تحريرها من معتقلها تذكراني بعيني المناضلة السورية فداء الحوراني اللتين كانتا تغصان بالدمع خلال إلقائها كلمة إعلان دمشق في مؤتمره الذي انعقد في إسطنبول مؤخرا.

وكنا -نحن من انتظرنا كلمتها بشغف- نقرأ ونشهد الغصة في صوتها وملامحها عندما قالت إنها "تنظر إلى علم الثورة السورية مرتفعا في القاعة وتسترجع ظلمات المعتقل الذي زُجّت به لسنوات"، وذلك نتيجة أولى عمليات القمع المباشر الذي مارسها نظام بشار الأسد على المعارضين السوريين الذين طالبوا بالتغيير السلمي الديمقراطي في عقر دارة حكمه منذ ورث السلطة في دمشق بدعم وتوافق روسي-أميركي.

وفي حين تخلت روسيا في زمن قياسي عن حليفها يانوكوفيتش في بلد الثورة البرتقالية، فإنها ما انتهت تدعم بشار الأسد في حربه الشعواء على شعبه من أجل إخماد ثورته التي اصطبغت بالدم الأحمر بعد تحويلها -بتخطيط دقيق من النظام وبدعم من حليفيه روسيا وإيران- إلى صدام دموي مسلح.

وتم ذلك من خلال استعمال العنف النظامي الموجّه من جهة، وإدخاله عناصر جهادية تصطبغ بوصمة الإرهاب من جهة أخرى، واحتسابها على صفوف الثورة من أجل رسم مشهد يوحي للعالم الخارجي بأن النظام السوري في حالة مواجهة مباشرة مع "إرهابيين" جهاديين وتكفيريين وليس مع ثوار وثورة شعبية لها مطالب عادلة في الحرية والكرامة وتريد إقامة دولة مدنية يحكمها العدل والقانون.

وعلى الرغم من أن روسيا لم تستعمل مؤخرا سلاح الفيتو لمنع القرار الأممي 2139 الذي صدر عن مجلس الأمن مطالبا النظام السوري بإيصال المعونات الإنسانية إلى المدنيين الواقعين تحت حصار الجوع والعمليات القتالية، فإنها سوف تزداد تمسكا بالأسد لاعتبارات تكونت لديها أن ما حدث في كييف، من عزل حليفها وإطلاق يد أعدائها في المعارضة، إنما هو انقلاب مدبر على يانوكوفيتش الموالي لها، ومؤامرة من صناعة الغرب لدعم المعارضة وزعيمتها رئيسة الوزراء السابقة تومشينكو، وهي خسارة فادحة منيت بها روسيا أمام أوروبا الغربية والولايات المتحدة اللتين تحاولان استقطاب أوكرانيا إلى معسكرهما، وسحب البساط فيها من تحت قدمي بوتين.

والأمر اللافت هو السرعة والقوة الذين اتخذت بهما دول الغرب الموقف من الأزمة الأوكرانية، بينما ظلت رؤيتها لحل الأزمة في سوريا -وعلى مدى ثلاث سنوات- ضبابية تديرها الفوضى ويحكمها الترقب السلبي.

دور أميركي "مشين"
"ليست حكومة بشار الأسد هي المذنب الوحيد في هذا الرعب الحاصل في سوريا الآن بل وروسيا أيضا". هذا ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤخرا في مؤتمر صحافي أثناء لقائه نظيره الفرنسي فرانسوا هولاند في العاصمة الأميركية واشنطن.

فالتقارير التي تصل إلى البيت الأبيض تشعر الطرفين -الجمهوري والديمقراطي- بقلق شديد إزاء تباطؤ النظام السوري في تسليم مخزونه الكيميائي بوقت تتصاعد فيه أعداد الجهاديين التكفيريين الذين يتدفقون للانضمام إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، مما يحيل المناطق التي تسيطر الأخيرة عليها إلى بؤرة لتفريخ الإرهاب والإرهابيين على الأرض السورية.

لأن الدب الروسي يبدو متفوقا في صولاته السياسية على نظيره البوفالو الأميركي، فقد اتخذ  قرارا سديدا بعدم قمع الثورة البرتقالية الثانية والسماح لنسائم التجديد بأن تعيد زهر البرتقال إلى ربيعها المرتقب خلافا للثورة  للثورة السورية

وقد انتقد السيناتور الأميركي الجمهوري جون ماكين سياسة أوباما إزاء الأزمة السورية، ووصفها بأنها "منيت بفشل ذريع ومشين".

فإذا كان الافتراق الروسي الأميركي أثناء محادثات جنيف2 أدى إلى تعطيل جولاتها بحيث انتفت القابلية الدولية لاستكمالها، فإن التوافق بين الدولتين في الشأن السوري لا يبدو أمرا قريب المنال.

فأميركا تبدي "ارتخاء" غير مسبوق في تعاملها مع النظام السوري، بينما "تشد" روسيا من عضد الأسد، وتدعم حربه على شعبه بكل ما أوتيت من سلاح وخبرات ودعم سياسي في المحافل الدولية.

وإدارة أوباما -التي فشلت في ضبط معايير سياساتها في الشرق الأوسط، وأصيبت بارتباك عصبي في تعاملها مع ثورات شعوبه- لا تبدو مستعدة لمواجهات مع روسيا في الساحة الأوكرانية التي هي أقل أهمية بالنسبة لها، على المستوى الجيوسياسي على الأقل.

ولأن الدب الروسي يبدو متفوقا في صولاته السياسية على نظيره البوفالو الأميركي، فقد اتخذ حكام الكرملين قرارا سديدا بعدم قمع الثورة البرتقالية الثانية والسماح لنسائم التجديد بأن تعيد زهر البرتقال إلى ربيعها المرتقب، وذلك على عكس موقفهم السادي من الثورة السورية.

واستمر البوفالو الأميركي خائرا، مستسلما لمفردات الأمر الواقع، وعاجزا عن المبادرة، ولا سيما في الحالة السورية التي سترسم في المستقبل -ليس ملامح المنطقة بتغيراتها الديمغرافية والسياسية وحسب- بل تراتب سلّم القيادات الجديدة في العالم ما بعد الربيع السوري العسير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.