عسكرة الصراعات في أفريقيا

عسكرة الصراعات في أفريقيا

undefined

الحلول العسكرية والسياسية
تحدي الراديكالية الإسلامية
عسكرة النخب الأفريقية

لا شك أن خبرة العام المنصرم في أفريقيا كانت كارثية بكل المقاييس، ولا سيما في مجال تسوية الصراعات السياسية، حيث تراجعت آليات التسوية السياسية السلمية مثل التفاوض والوساطة أمام تفضيل الحلول العسكرية والأمنية المفروضة من الخارج أو الداخل أو كليهما معا.

ففي مارس/آذار 2013 نجح متمردو "سيليكا" في الإطاحة بالنظام الحاكم في أفريقيا الوسطى، وهو ما أدى إلى أعمال عنف واسعة النطاق، إذ تم توظيف البعد الديني خلالها بشكل واضح.

وسرعان ما قامت مليشيات مسيحية مسلحة بمهاجمة المدنيين وأنصار "سيليكا"، وهو الأمر الذي دفع فرنسا إلى اتخاذ قرار بالتدخل العسكري في هذه الدولة الأفريقية الحبيسة، ولعل ذلك يعيد إلى الأذهان مرة أخرى الصورة التقليدية للآليات العسكرية الفرنسية وهي تجوب شوارع مدن أفريقية عديدة.

والواقع أن خبرة التدخل الأجنبي لم تقتصر على هذه الحالة وحدها، وإنما بدأت مطلع عام 2013، وتحديدا في شهر يناير/كانون الثاني عندما أرسلت فرنسا نحو أربعة آلاف من قواتها إلى مالي لتقود تحالفا أفريقيا نجح نهاية المطاف في القضاء على حكم الإسلاميين بشمال البلاد.

رغم التطور الذي حققته أفريقيا في مواجهة تدخل العسكريين في الحياة السياسية فإنها لا تزال تفتقد وجود جهاز مهني محترف يقوم بعملية الوساطة والتفاوض في الصراعات المعقدة

وفي مناسبة أخرى، أرسلت الأمم المتحدة كتيبة عسكرية تتألف من قوات جنوب أفريقية ومالاوية وتنزانية لدعم الجيش الكونغولي في القضاء على متمردي (إم 23) نوفمبر/تشرين الثاني 2013.

وعليه، فإن التدخل العسكري، الذي تقوم به قوات أفريقية -في الغالب- بمساندة دولية قوية، كان هو الطابع الأعم في تسوية الصراعات المعقدة في أفريقيا خلال العام الماضي.

ظهر ذلك بجلاء في خبرات مالي وأفريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية وجنوب السودان، وتم أيضا تفضيل الحل العسكري والأمني المتشدد في أماكن أخرى مثل الصومال ونيجيريا والكاميرون لمواجهة ظاهرة الجماعات الإسلامية الراديكالية.

ولعل ذلك كله يدفع إلى التساؤل: ما الذي حدث خطأ وأدى إلى الحنين الأفريقي لعسكرة الصراعات مرة أخرى؟

الحلول العسكرية والسياسية
على الرغم من أن الحلول العسكرية والأمنية قد تمثل خيارا أخيرا لا مفر منه في الواقع الأفريقي فإنها تعبر عن إخفاق وفشل الإجراءات الوقائية مثل الوساطة والتفاوض.

واللافت للانتباه والمثير للتعجب في آن واحد أنه على الرغم من التطور الذي حققته أفريقيا في مواجهة تدخل العسكريين في الحياة السياسية، فإنها لا تزال تفتقد وجود جهاز مهني محترف يقوم بعملية الوساطة والتفاوض في الصراعات المعقدة.

وربما يعزى نجاح بعض القادة الأفارقة في أعمال الوساطة (مثل حالة ثابومبيكي في السودان) إلى سماتهم الشخصية وخبراتهم العملية أكثر من كونه تعبيرا عن وجود استثمار منظم في خلق جيل جديد من المفاوضين والوسطاء المحترفين.

وإذا كانت تكلفة الخيارات العسكرية -سواء من الناحية المالية أو التقنية- عالية قد لا تقوى عليها كثير من الدول الأفريقية، فإن التعويل على آليات منع عسكرة الصراع يصبح هو الخيار الأفضل.

ومما يضفي صعوبة على إدارة الصراعات الأفريقية أنها ذات طبيعة معقدة ومتغيرة، مما يعني عدم إمكانية وضع حدود فاصلة بين أطراف الصراع وتحديد مطالبهم، وتعطي وحشية الصراع في أفريقيا الوسطى -بالإضافة إلى شموله على المتغير الديني- مثالا واضحا على ما نقول.

وعليه، فإن على الوسطاء معرفة وتقدير الطبيعة المميزة لكل صراع على حدة فضلا عن تحديد الأطراف المتصارعة التي تمتلك مصلحة خاصة في استمرار أوضاع عدم الاستقرار.

لقد أظهرت أمثلة عديدة في أفريقيا -مثل مصر ومالي وأفريقيا الوسطى- فشل جهود الوساطة خلال عام 2013، ولا يعزى هذا الفشل لضعف في كفاءة المفاوضين والوسطاء، ولكن لتعقيدات المواقف الصراعية وصعوبة اختيار شركاء التفاوض.

يبدو ذلك جليا عندما تتفاوض حكومة شرعية ومعترف بها مع جماعات سياسية متنافسة قد تكون أحيانا مؤلفة من عناصر متمردة أو مافيا التهريب أو إسلاميين جهاديين.

وعلى سبيل المثال، تظهر خبرة الوساطة الدولية والمحلية لتسوية الأزمة المصرية بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في يوليو/تموز 2013 أن الفشل يعزى إلى تمسك طرفي الصراع بمبادئ المباراة الصفرية التي يخرج منها أحد الأطراف منتصرا بينما يخسر الطرف الآخر كل شيء.

وفي مالي، انتهت وساطة رئيس بوركينا فاسو بليز كومباوري مع متمردي الطوارق طيلة عام 2012 بالفشل الذريع، حيث قامت الجماعات الإسلامية الراديكالية -مثل أنصار الدين والتوحيد والجهاد والقاعدة ببلاد المغرب العربي- بالسيطرة على شمال مالي وإعلان دولة أزواد المستقلة.

ولا شك أن مثل هذا النوع من الصراع الذي تغذيه جماعات ليس من مصلحتها استقرار الأوضاع، يتم حسمه في الغالب الأعم باللجوء إلى الوسائل القمعية والعسكرية المفرطة.

تحدي الراديكالية الإسلامية
لقد أضحى المتغير الديني -ولا سيما المتعلق بالراديكالية الإسلامية- أحد عناصر تعقد الصراعات في الواقع الأفريقي المعاصر. وفي السياق نفسه، لجأت الحكومات الأفريقية إلى استخدام الحلول الأمنية والعسكرية لمواجهة وحسم هذه الصراعات التي اتخذت من العنف طابعا لها.

المتغير الديني أضحى أحد عناصر تعقد الصراعات في الواقع الأفريقي المعاصر، كما لجأت الحكومات الأفريقية إلى استخدام الحلول الأمنية والعسكرية لمواجهة وحسم هذه الصراعات

فالحكومة النيجيرية تخوض حربا حامية الوطيس مع جماعة بوكوحرام التي تهدف إلى إقامة دولة الإمارة الإسلامية في شمال البلاد. ولعل هذا الصراع يختلف عما يحدث في مالي أو الصومال أو أفريقيا الوسطى نظرا لرفض الحكومة النيجيرية أي تدخل خارجي من قبل الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (الإيكواس) أو الاتحاد الأفريقي.

أكثر من ذلك فقد أعلنت نيجيريا حالة الطوارئ في بعض الولايات في مايو/آيار 2013 بما يعكس اتخاذها نهجا أمنيا وعسكريا متشددا في مواجهة هذه العناصر الجهادية العنيفة.

ويظهر متغير الراديكالية الإسلامية واضحا كذلك في الصومال وشمال مالي والكاميرون. وفي أفريقيا الوسطى لا يبدو المتغير الديني واضحا، ليس بسبب تبني أحد أطراف الصراع الأيديولوجية الجهادية فحسب، ولكن بسبب الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية الحادة بين المسلمين والمسيحيين في البلاد.

ولا شك أن هذا المتغير الديني يُضفي مزيدا من التعقيد على الصراع الذي تشهده جمهورية أفريقيا الوسطى منذ عقود طويلة.

ولا يخفى أن الحلول العسكرية والأمنية لا تستطيع الصمود والاعتماد عليها في الأمد الطويل، لأنها تقوض دعائم التحول الديموقراطي، وتنال من الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين.

فالحسم العسكري فشل حتى الآن في تجارب نيجيريا والصومال والكاميرون التي تواجه خطر جماعات جهادية راديكالية منظمة (الشباب المجاهدون وجماعة بوكوحرام).

ولعل ذلك كله يدفع في اتجاه التسوية السلمية وإعلاء الحلول السياسية، بيد أن المعضلة الكبرى التي تواجه العملية التفاوضية هي أن هيكل القيادة في جماعات الإسلام السياسي يعاني دائما من الانقسام والتشرذم، وهو ما يجعل التفاوض مع هذه الجماعات صعب المنال.

عسكرة النخب الأفريقية
من الواضح تماما أن خبرة العلاقات المدنية العسكرية في أفريقيا منذ الاستقلال قد أكدت على مبدأ التوظيف السياسي للجيوش الوطنية، وهو الأمر الذي جعلها أداة لتحقيق غايات سياسية محددة مثل قمع المعارضة أو حشد التأييد السياسي للنظام الحاكم، وقد أدى ذلك إلى حدوث موجات متكررة من الانقلابات العسكرية منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي.

ولا شك أن هذه العسكرة المبكرة للسياسة الأفريقية تؤكد حقيقة تاريخية مفادها أنه عندما يكون الحكم المدني تنقصه الفعالية ولا ينهض على مؤسسات قوية، فإن جهازه الإداري يصبح غير قادر على السيطرة على المؤسسة العسكرية، وهو الأمر الذي يمثل المقدمة الضرورية لظهور النمط الانقلابي في العلاقات المدنية العسكرية في الواقع الأفريقي.

ويمكن النظر إلى فشل النخبة السياسية في أفريقيا باعتباره أحد أسباب اللجوء إلى مؤسسة الجيش لتطرح بديلا قياديا لإنقاذ البلاد.

لقد أفضت عمليات التكالب على الثروة من قبل أفراد النخبة الحاكمة إلى إخراج الأطراف الأخرى من المعادلة السياسية بما في ذلك الجماهير الفقيرة والشرائح الأضعف من النخبة.

وللأسف الشديد، فإن هذه النخب الريعية والطفيلية أدت إلى ظاهرة شراء الولاء السياسي للعسكريين من خلال المقايضة بإعطائهم مزايا معينة سواء على المستوى الجماعي أو الفردي.

وتشمل هذه الاغراءات -بالإضافة إلى المرتبات المجزية- الإعفاءات الجمركية على السيارات والسلع الترفيهية والسفر للخارج من أجل حضور دورات تدريبية، والتعيين في وظائف الملحقية العسكرية، وما إلى ذلك.

ولعل خبرة الحالة المصرية بعد الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب تعبر عن فشل واضح وصريح للنخب السياسية والمدنية التي تعجز دائما عن توفير البديل القيادي، وفي الوقت نفسه فإن الطبيعة المهيمنة للمؤسسة العسكرية المصرية جعلتها دائما في أعين الكثير من المصريين المنقذ القادر على تولي دفة القيادة وحماية أمن البلاد والعباد.

أليست الزفة السياسية وهالة البطولة والزعامة التي تحيط بوزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي دون معرفة برنامجه السياسي أو معرفة أشخاص مساعديه، تعبر بوضوح عن إشكالية المدني والعسكري في فضاء الصراعات السياسية.

الحلول الأمنية والعسكرية قد تبدو لازمة لإعادة الأمور إلى نصابها والعمل على استقرار الأوضاع، ومع ذلك فالحلول السياسية والتسويات التوافقية لا يمكن الاستغناء عنها في المديين المتوسط والطويل

ما العمل -إذن- لمواجهة هذه الردة الأفريقية لتفضيل الحلول العسكرية وإظهار النخب العسكرية بمظهر المُخلص والمنقذ الأمين؟

أحسب أن هذه الحلول الأمنية والعسكرية قد تبدو لازمة ولا مفر منها لإعادة الأمور إلى نصابها والعمل على استقرار الأوضاع في المدى القصير. ومع ذلك، فإن الحلول السياسية والتسويات التوافقية لا يمكن الاستغناء عنها في المديين المتوسط والطويل.

بيد أن الأهم من ذلك كله هو القول إن الحلول السياسية التي نعنيها هنا لا تعتمد فقط على آليات المنظور الليبرالي التقليدي الذي يرى أن الانتخابات هي المخرج الوحيد في ظل تدخل عسكري كبير، ولا شك أن عمليات الوساطة والتفاوض في الصراعات الأفريقية هي بالغة التعقيد وتفرض تحديات كبرى.

وعلى الرغم من وجود استثناءات حققت نجاحا محدودا مثل خبرة رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابومبيكي في السودان، فإن رؤساء الدول في أفريقيا لا يمكنهم القيام بهذه المهمة لمجرد شغلهم هذه الوظائف.

وعليه، فإن اللجوء إلى الحلول التوافقية والسياسية التي تتضمن إبرام صفقات وتقديم تنازلات من جميع الأطراف تمثل الخيار الأمثل لتحقيق السلام والاستقرار في ربوع القارة الأفريقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.