الانتخابات السودانية.. طوفان الأزمة

تصديق البرلمان على إجراءات إلغاء الدعم بالسودان

ضرورة الانتخابات
تاريخ انتخابات السودان

مآلات النفق المظلم


تعقيدات الأزمة السودانية تبدو ماثلة في انسداد أبواب الحلول، وهو واقعٌ أصبح يستعصي على فهم كل من تحدثه نفسه على الإحاطة به، فهو مشهد بانورامي مدهش أو بالأحرى مفزع أشبه بلوحة سيريالية متداخلة الألوان بشكل فوضوي.

تناقضات وتقاطعات دون نهايات أو خواتيم، حلقة مفرغة تدور كالدوامة تبتلع كل أمل في فجر جديد، فكل أدوات التغيير تبدو غير مجدية. لا المحاولات الانقلابية، ولا حتى الانتفاضة الجماهيرية مجدية في ظل غياب أي تأمين ضد سرقتها كما حدث في ثورات الربيع العربي، والسارقون هم السياسيون الذين يلعبون بمستقبل البلاد، ولم يبق إلا بروز معارضة من نوع آخر، انكفائية تكفيرية ستسعى لتقويض ركائز الدولة السودانية على طريقة "داعش".

في ظل هذا التعقيد مضت الحكومة قدما في نيتها تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في أبريل/نيسان القادم، بيد أن المعارضين يرون أن الاستمرار في عملية انتخابية في ظل هذا الواقع عملية عبثية لا معنى لها سوى إعادة تحكم حزب المؤتمر الوطني الحاكم برئاسة عمر البشير منفردا في مصير الوطن واستنساخ الأزمات الحالية.

ووفقا لتعريف فقهاء القانون الدستوري فإن العملية الانتخابية بدأت بالفعل، فهي عندهم "مجموعة الخطوات التي تبدأ بتحديد موعد الانتخابات وتنتهي بالإعلان الرسمي عن نتائجها". وقد شكّلت الحكومة المفوضية القومية للانتخابات قبل أشهر قليلة، وبدأ عملها بالفعل، وأعلن رئيسها مؤخراً عن الانتهاء من عملية تحديث سجل الانتخابات والتي استمرت نحو ثلاثة أسابيع.

ضرورة الانتخابات
لا بد أن نفرق أولا بين أهمية قيام الانتخابات بالنسبة للسلطة الحاكمة، وبين أهميتها باعتبارها حتمية لتأسيس حكم راشد لمصلحة الشعب والدولة، خاصة وأن غياب الديمقراطية كان الأمر الغالب على فترة ما بعد الاستقلال (58 عاما)، الأمر الذي تسبب في حالة عدم الاستقرار المزمنة في البلاد.

مضى البشير ومن يستفيدون من بقائه في السلطة قدماً في تحدي دعاة التغيير داخل الحزب وخارجه بإقدامه على الترشح مرة أخرى، باعتبار أن التغيير محور مهم في خطط مواجهة أزمات البلاد، كما يمثل فرصة مواتية أمام تعاطي المجتمع الدولي مع الحكومة

نظام البشير يريدها مسحوقاً تجميلياً يخفي من خلفه الإخفاقات الكثيرة التي تعتريه، فعلى الصعيد الخارجي فإن الانطباع الدولي -رغم تطاول السنين- لا يزال ينظر إلى البشير باعتباره قائداً لانقلاب عسكري على حكومة منتخبة، وهي حكومة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي.

كذلك فإن البشير قضى أكثر من 25 عاما في الحكم، وهي أطول فترة يمكثها رئيس في حكم السودان، وقد بلغ الرجل من العمر اليوم سبعين عاماً، وعانى كثيراً في الفترة الأخيرة من مشاكل صحية، وطبيعة الأشياء وقوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء وحدها تحول دون تمكنه من تقديم حلول لأزمة وطنية بكل هذا التعقيد.

لقد مضى البشير ومن يستفيدون من بقائه في السلطة قدماً في تحدي دعاة التغيير داخل الحزب وخارجه بإقدامه على الترشح مرة أخرى، باعتبار أن التغيير محور مهم في خطط مواجهة أزمات البلاد، كما يمثل فرصة مواتية أمام تعاطي المجتمع الدولي مع الحكومة.

يقول أحد مفكري الحزب منتقدا خطوة إعادة الترشح إن التغيير الشامل لن يحدث ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﺷﻤﻞ ﺍﻟﺮﺋﺎﺳﺔ، وفي رأيه -وهو الرجل القريب من قيادة الدولة- أن البشير تؤثر عليه مجموعات معينة، وأﻥ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺤﺰﺏ الحاكم ﻫﻲ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﺷﺨﺼﺎ ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺑﻨﻴﺔ ﻭﻫﻴﻜﻞ، وﻫﻨﺎﻙ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻏﻴﺮ ﺭﺳﻤﻴﺔ ﻣﺨﻔﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ، وخلص إلى أن ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﻳﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﻜﻴﻜﻬﺎ ﺇﻻ ﺑﺘﻐﻴﻴﺮ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺓ.

أما ضرورة قيام الانتخابات من الناحية النظرية، وبمعزل عن أهداف ونوايا الحزب الحاكم، فتفرض نفسها لكون الانتخابات محصلة لحالة ديمقراطية يفترض أن تتوفر فيها شروط وضمانات وحريات وحقوق ثابتة.

في حين أن الأصل الفلسفي لقيام الانتخابات يتمثل في رغبة الفصل بين الحاكم كشخص, والسلطة باعتبارها وظيفة, ليصبح الأساس في ممارسة السلطة التفويض الشعبي بما يترتب على ذلك من تقييد لسلطات الحاكم, استنادا إلى مبدأ حكم القانون.

فالانتخابات هي الوسيلة التي تمكن المواطنين من المشاركة في عملية اتخاذ القرارات. وعن طريقها يمكن لهم قبول أو رفض الخيارات السياسية, وفي الوقت ذاته قبول أو رفض من يطرحون هذه الخيارات.

ولأن الانتخابات آلية تستخدم في النظم الديمقراطية والشمولية لتحقيق مقاصد ووظائف متباينة، فإن ثمة معايير يمكن من خلالها التفرقة بين الانتخابات الديمقراطية التنافسية وبين غيرها من الانتخابات، التي لا يمكن وصفها لا بالديمقراطية ولا بالتنافسية.

تخشى المعارضة تلبس نظام البشير حالة نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، إذ كان يعتمد على طرق ماكرة جداً للبقاء في السلطة، بجانب الاعتماد على قنوات منهجية ومؤسسية فعالة، لذا أصبحت المؤسسات الانتخابية عنصراً أساسياً في طول عمر نظام مبارك

ويطرح المهتمون بأمر الوضع السياسي في السودان بإشفاق بالغ هواجسهم بشأن شروط قيام انتخابات نزيهة وشفافة مثل إمكانية توفر حرية الحصول على المعلومات من مصادر متعددة، وضمانات حرية التعبير وحرية التنظيم. وهذا يعني ببساطة أن الانتخابات الحرة والنزيهة هي قمة الديمقراطية وذروتها، فالانتخابات لا تسبق الديمقراطية بأي حال من الأحوال، فهي إذن لا تصنع لا الديمقراطية، ولا الحريات والحقوق.

ومن الضروري أن يأتي القانون الانتخابي على نحو يعبر عن إرادة وطنية، حتى يتسنى للقوى السياسية المشاركة مشاركة حقيقية، وهذا يتطلب إسهامها في وضع القانون الانتخابي. بيد أنه في يوليو/تموز الماضي أجازت الحكومة مشروع قانون الانتخابات القومية الجديد تعديل سنة 2014، وكان القانون المعدل قد وضع في 2008 وتم العمل به في آخر انتخابات أبريل/نيسان 2010.

لكن القانون نفسه والتعديل اللاحق شُرّع بمعزل عن القوى السياسية التي يراد لها المشاركة في الانتخابات. والناظر إلى تلك التعديلات ربما يجد مبررا لهواجس القوى السياسية، فهذه التعديلات تضمنت إتاحة الفرصة للقوات النظامية للمشاركة في العملية الانتخابية دون التقيّد بفترة الثلاثة أشهر المحددة في القانون للإقامة في الدائرة الانتخابية المعنية. إن أهمية القانون الانتخابي تستند إلى كونه آلية لتحويل الأصوات إلى مقاعد برلمانية, الأمر الذي يجعله متحكماً في صورة وملامح المشهد السياسي الذي يعقب إجراء الانتخابات.

وتخشى المعارضة تلبس نظام البشير حالة نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، إذ كان يعتمد على طرق ماكرة جداً للبقاء في السلطة، بجانب الاعتماد على قنوات منهجية ومؤسسية فعالة، ولذا أصبحت المؤسسات الانتخابية عنصراً أساسياً في طول عمر نظام مبارك. ولذلك حافظ مبارك على حكم غير ديمقراطي لمدة طويلة عن طريق الانتخابات.

تاريخ انتخابات السودان
يُشير تاريخ الانتخابات في السودان والذي بدأ بُعيد الاستقلال في 1956، إلى إجراء 12 عملية انتخابية خلال الحكومات المتعاقبة عسكرية ومدنية، فكانت الانتخابات البرلمانية الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 1953، أشرفت عليها لجنة من سبعة أعضاء من مصر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والهند. وقادت فيما بعد إلى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان وفق نصوص اتفاقية تقرير المصير.

أما الانتخابات البرلمانية الثانية فكانت في 1958. وخلال الفترة الممتَّدة من 1958 بداية الحكم العسكري (حركة 17 نوفمبر) وحتى ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، لم تشهد البلاد أي انتخابات برلمانية سوى ما عرف بالمجلس المركزي، بوصفه مؤسسة أريد لها أن تشكل نافذة تشريعية دستورية في البلاد. وبعد تشكيل الحكومة الانتقالية عقب الثورة تم تعيين مجلس الشيوخ الذي كوّن بموجب قانون الحكم الذاتي لعام 1965، وعدِّل مجلس النواب إلى الجمعية التأسيسية.

وفي العام ذاته (1965) أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية، إلا أن الحكومة الائتلافية -التي تشكّلت بموجب نتائج تلك الانتخابات- شهدت خلافات سياسية حادة أفضت إلى حل الجمعية التأسيسية المنتخبة في 1965، ومن ثمّ التعجيل بإجراء انتخابات برلمانية جديدة هي الثالثة من نوعها وعُرفت بانتخابات الجمعية التأسيسية للعام 1968.

في مايو/أيار 1969 تسلم الرئيس الأسبق جعفر نميري السلطة بانقلاب عسكري. وقد شهدت فترة حكمه احتكار تنظيم سياسي واحد الحياة السياسية، وهو ما عُرف بتحالف قوى الشعب العاملة ممثلاً في الاتحاد الاشتراكي، على غرار الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر. وأجريت الانتخابات للمرة الأولى في فترة حكم نميري في 1974. وصدر الأمر الجمهوري بتعيين 10% من الأعضاء فاكتمل المجلس بإعلان نتائج الانتخابات ليتكون أول مجلس شعب قومي في العام ذاته.

مع إصرار الخرطوم على إجراء الانتخابات القادمة في أبريل/نيسان 2015 في موعدها فإنها تواجه تحديات جدية، أقلها التكلفة العالية مقارنة بوضع اقتصاد البلاد المتردي، وقد وجدت الانتخابات السابقة مساندة ودعما دوليين خاصة من جانب واشنطن، لأن نجاحها كان متعلقاً بإجراء الاستفتاء الذي أدى إلى فصل جنوب البلاد، إلا أن انتخابات 2015 لن تجد أي دعم دولي

في العام 1978 جاءت انتخابات مجلس الشعب الثالث بعد ما عرفت بالمصالحة الوطنية ودخول أحزاب المصالحة في تطور سياسي مهم، بمشاركة أحزاب المعارضة في خوض الانتخابات في الدوائر الجغرافية لدخول المجلس. فقد كان يهيمن على المجلسين السابقين تنظيم الاتحاد الاشتراكي، ونتيجة لذلك اشتد الصّراع السياسي داخل المجلس بين قيادات الاتحاد الاشتراكي وقادة المعارضة، الذين شاركوا في انتخابات المجلس الثالث بعد المصالحة الوطنية، بيد أنه تعرض للحل بعد عامين من انتخابه.

في العام 1980 انتخب مجلس الشعب الرابع، الذي شهد كذلك وجود معارضة أشد لحكومة نميري، الأمر الذي اعتبر خطرا يتهدد النظام، فلم يدم ذلك المجلس طويلاً حيث تم حله بعد فترة قصيرة. وفي العام 1982 انتخب مجلس الشعب الخامس، الذي انتهى أجله بقيام انتفاضة أبريل/نيسان 1985 الشعبية التي أسقطت نظام نميري.

بعد حكومة الانتفاضة الانتقالية أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية في 1986، التي مكنت الصادق المهدي من تشكيل حكومة ائتلافية برئاسته، حتى يونيو/حزيران 1989 حين قاد الرئيس الحالي عمر البشير انقلاباً، تسلم على أثره السلطة.

وفي بداية عهد البشير أجريت الانتخابات البرلمانية على مرحلتين، الأولى 1996 والثانية 2000. واكتسح فيهما المؤتمر الوطني -الحزب الحاكم- غالبية المقاعد النيابية، ورفضت أحزاب المعارضة الرئيسية المشاركة في كلا المرحلتين.

وآخر انتخابات تمت في 2010 بموجب اتفاقية نيفاشا شارك فيها مليون ناخب و14 ألف مرشح، واتسمت بالتعقيد والتركيب، حيث تم انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء المجلس التشريعي المركزي والمجالس الإقليمية والولاة في وقت واحد.

مآلات النفق المظلم
مع إصرار الخرطوم على إجراء الانتخابات القادمة في أبريل/نيسان 2015 في موعدها فإنها تواجه تحديات جدية، أقلها التكلفة العالية مقارنة بوضع اقتصاد البلاد المتردي، وقد وجدت الانتخابات السابقة مساندة ودعما دوليين خاصة من جانب واشنطن، لأن نجاحها كان متعلقاً بإجراء الاستفتاء الذي أدى إلى فصل جنوب البلاد، إلا أن انتخابات 2015 لن تجد أي دعم دولي.

وتواجه الانتخابات كذلك تحدياً خارجياً وهو النزاع مع مصر حول مثلث حلايب، إذ أعلنت المفوضية القومية للانتخابات في السودان المنطقة ضمن الدوائر الانتخابية، وقد أثار ذلك ردود أفعال غاضبة في مصر، رغم أنها لم تفتتح مراكز تسجيل هناك. وقال رئيس المفوضية إنهم فتحوا 35 مركزا في منطقة حلايب، دون أن يحدد إن كان بينها مراكز في المنطقة محل النزاع، مؤكدا أن "حلايب سودانية".

ورغم أن إجراء المفوضية ليس جديدا، إذ إنه تكرر في انتخابات 2010، فإن الأمر قد ينحو لمزيد من التصعيد. ومع كل ذلك وحتى في حال قيام انتخابات 2015، فإنها لن تكون سفينة نوح لإنقاذ النظام، ما لم يشرع في حلول جذرية للأزمة السياسية في البلاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.