الجزائر والأزمة الليبية

A fighter of Libya's Fajr Libya group (Libyan Dawn) fires his gun during clashes in the hill village of Kikla, southwest of Tripoli on October 21, 2014. The internationally recognised Libyan government called for a civil disobedience campaign in Tripoli until its forces retake the capital from militias who seized it
الفرنسية

خيار الحسم العسكري الذي يراد فرضه من قبل أطراف داخلية بمشاركة قوى إقليمية ودولية على الساحة الليبية مقابل الحل السياسي المتمثل في المبادرات الإقليمية والدولية المطروحة لحل الأزمة ومنها المبادرة الجزائرية، سيزيد من تعميق جذور الأزمة وتشعّب مشكلاتها واستعصاء إيجاد حل لها.

فالأزمة الليبية باتت بمثابة متاهة كبيرة بفعل تدخل أطراف إقليمية وأخرى دولية بشكل مباشر أو خفي وبأجندات متباينة، وهو ما يعطينا الحق في وصف الوضع هناك بحرب أهلية بالوكالة، مع التنبيه إلى أن جوهر الأزمة الليبية لا ينفصل عن مسار الأحداث التي واكبت عملية إسقاط الربيع العربي، إقليميا ودوليا.

تتلخص رؤية فرنسا، اللاعب الأساسي في توجيه المشهد الليبي نحو الحسم العسكري وتدعيمه، في ضرورة الحسم العسكري للأزمة الليبية لفرض حل سياسي في مرحلة لاحقة

ففرنسا، اللاعب الأساسي في توجيه المشهد الليبي نحو الحسم العسكري وتدعيمه، تتلخص رؤيتها في ضرورة الحسم العسكري للأزمة الليبية لفرض حل سياسي في مرحلة لاحقة، فالرئيس الفرنسي تحدث في اللقاء السنوي أمام سفراء فرنسا عن أن "قلقه الرئيسي الآن هو ليبيا" وعن "ضرورة فعل دولي وإلا سينتشر الإرهاب" و"ضرورة قيام الحكومة المنتخبة بنزع سلاح المليشيات".

أما وزير الدفاع فقد أكد (عبر صحيفة لوفيغارو) على "ضرورة أن تتعامل فرنسا مع الوضع في ليبيا وأن تستنفر الأسرة الدولية حول مصير هذا البلد"، وأشار إلى العملية العسكرية الواسعة النطاق في مالي التي "انتهت بتحرير هذا البلد من التهديد الجهادي وبتدشين عملية سياسية ديمقراطية" وإمكانية تكرار السيناريو المالي و"إمكانية قيام القوة العسكرية الفرنسية (برخان) التي تتخذ من تشاد مقرا لها بالتوجه نحو الحدود الليبية، وذلك بالتنسيق مع الجزائر التي تعد طرفا إقليميا فاعلا وكافة دول المنطقة"، و"أن جنوب ليبيا أصبح ملتقى للإرهابيين حيث يتوجه الجهاديون للتزود بالسلاح ولإعادة تنظيم صفوفهم، في حين باتت المراكز السياسية والاقتصادية بشمال البلاد مهددة بالوقوع في أيدي الجهاديين".

وعملت فرنسا على استغلال الوضع السياسي "المهلهل" في الجزائر لافتكاك موافقة رئيسها بالدعم أو المشاركة كما فعلت من قبل في شمال مالي بهدف حماية مصالحها الضخمة السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية في منطقة الساحل الأفريقي خشية أن تضرب الجماعات المسلحة مصالحها بزعزعة الاستقرار في تشاد والنيجر انطلاقا من الجنوب الليبي، إلا أن فرنسا تراجعت عن التدخل المباشر، ولو إلى حين، بسبب فشلها في توفير الغطاء الدولي وافتقادها الدعم الأوروبي ورفض الجزائر المشاركة أو المساعدة، وعدم ضمان نجاحها في حال تدخلها منفردة.

وظهرت بدلا عن ذلك صيغة تحالف مصر والإمارات وحكومة الثني للحسم العسكري، وذلك بعد تحديد الجزائر موعد انطلاق الحوار بين الأطراف الليبية (18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي) الذي تجاهلته حكومة الثني بحجة اختصاص مصر بالملف السياسي وعدم علمه بالمبادرة الجزائرية، وأطلق حفتر، بالمقابل، العملية العسكرية في بنغازي (أكتوبر/تشرين الأول الماضي) بسند مصري.

على الرغم من إمساك مصر بالملف السياسي من مبادرة دول الجوار الليبي، فالنظام المصري وجد في الأزمة الليبية متنفسا لتصدير مشكلاته تحت عنوان "محاربة الإرهاب" خدمة لأجندة سياسية واقتصادية، وهو ما يعتبر ضربا للمبادرة الجزائرية التي وجدت ترحيبا إقليميا ودوليا وإشادة من الأمين العام للأمم المتحدة ومن مبعوثه الخاص إلى ليبيا، وتم تأجيل موعد الحوار إلى وقت لاحق.

وجد النظام المصري في أزمة ليبيا متنفسا لتصدير مشكلاته تحت عنوان "محاربة الإرهاب" وهو ما يعتبر ضربا للمبادرة الجزائرية التي وجدت ترحيبا إقليميا ودوليا وإشادة من الأمين العام للأمم المتحدة ومن مبعوثه الخاص إلى ليبيا

فالجزائر تأخرت جدا في تحريك الملف الليبي نحو الحل السياسي، صحيح أنها رفضت التدخل الأجنبي في الحرب الليبية أثناء الثورة، إلا أنها اتخذت موقفا رماديا بعد نجاح ثورة 17 فبراير دفع كثيرا من الفصائل العسكرية والنخب السياسية الليبية لاتهام الجزائر بمساندة القذافي وبخاصة بعد استضافتها عائلته، وبالتالي لم تلتقط الجزائر اللحظة التاريخية الحاسمة ولم تحسن قراءة مآلات الوضع في ليبيا بسبب هاجس النظام من انتقال الربيع العربي إلى الجزائر خاصة أن التغييرات قد شملت أنظمة تونس ومصر وأطلقت الثورة في سوريا.

وحتى بعد نجاح الثورة الليبية لم تبادر الجزائر إلى مد الجسور مع المسلحين وتبديد مخاوف السياسيين باتخاذ خطوات سياسية وإنسانية تستطيع من خلالها تصحيح موقعها في المعادلة الليبية من خلال إعادة صياغة موقفها وتجديد صورتها وتسويق نواياها في المساعدة على بناء المؤسسات واستعادة الحياة الدستورية والمدنية، بل انتظرت طويلا حتى أدركت متأخرة أن أمنها الوطني لا يبدأ من حدودها بل من الداخل الليبي.

وحينها أطلقت مبادرتها للحوار بين جميع الفصائل السياسية والعسكرية لإيجاد أرضية مشتركة تكون مدخلا لحوار يفضي إلى اتفاق ينهي الصراع المسلح حتى لا تتوسع دائرته ويخرج عن السيطرة فيفجر الشمال الأفريقي ويهدد استقرار المتوسط برمته.

كما أن الجزائر -التي تبلغ حدودها المشتركة مع ليبيا قريبا من ألف كيلومتر- استشعرت خطورة الموقفين المصري والفرنسي المؤيدين للتدخل العسكري وتأثيره على توسع نطاق الصراع المسلح أكثر في ليبيا في غياب ركائز الدولة وانعدام مؤسساتها خاصة بعد قصف مصر والإمارات لمواقع قوات "فجر ليبيا" دعما لقوات عملية الكرامة، والدعوة التي أطلقها وزير الدفاع الفرنسي للأوروبيين لمساندة تدخل فرنسا عسكريا في ليبيا وبخاصة في الجنوب بهدف مواجهة "الجماعات الإرهابية المتطرفة"، ومحاولات فرنسا الجادة والحثيثة توريطها في المستنقع الليبي بالمشاركة أو المساعدة بدل مساندة مبادرة دول الجوار، وهو ما يفقد الجزائر ورقة الحياد والإيجابية حيث تقف على مسافة متساوية بين الفرقاء الليبيين بسبب عدم تدخلها أصلا في تجاذبات الأطراف الليبية.

وتكتم الجزائر انزعاجها من الدور المصري الخليجي الفرنسي، ولا تحبذ استمرار عملية الحسم العسكري حتى لا تجد نفسها مجبرة على الانخراط في لعبة المحاور الإقليمية والدولية وتعقيدات التحالفات الداخلية الليبية بتأييد طرف على آخر بمقتضى موازين القوة لتبقي الحريق الليبي داخل ليبيا حماية لحدودها وحفاظا على أمنها.

وتسعى الجزائر من خلال مبادرتها إلى جمع أطراف الصراع في ليبيا إلى مائدة الحوار لوقف الاقتتال والوصول إلى حل سياسي لتحقيق جملة من الأهداف أهمها:

– تحقيق توافق بين الليبيين بالحوار على خريطة طريق تتضمن حلا للأزمة وتمنع الاحتكام إلى السلاح لحل الخلافات، وتسحب ذرائع التدخل العسكري الإقليمي والدولي في ليبيا.

– بناء مؤسسات الدولة وقطع الطريق على تمدد وانتشار فكر الجماعات المسلحة حتى لا يتسرب عبر الحدود نحو الجزائر أو نحو دول الساحل وتشكيل منظومة اتصال ودعم تهدد استقرارها.

– قيام سلطة مركزية قوية تحتكر حيازة السلاح واستعماله وتمنع تدفقه إلى داخل الجزائر من خلال التعاون على ضبط الحدود المشتركة.

تكتم الجزائر انزعاجها من الدور المصري الخليجي الفرنسي، ولا تحبذ استمرار عملية الحسم العسكري حتى لا تجد نفسها مجبرة على الانخراط في لعبة المحاور الإقليمية والدولية وتعقيدات التحالفات الداخلية الليبية

– إعادة فتح حدودها البرية المغلقة مع ليبيا، ولو جزئيا، لفك الحصار عن سكان الجنوب لاستئناف التبادلات التجارية وإنْ عبر التهريب الذي يعتبر المصدر الأول للدخل في الجنوب لتفادي تفجر الأوضاع اجتماعيا (غرداية نموذجا).

– تخفيف الضغط على الجيش الجزائري المستنفر والمرابط على طول الحدود ويعيش أعلى درجات التأهب في مواجهة التهديدات على امتداد الحدود الطويلة وخاصة المتوترة منها مثل ليبيا وتونس ومالي، مع تقليص فاتورة تحركه وانتشاره على مساحة أكبر دولة أفريقية مما يكلف ميزانية ضخمة.

كما تراهن الجزائر، في انتظار بناء المؤسسات الدستورية في تونس، على دور تونسي مؤيد وفاعل للحل السياسي ودافع لمبادرتها، خاصة أن تونس تعاني أساسا وضعا هشا أمنيا واقتصاديا واجتماعيا لا يتحمل تداعيات الحل العسكري، مع حدود مشتركة مع ليبيا بطول خمسمائة كلم ولا تستطيع تحمل عبء الاضطرابات في ليبيا أمنيا مع وجود أكثر من مليون لاجئ ليبي في تونس.

على أن المبادرة الجزائرية تأتي والجزائر تعيش وضعا يعاني اجتماعيا من الانسداد، وسياسيا من الجمود، واقتصاديا من الركود، وخاصة أن الملف الليبي يقبع في درج رئاسة عاجزة، في وجه شراسة فرنسية للمحافظة على مصالحها وحماية نفوذها في منطقة الساحل والصحراء، حيث تمثل ليبيا بجغرافيتها محورا أساسيا فيها، بكل الوسائل، وهو ما يضعف موقف الجزائر ومبادرتها مع ظروف إقليمية ودولية تجعل الجزائر نفسها في عين الإعصار إذا لم يصحح الوضع الداخلي من الرئاسة ابتداء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.