لندن تغرد خارج السرب

epa03430300 EU flags wave outside the EU Commission headquarters in Brussels Belgium 12 Ocotober 2012. The European Union was awarded the Nobel Peace Prize 2012 earlier the same day. The EU and its forerunners have for over six decades contributed to the advancement of peace and reconciliation democracy and human rights in Europe the Norwegian Nobel Committee citation said 12 October. European Council President Herman van Rompuy said that the Nobel Peace Prize was a recognition of the EU s work as a peacemaker in Europe.
وكالة الأنباء الأوروبية

تعتبر تجربة الوحدة الأوروبية واحدة من أكثر الظواهر المثيرة للاهتمام والدراسة في ظاهرة التكتلات الاقتصادية والسياسية في العالم. فأوروبا تتحدث بخمسين لسانا وتحتضن أكثر من اثني عشر عرقا، وأربع ديانات رئيسة, الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية والإسلام، وتتفاوت قوة دولها الاقتصادية والعسكرية وتعدادها السكاني لدرجة لا تسمح بالمقارنة.

وأدى الصراع بين دولها العظمى للسيطرة على القارة إلى أبشع الحروب في تاريخ البشرية. ولذلك كانت تتجه عقول ساسة أوروبا ومفكريها بعد كل حرب شاملة للبحث عن أنجع السبل لتفادي الحروب, فكان مؤتمر فيينا في 1815 بعد حروب نابليون، وكانت عصبة الأمم في 1919 بعد الحرب العالمية الأولى.

بيد أن التطور الكبير الذي حدث في الفكر الأوروبي خاصة بعد الحرب العالمية الأولى تمثل في فكرة أن الحروب لن تتوقف بالمعاهدات والاتفاقيات والدبلوماسية, بل بالقضاء على أسبابها كالحرب على الموارد وتنازع القوميات والنظم الدكتاتورية التوسعية.

ومن هنا برزت فكرة خلق كيان جامع ينتقل فيه الولاء من القوميات والأديان والدول إلى ولاء أوروبي يسمو فوق الانتماءات الضيقة, هدفه تحقيق السلام والتنمية والرفاهية والحرية لكل أبناء أوروبا دون اعتبار لأعراقهم وأديانهم وقوة شعوبهم، مع احتفاظ الشعوب بخصوصياتها الثقافية والتاريخية.

بنجاح السوق المشتركة للفحم والحديد طوّرت الدول الست اتفاقيتها بتكوين اتحاد جمركي كامل بينها عام 1957 بمعاهدة روما التي أنشأت نواة الاتحاد الأوروبي الحالي كالمفوضية الأوروبية فوق الدولية والمجلس السيادي والمجلس البرلماني

وقد أعان على هذا النمط من التفكير نجاح الاتحاد السويسري في جمعه عدة أديان وعدة قوميات على اختلاف تعدادها وعدة لغات في وطن واحد تتساوى فيه الحقوق وينعم بالرفاهية والحرية.

إلا أن الذي أطلق فكرة الاتحاد الأوروبي بشكلها الحالي التي تقوم في أساسها على الشراكة الفرنسية الألمانية وبهدف إقامة الولايات المتحدة الأوروبية، هو -وبعكس المتوقع- رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستن تشرشل الذي اقترح هذا المشروع في خطاب في زيورخ بسويسرا في عام 1946 بعد عام واحد من نهاية الحرب العالمية الثانية. وبذلك ففكرة الاتحاد الأوروبي الحالية مقترح بريطاني محض رغم تخلف بريطانيا عن بداياته العملية في عامي 1952 و1957.

ففي العام 1952 أعلن وزير الخارجية الفرنسي شومان أن فرنسا وألمانيا قد أدارتا ظهريهما للماضي, إلا ما تأخذه منه من عبر، وتوجهتا للعمل للمستقبل، وقررتا أن تجعل من الحرب أمرا غير وارد بل مستحيلا, بعقد اتفاقية بين ست دول أوروبية هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولكسمبورغ, لإنشاء سوق مشتركة للفحم الحجري والحديد اللذين كانا سببا في النزاعات السابقة بين ألمانيا وفرنسا, بغرض تطوير وتحديث الصناعة في كل هذه الدول بقدر متساو، على أن يوكل تنفيذ هذه الاتفاقية لمؤسسة مستقلة تصبح قراراتها نافذة على الدول.

وبنجاح السوق المشتركة للفحم والحديد، طوّرت الدول الست اتفاقيتها بتكوين اتحاد جمركي كامل بينها عام 1957 بمعاهدة روما التي أنشأت نواة الاتحاد الأوروبي الحالي كالمفوضية الأوروبية فوق الدولية والمجلس السيادي والمجلس البرلماني.

ورغم أن الدول الموقعة على معاهدة روما قد وجهت الدعوة لبريطانيا للمشاركة، فإن بريطانيا -التي كانت تعتمد على دول الكومنولث (المستعمرات البريطانية السابقة) والعلاقة المتميزة مع الولايات المتحدة- كانت ترى نفسها ندا للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي, باعتبارها أحد الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية، وأنها ليست بحاجة للانضمام للدول المهزومة والصغيرة في أوروبا. أو بعبارات الفرنسي جان مونيه أحد مهندسي معاهدة روما المؤسسة للاتحاد الأوروبي "ليست على استعداد لمشاركة فرنسا المهزومة ثمار الانتصار".

وبذلك فتحت إنجلترا الطريق لفرنسا دون قصد لتتربع على عرش أوروبا الوليد بعد أن أوغرت صدرها. إلا أن بريطانيا قد خسرت الرهان لابتعاد دول الكومنولث عنها وفتور علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وبذلك تدهور اقتصادها ونفوذها في العالم.

وتزامن ذلك مع نجاح الاتحاد الجمركي بقيادة فرنسا الذي أغلق في وجه بريطانيا مما حدا بها للبحث عن خلق جسم أوروبي آخر منافس. وبذلك عقدت بريطانيا اتفاقا في عام 1960 مع ست من دول أوروبا لخلق سوق مشتركة أوروبية أخرى، غير أن هذه المنظمة التي أرادت بها بريطانيا مواجهة مجموعة فرنسا تعرضت لصعوبات جمة, مما اضطر بريطانيا للتنازل والقبول بالأمر الواقع وتقديم طلب للانضمام لدول معاهدة روما بقيادة فرنسا في العام 1961 مع ثلاث من الدول التي حاولت معها إقامة سوق أوروبية موازية هي الدانمارك والنرويج وأيرلندا.

غير أن رئيس فرنسا وقائد مقاومتها للاحتلال الألماني الجنرال ديغول لم يغفر لإنجلترا ترفعها على فرنسا فرفض طلب انضمامها للسوق المشتركة وكال لها الاتهامات بالتخلي عن أوروبا ومحاربتها مؤسساتها والانحياز لأميركا بدلا من أوروبا, كما رفض ديغول طلب الدول الثلاث الأخرى باعتبارها تابعة لبريطانيا.

ولكن داخل الدول الشريكة لفرنسا كانت هناك أزمة خفية بين فرنسا والدول المتعاقدة معها وخاصة إيطاليا التي لم تعد تحتمل هيمنة فرنسا على السوق المشتركة.

وبذلك انتهزت هذه الدول فرصة طلب انضمام بريطانيا لكسر سطوة فرنسا عليها بإدخال شريك كبير للسوق الأوروبية لخلق التوازن داخلها، فتجمعت الدول الخمس وطلبت من فرنسا النظر فورا في طلب بريطانيا، غير أن جهود الدول الخمس باءت بالفشل أمام إصرار ديغول، ولم تتمكن بريطانيا من الالتحاق بركب أوروبا إلا في العام 1973 أي بعد رحيل ديغول.

رسالة الأوروبيين لبريطانيا  هي: افعلوا ما يروق لكم فنحن منطلقون نحو وحدة أعمق. وهذا ما تقوله بعض الشخصيات المؤثرة في أوروبا كرئيس الوزراء الفرنسي الأسبق ميشيل روكارد بلغة أقل دبلوماسية للبريطانيين: "ارحلوا الآن قبل الغد إنكم تعيقون مسيرتنا"

وبينما كانت فرنسا وبريطانيا تتصارع على زعامة أوروبا كانت ألمانيا تعمل في صمت وتعيد بناء مؤسساتها وقوتها الاقتصادية بعبقريتها المعروفة دون أن يحبطها التقسيم ولا القوات الأجنبية على أراضيها ولا القيود المفروضة عليها حتى تحولت في زمن قياسي إلى ثالث القوى الاقتصادية العالمية.

وبذلك ما إن توحدت ألمانيا رغم معارضة بريطانيا بدعم فرنسا والولايات المتحدة وانسحبت منها القوات الأجنبية حتى أصبحت الدولة الأعظم في أوروبا ولا يتصور أحد وجود الاتحاد الأوروبي من غيرها.

وبذلك وجدت بريطانيا نفسها في مواجهة ألمانيا وفرنسا مجتمعتين. وها هي ألمانيا الآن تستثمر كل ثقلها الاقتصادي في أوروبا دعما للدول الأوروبية الضعيفة ودفعا لمسيرة أوروبا نحو الاندماج الكامل حتى تستعيد عبرها دورها القيادي في أوروبا والعالم.

ورغم أن ألمانيا تواجه الآن خيارا صعبا بين المحافظة على اليورو وتحمل تبعات عجز اقتصاد بعض دول أوروبا عن مواكبته فإنها مستعدة لأن تدفع بسخاء للحفاظ على وحدة أوروبا تحت قيادتها، بعكس بريطانيا التي تسعى لقيادة أوروبا دون أن تدفع فلسا، ولا يزال الجميع يذكر بسخرية صرخة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر في وجه المفوضية الأوروبية أعيدوا إلي أموالي حتى آخر درهم.

لا يعني ذلك بحال أن التنافس على زعامة أوروبا قد بلغ نهاياته، ولعل تهديد بريطانيا الأخير بالانسحاب من الوحدة الأوروبية حلقة من حلقات هذا التنافس. لأن سبب كل هذه الأصوات العالية وعبارات التهديد هو صراع عميق بين بريطانيا من جهة، والدول الأوروبية الأخرى تحت قيادة فرنسا وألمانيا من الجهة الأخرى.

وجوهر الصراع هو أن بريطانيا لها خصوصية داخل الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسية وتاريخية وجغرافية, وهذه الخصوصية تعني أن تشارك بريطانيا في الاندماج الاقتصادي دون أن يؤثر ذلك على استقلاليتها وسيادتها، بينما تسعي فرنسا وألمانيا لفدرالية أوروبية كاملة تحت قيادتيهما تصبح فيه المؤسسات الأوروبية فوق سيادة الدول.

مشكلة بريطانيا أن هذه الخصوصية البريطانية لو أصبحت حصرا عليها فستجد نفسها في مرحلة ما خارج الإجماع الأوروبي، وبذلك تسعى إلى أن تصبح هذه الخصوصية قاعدة عامة في الاتحاد الأوروبي بحيث تأخذ كل دولة من الاتحاد ما تشاء وتترك ما تشاء لكي لا يتم أبدا الاندماج الكامل حتى تحافظ على موقعها في قمة الهرم الأوروبي، وهذا ما يناقض تماما فكرة الاندماج الأوروبي وأهدافه ومصالح فرنسا وألمانيا الجوهرية.

كان هذا الصراع يدور في الخفاء إلا أن ما فجره أخيرا هو ترشيح اللكسمبورغي جون كلود جونكر المعروف بنزعته الأوروبية الفدرالية لرئاسة المفوضية الأوروبية، وكان من الطبيعي أن تعترض بريطانيا عليه. ولكن بريطانيا لم تتمكن إلا من إقناع دولة واحدة من الـ27 دولة الأخرى بموقفها المعارض للترشيح، وتحت إصرار بريطانيا على موقفها حوّلت الدول الأوروبية الأخرى أمر الترشيح للبرلمان الأوروبي لحسمه، ففاز المرشح ذو النزعة الفدرالية بأغلبية ساحقة، وهذا ما دفع بريطانيا لليأس وجعلها تستشيط غضبا.

كما أن وصف رئيس الوزراء الإيطالي ماتيورينزي في حديثه لمحطة "سي أن أن" لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالكارثة لكليهما لا يخرج من هذا الصراع، لأن إيطاليا كما أسلفنا هي التي دعمت دخول بريطانيا للاتحاد الأوروبي لخلق توازن داخله لحماية مصالحها حتى لا تملي عليها فرنسا ما تريد، وإذا خرجت بريطانيا فستجد إيطاليا نفسها من جديد بين شقي الرحى ألمانيا وفرنسا اللتين لا غنى لإيطاليا عنهما في ظروفها الحالية.

وبذلك تصبح عبارته أكثر دقة لو قال إنها كارثة لإيطاليا وبريطانيا. لأن بريطانيا العظمى على مكانتها كانت خارج المنظومة الأوروبية لقرابة العشرين عاما (1957-1973) حينما كانت المنظومة الأوروبية قليلة العدد والعدة ومهيضة الجناح، ولم يؤثر ذلك على مسيرتها.

ما يهدد الاتحاد الأوروبي ليس انسحاب بريطانيا منه ولا الأزمات العارضة، ولكنه متاجرة الساسة الأوروبيين بقضايا أوروبا لنيل أصوات الناخبين مما يفقد المواطنين الأوروبيين الثقة في المشروع الأوروبي فينفضوا من حوله

كما أن للمرء أن يتساءل هل دخلت بريطانيا أصلا الاتحاد الأوروبي؟ فبريطانيا خارج منطقة اليورو، وخارج منطقة شنغن، وغائبة عن الكثير من المؤسسات والسياسات. وبذلك فخروجها وإن أصاب الاتحاد الأوروبي ببعض التراجع المعنوي والسياسي والأضرار الاقتصادية، إلا أنه لن يوقف مسيرته ولا يمكن وصفه بالكارثة.

بالمقابل فإن بريطانيا التي تتجه نصف تجارتها الخارجية لأوروبا من المستبعد أن تخرج من السوق الأوروبي المشترك حتى ولو خرجت عن اتفاقية الاتحاد الأوروبي، لأن الاتفاقيات اللاحقة في أوروبا لا تستبدل أو تلغي الاتفاقيات السابقة وإلا لوجدت نفسها في نفس الظرف الذي فرض عليها طلب الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة في البداية. وربما يكون الخروج -لو خرجت لأسباب تكتيكية- لتعود مرة أخرى بشروط أفضل.

وما يخفف من احتمال تحقق تخوفات رئيس الوزراء الإيطالي هو رد بقية دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة على احتمال خروج بريطانيا منه. في الواقع لقد ناقشت هذا الأمر قمة الاتحاد الأوروبي يوم 14 يونيو/حزيران الماضي، وبعد أن أخذت القمة علما بأن بريطانيا يساورها القلق من تطور الوحدة الأوروبية المستقبلي، أكدت أن فكرة التقدم دائما لوحدة ألصق تفتح الطريق لعدة طرق للاندماج، فالذين يودون الذهاب بالوحدة إلى أقصى مدى يمكنهم ذلك، والذين لا يودون التقدم أكثر فستحترم آراؤهم.

بمعنى أن رسالتهم لبريطانيا بعبارات بسيطة هي: افعلوا ما يروق لكم فنحن منطلقون نحو وحدة أعمق. وهذا ما تقوله بعض الشخصيات المؤثرة في أوروبا كرئيس الوزراء الفرنسي الأسبق ميشيل روكارد بلغة أقل دبلوماسية للبريطانيين "ارحلوا الآن قبل الغد إنكم تعيقون مسيرتنا".

وكيفما كان التنافس الخفي بين دول أوروبا الغربية العظمى وتنافر مصالحها وطموحاتها، فإن هذا لم يمنع الاتحاد الأوروبي من ترسيخ السلام بين فرنسا وألمانيا، وحماية أوروبا من الهيمنة الأميركية، وتعزيز حقوق الإنسان ودولة القانون في أوروبا بشروط كوبنهاغن لعام 1993، وتطوير اقتصاد دول أوروبا الفقيرة كاليونان وأيرلندا، وتحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية لمواطني أوروبا، والتعاظم والتمدد في توحيد أوروبا حتى وحدة 28 دولة، ولا يزال يسعى للمزيد.

وختاما فإن ما يهدد الاتحاد الأوروبي ليس انسحاب بريطانيا منه ولا الأزمات العارضة، ولكنه متاجرة الساسة الأوروبيين بقضايا أوروبا لنيل أصوات الناخبين مما يفقد المواطنين الأوروبيين الثقة في المشروع الأوروبي فينفضوا من حوله. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.