الوفاق الوطني وأسئلة الفلسطينيين الصعبة

مؤتمر صحفي لرئيس حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية رامي الحمدالله في غزة
الجزيرة


من حق الفلسطينيين العاديين، الذين لا يحملون السلاح، ولا ينتمون للفصائل، مساءلة قياداتهم وكياناتهم السياسية عن الخيارات المعتمدة، في السياسة وإدارة المجتمع، في المفاوضة والمقاومة، ففي هذه القضايا لا يوجد توكيل على بياض لأحد، والساسة بشر، ليسوا معصومين عن الخطأ، ثم إن المساءلة والنقد والمراجعة والمحاسبة تعد من أبجديات العمل السياسي، والتنمية السياسية، وهي من أوليات مهمات الحركات السياسية الحية والتي تتوخى مصالح شعبها.

ثمة ثلاثة عوامل تؤكد على ذلك أيضا، أولها الإخفاقات الحاصلة في التجربة الوطنية الفلسطينية على مر تاريخها، في الأردن ولبنان والضفة وغزة، وفي ما يتعلق ببناء المنظمة والسلطة، وانسداد أفق المقاومة المسلحة والمفاوضة، مع كل التقدير للتضحيات المبذولة، والإنجازات المتحققة، في تجربة بات لها من العمر نصف قرن، عانى خلالها الفلسطينيون كثيرا، ودفعوا في سبيلها أثمانا باهظة من أرواحهم وأعمارهم واستقرارهم وممتلكاتهم.

وثانيها، يكمن في تحول الفصائل إلى سلطة، تفرض سيطرتها على غالبية الفلسطينيين، وتتحكم بأحوالهم، وبمواردهم، وتقرر في مصيرهم، قبل إنجاز إنهاء الاحتلال (على الأقل) وفي ظروف غياب الإجماعات الوطنية والمؤسسات التمثيلية، التي تشارك في صنع القرارات، وصوغ الخيارات، وتعكس رأي غالبية المجتمع.

نحن إزاء تجربتين، أو فصيلين، يمثل كل منهما خيارا معينا. فمن جهة ثمة "فتح" مع خيار المفاوضة والتسوية، كخيار وحيد، مع تجربتها في السلطة في الضفة. ومن جهة مقابلة ثمة "حماس" مع تجربة المقاومة المسلحة والسلطة في غزة

وثالثها، أن هؤلاء الفلسطينيين، العاديين، هم الذين يدفعون ثمن خيارات قياداتهم، في المفاوضة وفي المقاومة، وفي الانخراط في المحاور العربية والإقليمية، مثلما حدث في الأردن ولبنان والكويت وسوريا والضفة وغزة. هكذا ففي الحرب الأخيرة على غزة، مثلا، فإن غالبية الشهداء الـ2200 والجرحى الـ11 ألفا، ومن هدمت بيوتهم ودمرت ممتلكاتهم هم من هؤلاء.

لا يعني ذلك أن الفصائل الموجودة جاءت من كوكب آخر، أو أنها غريبة عن شعبها، وإنما هذا يفيد، فقط، في التمييز بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، ولا سيما أننا نتحدث هنا عن فصائل، أو كيانات سياسية، تتمتع بأوضاع سلطوية، مع طبقة موظفين، وأجهزة أمنية، ووسائل إعلامية، ومكاتب تمثيل، وعلاقات إقليمية وموارد مالية.

كما يفيد ذلك في توضيح أن القرارات والخيارات المصيرية لا ينبغي أن تكون موضع احتكار من فئات سياسية معينة، وإنما ينبغي أن تكون موضع إجماع غالبية المجتمع، وأن يكون ثمة نقاش حولها، والأهم من ذلك ألا تأتي تلك الخيارات على نحو يضر بالمجتمع الفلسطيني، يجعله يدفع أثمانا باهظة من دون تحقيق إنجازات سياسية ملموسة.

مثلا، في الواقع الفلسطيني الراهن نحن إزاء تجربتين، أو فصيلين، يمثل كل منهما خيارا معينا. فمن جهة ثمة "فتح" مع خيار المفاوضة والتسوية، كخيار وحيد، مع تجربتها في السلطة في الضفة. ومن جهة مقابلة ثمة "حماس" مع تجربة المقاومة المسلحة والسلطة في غزة.

والمشكلة أن هذين الطرفين يهيمنان على المجال العام السياسي والمجتمعي الفلسطيني، وعلى الموارد الفلسطينية، بشكل أحادي كل في مجاله الإقليمي، أي دون مشاركة الفصائل الأخرى، ودون تمكين الفلسطينيين من المشاركة السياسية في نقاش القرارات وصوغ الخيارات الوطنية.

المشكلة أيضا أن هذين الطرفين لا يعملان بطريقة التكامل، في إطار ما يعرف بالوحدة مع الاختلاف، حتى في مواجهة التحديات الإسرائيلية، بقدر ما يعملان بطريقة تنابذية وضدية، ما يبدد الطاقات الفلسطينية، ويريح إسرائيل.

ثمة مشكلة أخرى، مفادها أن كل واحدة من هاتين الحركتين تعتقد أنها على حق في خياراتها السياسية، وأشكال عملها، ونمط إدارتها للسلطة في الضفة وغزة، دون مبالاة بما يراه الطرف المقابل، وحتى دون مبالاة بما يريده غالبية الفلسطينيين. ومثلا، فإن حركة "فتح" ترى أن سلطة "حماس" في غزة سلطة غير شرعية جاءت نتيجة انقلاب، أدى إلى انقسام النظام السياسي، وفصل غزة عن الضفة، وأنها تدخل الفلسطينيين في مغامرات خطيرة، في خيارها المقاومة بالصواريخ، متناسية أن "حماس" فازت في انتخابات، وأنها (أي "فتح") مسؤولة عن مصادرة نتيجة هذا الفوز، كما تتناسى أنها هي قامت بانقلاب أيضا، بتوقيعها اتفاق أوسلو المجحف والناقص، من خلف ظهر الفصائل والهيئات التشريعية الفلسطينية، وتهميشها منظمة التحرير، وفصلها بين فلسطينيي الأرض المحتلة واللاجئين، وتحولها من حركة تحرر إلى سلطة.

في المقابل فإن حركة "حماس" تأخذ على "فتح" خياراتها المضرّة، وضمنها مهادنتها في عملية التسوية، ووقفها أي شكل من المقاومة، متناسية أنها، أيضا، اضطرت لوقف المقاومة، وانتهجت التهدئة، وتحولت إلى سلطة في غزة، بعد أن هيمنت عليها بالقوة وبشكل أحادي.

كما تتناسى مسؤوليتها عن الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني، الذي أدى إلى حصار القطاع وشن ثلاث حروب مدمرة عليه، ناهيك عن كونها هي الأخرى بمثابة سلطة أحادية تحكم في غزة، وتقيد حريات المواطنين، وتفرض عليهم تصوراتها في العيش.

إزاء هذا الانقسام، ربما يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن الفلسطينيين في واقعهم الراهن ليسوا مقسومين بين "فتح " و"حماس"، أو بين خياري المفاوضة أو الحرب بالصواريخ، أو بين التسوية في دولة الضفة وغزة أو تحرير فلسطين، إذ الأمر أعقد من ذلك، وأكثر تعددية وتنوعا، ثم إن خيارات الفلسطينيين الواقعية أرحب أيضا، خاصة أن الواقع يسير على نحو آخر كما نشهد في ممارسات الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم.

ففي هذه الظروف، من حق الفلسطينيين مساءلة الفصيلين "الحاكمين"، أي "فتح" و"حماس"، عن التأثيرات السلبية للخلافات بينهما، وإضرارها بأحوال الفلسطينيين، وتعطيلها قدرتهم على تركيز طاقاتهم على مواجهة التحديات الإسرائيلية

الآن، يبدو أن الوضع بات يتجه نحو إعادة التوافق، أو تقنين الخلاف، بعد أن تفاقمت الخلافات بين هاتين الحركتين، السلطتين، وفق التصريحات الاستفزازية المتبادلة بين القيادتين، المعنيتين بشأن مداولات الدوحة وما تسرب عنها، وهو ما أثمر عقد أول اجتماع لحكومة الائتلاف، بوجود رئيسها رامي الحمد الله، في غزة.

مع ذلك، فإن هذا التوافق الحاصل، والذي يخدم المصالح الفلسطينية، لا يمنع من إبداء المخاوف من إمكان تعثره، لأي سبب، على ضوء التجارب السابقة، والاتفاقات الموقعة، في مكة والدوحة وصنعاء والقاهرة وغزة.

هكذا، ففي هذه الظروف، من حق الفلسطينيين مساءلة الفصيلين "الحاكمين"، أي "فتح" و"حماس"، عن التأثيرات السلبية للخلافات بينهما، وإضرارها بأحوال الفلسطينيين، وتعطيلها قدرتهم على تركيز طاقاتهم على مواجهة التحديات الإسرائيلية.

كما من حقهم مساءلة هذين الفصيلين عن غياب الأطر الشرعية الفلسطيني، التي تمكنهما من العمل معا، بطريقة تكاملية، على رغم الخلاف. مع التأكيد هنا أن حركة فتح هي التي تتحمل المسؤولية الأساسية عن غيابها، دون أن يعفي ذلك حركة حماس، في مسؤوليتها عن استفرادها بإدارة قطاع غزة، وعدم تمكينها حتى الفصائل المقربة منها من المشاركة في القرار.

وفي الحقيقة فإن الواقع الفلسطيني الراهن، في مشكلاته وتعقيداته وتحدياته، يطرح أسئلة عديدة، ويفترض صوغ إجابات موحدة عليها، بقدر الإمكان.

ففيما يتعلق بتداعيات الحرب على قطاع غزة، مثلا، فإن الفلسطينيين يقفون في مواجهة عدة استحقاقات أو تحديات، أولها مواجهة تبعات الكارثة الإنسانية التي حلت بالفلسطينيين في القطاع، وقوامها تدبير إمكانيات العيش لعدد كبير من عائلات الشهداء والجرحى والمعوقين والمشردين والذين دمرت ممتلكاتهم. وثانيها إعادة إعمار ما دمرته الحرب، من بيوت ومنشآت خاصة وعامة وبني تحتية، وضمنه تأمين السكن لحوالي نصف مليون نازح لم يعد لهم بيت يؤويهم.

وثالثها بذل الجهود لرفع الحصار من كل الجوانب عن قطاع غزة، وصولا إلى تكريس ممر آمن بين الضفة وغزة، لتأكيد الوحدة الإقليمية بين طرفي الكيان الفلسطيني. ورابعها استكمال المفاوضات أو الترتيبات اللازمة لإنشاء ميناء ومطار في غزة، وهو جهد يتطلب وحدة موقف لخلق حالة ضغط دولية وعربية على إسرائيل لتمرير هذين المطلبين. وخامسها مواصلة الجهود الرامية لإنهاء الانقسام ولإعادة الوحدة إلى الكيان السياسي الفلسطيني، وهذا على صعيدي السلطة والمنظمة، وباعتبارهما من متطلبات حل مشكلات قطاع غزة، ومن متطلبات تطوير الحالة الوطنية الفلسطينية.

بيد أن مصير كل هذه الاستحقاقات أو التحديات يرتبط بالتوافق على تحديد مكانة قطاع غزة في إطار العملية الوطنية الفلسطينية، أو يتوقف على ما يريده الفلسطينيون منه، الأمر الذي يتطلب المبادرة إلى فتح باب النقاش حول هذا الأمر لخلق الإجماع المناسب بهذا الشأن، لأن لكل خيار حساباته ومتطلباته وتبعاته.

مثلا، هل المطلوب اعتبار قطاع غزة قاعدة للمقاومة المسلحة؟ وهل هو قادر على ذلك فعلا؟ أو بشكل اخر هل يمكن تحميل قطاع غزة عبء تحرير فلسطين أو تحرير الضفة؟ وهل يستطيع تحمل ذلك حقا؟ أم هل بالإمكان اعتبار القطاع بمثابة منطقة محررة، بحيث تصبح بمثابة ذخر للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، يتركز فيها العمل على بناء المجتمع، ويقوم فيها الفلسطينيون بتقديم نموذجهم عن الدولة، وبناء مؤسساتهم الاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية. أم ينبغي إبقاء وضع غزة على ما هو عليه. هذه كلها تساؤلات ينبغي الحسم فيها في سياق الحديث عن الإعمار.

عدا ذلك، أي عدا تحديد ما يريدونه من غزة، ما زال الفلسطينيون يقفون في مواجهة مخاطر واستحقاقات وتحديات أساسية، تتطلب منهم التوجه بمسؤولية أولا نحو إيجاد توافقات على إستراتيجية سياسية، تحدد خياراتهم الوطنية، وما يريدونه في هذه المرحلة، بناء على إمكاناتهم، وبناء على معطيات الوضعين الدولي والعربي، سواء كان تحرير فلسطين، أو دولة واحدة ديمقراطية علمانية، أو دولة في الضفة والقطاع، أو البقاء في الوضع الراهن، هذا أولا.

لا مناص للفلسطينيين من التوافق على كيانية سياسية لهم، تعبر عن إجماعهم، وتعزز وحدتهم، وتستثمر طاقاتهم، ولا شك أن منظمة التحرير هي الأنسب لذلك، شرط إعادة بنائها على قواعد مؤسسية وديمقراطية وتمثيلية ونضالية

ثانيا تبعا للهدف المنشود والمتفق عليه، ينبغي التوافق على أشكال النضال المناسبة والممكنة، أو الإستراتيجية الكفاحية، التي تخدم تحقيق الهدف المتفق عليه، سواء كانت مفاوضة أو انتفاضة أو مقاومة شعبية أو مقاومة مسلحة، مقاومة بالصواريخ أو بغيرها.

ثالثا لا مناص للفلسطينيين من التوافق على كيانية سياسية لهم، تعبر عن إجماعهم، وتعزز وحدتهم، وتستثمر طاقاتهم، ولا شك أن منظمة التحرير هي الأنسب لذلك، شرط إعادة بنائها على قواعد مؤسسية وديمقراطية وتمثيلية ونضالية، بعيدا عن المحاصصة الفصائلية، وشرط إنهاء التماهي بينها وبين السلطة، والفصل بين رئاسة المنظمة ورئاسة السلطة، إذ إن عدم التمييز بين هذين الكيانين أضر بهما، وأدى إلى تهميش المنظمة.

كل المطلوب من حركتي فتح وحماس الأخذ بعين الاعتبار هذه الاستحقاقات، ووضع الخلافات الفصائلية الضيقة جانبا، وتغليب مصلحة الشعب على مصالحها السلطوية، مع حق كل منهما بالدفاع عن مشروعه، بالوسائل المناسبة، التي لا تضر بوحدة الفلسطينيين ولا بسلامة طريقهم الكفاحي لتحقيق أهدافهم. وفي الواقع يمكن للخلافات أن تستمر على قاعدة الوحدة، وعلى قاعدة التكامل، وربما على قاعدة الشراكة، كما أسلفنا، أقله في بناء المجتمع الفلسطيني وفي التصدي للتحديات الإسرائيلية.

وعلى أية حال، لا يمكن للفلسطينيين تعزيز وضعهم، واستثمار تضحياتهم وبطولاتهم دون إحداث تغييرات في عقلياتهم السياسية، وتعريفهم لأهدافهم ولوسائل كفاحهم، ودون إعادة بناء كياناتهم السياسية، وبالتأكيد لا يمكن لهم ذلك من دون توفر الظروف الدولية والعربية، المناسبة لهم لتثمير معاناتهم ونضالاتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.