الحسابات الإسرائيلية في المشهد السوري

الحسابات الإسرائيلية في المشهد السوري . الكاتب :أكرم البني

undefined
 
ثلاثة أهداف متضافرة يمكن من قناتها النظر إلى محتوى السياسة الإسرائيلية تجاه الصراع المحتدم في سوريا، لا يخفيها تصنع حكومة تل أبيب عدم الاكتراث وادعاء الحياد، ولا تصريحات بعض قادتها عن فقدان النظام لشرعيته، وأنه غير قادر بعد الذي جرى على الحكم.

أولها، تغذية الصراع الداخلي السوري حتى يستمر في استنزاف أطرافه ويمتص طاقة المجتمع ويأخذه نحو المزيد من التفسخ والاهتراء كي تأمن إسرائيل جانبه عشرات السنين القادمات.

والتعويل تاليا على أن يغرق السوريون حتى آذانهم فيما حصل من خراب ودمار وأيضا بصراعاتهم وتشرذماتهم الداخلية، كي ينسوا الجولان المحتل ويغدو مصيره كمصير لواء إسكندرون، وبما يفضي إلى إزاحة الدور الإقليمي لدمشق وإعادة البلاد إلى ماضيها كميدان لصراعات إقليمية وعالمية بعد أن تمكنت لعقود من لعب دور مؤثر ومقرر في الساحة المشرقية، من خلال التحكم بلبنان أو اللعب بالورقة الفلسطينية أو الضغط كرديا على الجارة تركيا أو إرباك الاحتلال الأميركي في العراق.

تهدف إسرائيل لتغذية الصراع الداخلي السوري حتى يستمر في استنزاف أطرافه ويمتص طاقة المجتمع ويأخذه نحو المزيد من التفسخ والاهتراء كي تأمن إسرائيل جانبه عشرات السنين

إن إسرائيل التي واجهت بالحديد والنار محاولات بعض الناشطين الفلسطينيين والسوريين اختراق الخط الفاصل في ذكرى هزيمة يونيو/حزيران العام الماضي، وبادرت لبناء سور عازل يمتد على طول الجبهة.

وكان وزير الدفاع الإسرائيلي قال وهو يتابع بعض المعارك بين قوات النظام ومجموعات "الجيش الحر" على مشارف هضبة الجولان: إن ما يحصل لا يقدر بثمن.

هي إسرائيل التي راقبت عن كثب استيلاء مجموعات من "الجيش الحر" على مناطق وقرى في الجانب المقابل من الهضبة المحتلة وسهلت معالجة بعض الجرحى والمصابين، وهي ذاتها التي غضت الطرف عن القصف بالطائرات والاختراقات بالأسلحة الثقيلة التي قامت بها قوات النظام في مدينة درعا مع بداية الثورة، ثم سمحت بدخول الدبابات النظامية إلى معبر القنيطرة، لإعاقة سيطرة "الجيش الحر" عليه، متغافلة عمدا عن الحظر المفروض على تحليق الطيران أو دخول السلاح الثقيل إلى المناطق الحدودية تبعا لاتفاقية فصل القوات الموقعة بين الجانبين في عام 1974.

والحال، أن ثمة عداء أصيلا عند حكام تل أبيب لقيام نظام ديمقراطي في دمشق يمكن أن يحدث تبدلا إستراتيجيا في الوضع القائم ويحمل فرصة النهوض بالبلاد وتعزيز قدرتها ومكانتها.

بل المعروف أن لإسرائيل مصلحة عتيقة وعميقة في استمرار الاستبداد والفساد كوسيلة حكم في سوريا بما يلجم حضور المجتمع الحي في المشهد.

ولعلها واحدة من أمنياتها أن يتفاقم الصراع ومنطق العنف هناك وأن يستمر اللجوء إلى حلول قمعية ودموية بدل الدخول في مفاوضات والتوصل إلى حلول سياسية تضمن إصلاحات حقيقية وشاملة، ورهانها دائما أن تنحدر البلاد إلى حالة من الاقتتال الطائفي المزمن وإلى مزيد من التشرذم عوض أن تتحول إلى نموذج للنضال من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية.

والهدف الثاني، تكثفه رغبة دفينة في بقاء النظام السوري بصفته نظاما مجربا حافظ على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، ويسهل التوصل معه إلى تفاهمات بشأن القضايا الأكثر حساسية، حتى وإن بدت مواقفه المعلنة والرسمية غير ذلك.

والواقع أن هذه الرغبة قديمة لم تضعفها الاشتباكات والمعارك التي اشتعلت بينهما بالأصالة مرة، في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وبالوكالة مرات في جنوب لبنان أعوام 1978، و1982، و1996، و2006 وفي غزة 2008، و2012 وأكدتها إعلانات تل أبيب المعروفة في أزمات سورية عديدة، عن ضرورة الحفاظ على السلطة القائمة كخيار أفضل، على أن تبقى ضعيفة ومنهكة من أجل لجم اندفاعاتها الإقليمية المؤذية وفرص مساندتها للقوى الفلسطينية واللبنانية المناهضة للكيان الصهيوني.

ويرجح ألا تتبدل هذه الرغبة إلا في حال تيقنت إسرائيل من قدرة حلفائها الغربيين على التحكم بعملية التغيير في سوريا والسيطرة على مجرياتها بما في ذلك ضمان حكومة انتقالية تقودها معارضة معتدلة، تنشغل بأزماتها وبإعادة إعمار ما تخرب، وغير مهتمة بفتح ملف الجولان المحتل.

والحال، أن إسرائيل التي لا تخشى لومة لائم حين تعلن صراحة أنها تميل إلى تمكين النظام القائم وتخشى من وصول الإسلام السياسي إلى سدة السلطة ومن انتعاش التيارات الأصولية والجهادية هناك وما يمكن أن يحمله ذلك من تهديد لأمنها واستقرارها، هي إسرائيل ذاتها التي لا تتأخر في الرد على أية مصادر للنيران، يطلقها وإن خطأ، الجانب الآخر من الحدود السورية.

وقد وجهت ضربات جوية متكررة ضد أهداف عسكرية في العمق السوري، أهمها ضد موقع الكبر القريب من دير الزور أواخر عام 2008، إلى أن طالت طائراتها منذ شهور، مباني ومنشآت هامة في ريف دمشق، ثم بعض المواقع في الساحل السوري، بهدف معلن هو منع وصول أسلحة متطورة إلى حزب الله قد تبدل الستاتيكو القائم، وربما بهدف مستتر هو تدمير بعض أماكن وجود الأسلحة الإستراتيجية.

ثم إن إسرائيل التي تعرض بشكل فضائحي الانتهاكات والارتكابات المروعة التي تجري في سوريا، ويشاع أنها قدمت تقارير توثق استخدام أسلحة محظورة ضد المدنيين في بعض المناطق، ثم معلومات استخباراتية توضح مسؤولية استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية، هي إسرائيل نفسها التي بذلت ولا تزال تبذل جهودا نوعية عبر النصائح والتحذيرات كي لا يسمح بتغيير نظام وافق على تسليم مخزونه الكيميائي.

ثمة عداء أصيل عند حكام تل أبيب لقيام نظام ديمقراطي في دمشق يمكن أن يحدث تبدلا إستراتيجيا في الوضع القائم ويحمل فرصة النهوض بالبلاد وتعزيز قدرتها ومكانتها

وقامت بذلك مرة عبر تشجيع الشرق كالاتحاد السوفياتي والصين على التشدد في دعمه ورد خسائره، ومرة عبر الضغوط كي تمنع الغرب من الاندفاع نحو تقديم دعم عسكري نوعي للمعارضة السورية يمكنه تعديل موازين القوى القائمة، معتمدة في ذلك على اللوبي اليهودي الحاضر ليس فقط في واشنطن والعواصم الأوروبية المؤثرة، وإنما الموجود أيضا في موسكو.

وقد تنامى وزن هذا اللوبي بفعل التشابك مع حوالي مليوني يهودي من أصول روسية هاجروا إلى إسرائيل وبات دوره مؤثرا على قرارات الكرملين المتعلقة بالمنطقة والحدث السوري.

ويذهب البعض إلى إرجاع سبب تشدد قيادة الكرملين في سوريا مقارنة مع مرونتها اللافتة في ليبيا، إلى خدمة السياسة الصهيونية أكثر من الدفاع عن مصالح روسيا الخاصة في المشرق العربي، أو إلى اعتبار الحسابات الإسرائيلية أشبه بالقطبة المخفية فيما نشهده من تبادل أدوار وتناغم بين واشنطن وموسكو في معالجة الأزمة السورية.

والقصد أن لقادة تل أبيب كلمة قوية حول مستقبل الأوضاع في بلد يجاورهم ويحتلون جزءا من أرضه، ولهم الأولوية، عند الغرب والشرق، في تحديد ما يمكن أن يترتب على أي تغيير في سوريا على مصالح دولتهم وأمنها.

وكلنا يتذكر، المواقف المثيرة لإيهود باراك، إن في تحذير الكرملين من مخاطر انتصار الثورة على أمن شعبه، وإن في مطالبة البيت الأبيض بتخفيف الضغط على النظام السوري وتركه لشأنه.

وما يعزز هذا الموقف إدراك قادة إسرائيل أن ميل الثورات العربية هو في محصلته معادٍ لسياساتها في فلسطين والمنطقة، والمغزى حين يكون موقف إسرائيل ومصلحتها ضد التغيير في سوريا، حتى لو أعلن بعض مسؤوليها عكس ذلك، يعني أن هناك موقفا دوليا لا يمكنه القفز فوق هموم الأمن الصهيوني وحساباته الإستراتيجية.

أما الهدف الثالث فهو الفرصة التي لن تفوتها حكومة تل أبيب في استثمار الصراع السوري لاستنزاف خصومها الإقليميين وإضعافهم ماديا وسياسيا، كإيران وتركيا والدول العربية، وقد بدأت جميعها، بدرجات متفاوتة، الخوض في المستنقع السوري.

ويسأل سائل، ألم يفض التورط الإيراني في حرب الاستنزاف السورية إلى إضعاف طهران وإكراهها على التنازل عما كانت ترفضه والإذعان في مؤتمر جنيف للشروط التي وضعها الغرب وروسيا لمراقبة تخصيب اليورانيوم، لتثبت الأيام أن التهديدات الإيرانية بمسح إسرائيل عن الخارطة ليست سوى تهديدات خلبية لا أساس لها في الواقع؟

وأيضا ألم يفض الولوج التركي في الحدث السوري إلى أعباء وتفاعلات داخلية بدأت تضعف حكومة أردوغان وتحسر طموحها الإقليمي، ومكنت تل أبيب من إفشال محاولاتها ركوب الموجة الفلسطينية لكسب تعاطف الشعوب العربية، محاولات وصلت أوجها بالانسحاب الاحتجاجي لأردوغان من اللقاء مع شمعون بيريز في مؤتمر دافوس عام 2009، ثم تشدد أنقرة اللافت ضد مصادرة تل أبيب بعض الإمدادات الأهلية التركية التي كانت تحاول الوصول إلى غزة، مما أدى إلى سحب السفراء بين البلدين.

وفي المقابل، ثمة غرض إسرائيلي يبدو أشبه بالحسابات البعيدة والإستراتيجية، يندر الحديث عنه ويعتبره البعض انجرارا إلى ميدان التحليلات التآمرية، هو مصلحة حكومة تل أبيب المضمرة في الإبقاء على محور "المقاومة والممانعة" الذي تقوده إيران، لكن ضعيفا، كي تستمر هذه الفزاعة في تهديد العرب، وتشغلهم عنها.

وهذا ما يفسر المماطلة الإسرائيلية في التعامل مع الملف النووي الإيراني برغم التهديدات النارية، ويفسر من جانب آخر صمتها عن الدخول الكثيف لحزب الله في الصراع السوري.

فلا ضير أن يستفيد النظام من دعم حلفائه على أساس مذهبي، لتسعير الصراع الطائفي إلى أبعد مدى، فضلا عن الفائدة بأن يفضي ذلك إلى ضرب أهم كوادره ومقاتليه والإجهاز على ما تبقى من سمعته السياسية كحزب مقاوم.

أحيانا يلقى باللوم على إسرائيل في كل أزمة أو محنة نمر بها، ورغم وضوح دوافع الثورة السورية ووضوح أسباب العنف السلطوي المفرط الذي قوبلت به، تشي أحاديث الكثيرين باتهامات للعدو الصهيوني بأن له يد بما جرى

وبهذه الأهداف الثلاثة تعالج تل أبيب مخاوفها من تطور غير محمود للثورة السورية ومن احتمال سقوط النظام ووصول إسلاميين إلى الحكم، طالما توسلوا في تعبئتهم، شعارات مناهضة الصهيونية وتحرير الجولان والمقدسات في فلسطين.

وهي مخاوف تضاعفت اليوم مع وصول الإسلام السياسي إلى السلطة في عدد من البلدان العربية ومع التحسب الشديد من احتمال تشكل طوق خطير من قوى وأنظمة جديدة يخلقها الربيع العربي، إسلامية كانت أم غير إسلامية، تحيط بها، وتكن لها عداء مستحكما.

والحال، أنه لم يعد يقنع أحدا القول بأن إسرائيل لا تملك رؤية أو حسابات خاصة في البيدر السوري، مثلما لم يعد مقبولا تبرير غموض مواقفها بأنها لا تمتلك أريحية الاحتكاك العلني والصريح مع أحداث داخلية تتفاقم في ساحة العدو.

ثمة في الحقيقة ما يصح تسميته بنهج خاص ومضمر لحكومة تل أبيب في التعاطي مع الحالة السورية يتقصد علانية الحياد وعدم الاكتراث، ويتوسل مواقف مبهمة ومتناقضة وضغوطا مختلفة على حلفائه في الغرب والشرق، لترك باب الصراع مفتوحا وتغذية استمراره بما يفضي إلى استنزاف غالبية القوى المعادية له.

عادة ما يوضع اللوم على إسرائيل في كل أزمة أو محنة وطنية نمر بها، وبرغم وضوح دوافع الثورة السورية ووضوح أسباب العنف السلطوي المفرط الذي قوبلت به، تشي أحاديث الكثيرين باتهامات للعدو الصهيوني بأن له أصابع خفية فيما يحصل.

وتسمع البعض يردد العبارة النمطية، بأن ما يتعرض له الشعب السوري هو مؤامرة تديرها إسرائيل، ربما لإحساسهم بأن تل أبيب تقف وراء المواقف السلبية للغرب والمجتمع الدولي من الانتهاكات المروعة بحق المدنيين السوريين، وربما لأن إسرائيل تبدو الرابح الأكبر من رحى العنف والفتك والتدمير التي تطحن البلاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.