مؤتمر جنيف2 ليس حلا بل فخ سياسي

مؤتمر جنيف2 ليس حلا بل فخ سياسي - فواز تللو - الذهاب إلى جنيف2 وفق الشروط والظروف الحالية خطيئة سياسية كبيرة كونه يثبت شرعية النظام وشرعية الأسد كشريك أساسي في سوريا المستقبل

undefined

النظام السوري -الذي يتحرك بمركزية سياسية وعسكرية وإعلامية باتت إيران هي من تقودها- يدرك ويتعامل مع مؤتمر جنيف1 ومن بعده جنيف2 كمناورة سياسية ليس إلا.

وتدعم موقفه ذاك رؤية أميركية لم تكن يوما قريبة من أهداف الثورة، لكنها منذ أشهر وبعد أن زار وزير الخارجية الأميركي جون كيري موسكو اقتربت كثيرا من الرؤية الروسية القريبة جدا بدورها من موقف النظام السوري.

لم ألتقِ منذ عامين مسؤولا غربيا إلا ونصحني بالتحدث مع الروس و"إقناعهم" بتغيير موقفهم، وكان جوابي دائما بأنهم يبحثون عن ثمن لبيع النظام، ثمن يقبضونه خارج سوريا عبر محاولة استعادة دورهم كقوة عظمى وفق الأحلام الإمبراطورية التي يحملها بوتن، وهو ثمن بيد الغرب دفعه لا المعارضة السورية التي تراكضت قبل عام وما زالت للقاء الروس وإعطائهم الضمانات (في ما لا يملكون أصلا) بقاعدتهم البحرية الثانوية، ومصير أرثوذوكس سوريا وكأن رجل مخابرات كي جي بي السوفياتية لا يبرح كنيسته.

أما الغرب فرفض إعطاء الروس هذا الثمن مع توافق ضمني كبير مع الموقف الروسي وصل إلى شبه تطابق بعد الانزياح الأميركي الأخير، كما استمر (الغرب) في تسويق نفسه كصديق للمعارضة جارا إياها إلى فخ المفاوضات تطبيقا لرؤيته المتمثلة بـ"حل سياسي يتوافق عليه الطرفان مع المحافظة على مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسستان الأمنية والعسكرية".

الجديد اليوم أن  الأميركيين الذين كانوا "يأملون" في خروج الأسد من الصفقة
باتوا اليوم كالروس 
 يرغبون في إعادة إنتاجه ولو مرحليا مع قناعتهم التامة منذ اليوم الأول بضرورة إعادة إنتاج نظام حكم الأقلية العلوية

وهذا ما سمعته من الأميركيين بوضوح منذ عامين، وهو ما أسمعه الأميركيون بوضوح للمعارضات، وشكل الائتلاف الوطني أساسا لتنفيذه (أي الحل السياسي وفق هذه الرؤية) وقام السفير الأميركي فورد بإبلاغه مباشرة لمعظم الأعضاء "المقترحين" للائتلاف قبيل تشكيله، ووافق من قابلهم على الرؤية للحل السياسي باعتبارها الحل "الوحيد والممكن" في رفض ضمني للحسم العسكري ومستلزماته.

وقد أبلغني بما سبق أحد كبار الدبلوماسيين الأميركيين السابقين بعد أسبوع من تشكيل الائتلاف الوطني، وجاءت الشواهد والتحليلات لتثبت صحة كل ذلك، رؤية أميركية واضحة، جوهرها المحافظة على حكم الأقلية العلوية على الدولة السورية التي احتلتها قبل نصف قرن، وذلك عبر الحفاظ على سيطرتها على المؤسسات الأمنية والعسكرية والاكتفاء "بإصلاحها" تدريجيا أثناء فترة انتقالية مفتوحة زمنيا.

والجديد اليوم أن الأميركيين -الذين كانوا "يأملون" في خروج بشار الأسد من الصفقة قبل أو أثناء عقدها- باتوا اليوم كالروس يرغبون في إعادة إنتاجه ولو مرحليا مع قناعتهم التامة منذ اليوم الأول بضرورة إعادة إنتاج نظام حكم الأقلية العلوية، والحجة "مكافحة الإرهاب"، ورعبهم من انهيار النظام فيما لو تمت ممارسة الضغط بأي طريقة على رأس النظام للمغادرة.

ما سبق ذكره ليس جديدا، وذكرت به بشكل شبه يومي منذ ما يقارب العامين بعد أول اجتماع لأصدقاء سوريا في تونس، المشكلة كانت دائما في الخداع الذي مارسته المعارضات لتورية الأمر، وهي سياسة طبعت كل من تم قبوله في "هيئات المعارضة" بهدف زرع الأوهام بشأن الدعم الغربي (ككذبة تسليح المعارضة) بهدف استجرار تفويض سياسي من الثوار المقاتلين مع أن الغرب لم يكذب يوما في ما يطرح وإن تعمد المراوغة وعدم الوضوح في كثير من الأحيان.

وآخر هذه المراوغات الغربية وتكتم المعارضات هو ما قد يؤدي له مؤتمر جنيف2، فالغرب (وأعني به الأميركيين وخلفهم الأوروبيون) أطلق تصريحات مفادها أن "الأسد فقد شرعيته، ولا يرون له دورا في المستقبل".

المعارضات بدورها -وبعد سلسلة من الضمانات والشروط كان آخرها استجداء فاشل للنظام فقط لإطلاق سراح بعض النساء والأطفال (وهو ما سيفعله بعد جمعهم من الطرقات قبيل المفاوضات)- تراجعت لتكتفي بالتصريحات الغربية الشفهية المراوغة كضمانة.

وتجنبا للإحراج أمام السوريين (ثوارا ولاجئين) وكل من يؤيد إسقاط النظام بدأت المعارضات بالترويج للنكتة الأخيرة "لن نخسر شيئا إن ذهبنا وفشلت مفاوضات جنيف2" وليطلق رئيس حكومة الائتلاف مؤخرا تصريحا يقول فيه إنه "يثق بأقوال السفير الأميركي فورد".

ومن الخطأ أن تنظر المعارضات إلى مفاوضات جنيف2 كحل ممكن بدل أن تنظر لها كمناورة سياسية تماما كما يفعل النظام وحلفاؤه غير المستعدين حتى لتقاسم السلطة أو تقديم أي تنازل يمس سلطة الطائفة العلوية أو محاسبة القتلة أو المساس بوضعية آل الأسد في السلطة.

فمن السذاجة تصديق أن بشار سيذهب إلى جنيف لتسليم السلطة ورقبته إلى أي حكومة ودون أي موقف دولي يوافق عليه الروس بضغط غربي ويصدر بقرار أممي ملزم، فذلك إن حصل فسيخرج بشار من العملية قبل بدئها، وهو ما لا يرغب فيه الغرب خوفا من انهيار النظام العلوي.

بالمقابل، تستخدم المعارضات معزوفة "وقف القتل ومعاناة السوريين" لتبرير ذهابها لاعبة على وتر مأساة ومعاناة السوريين المتعبين بعد ثلاث سنوات من الضغوط الوحشية.

ولكل معارض هدفه، فذاك الواهم بأن رأس النظام سيرق قلبه وذاك المستسلم وآخر "أقلوي" يسعى إلى إعادة إنتاج تحالف أقليات مصان دوليا يحكم سوريا ويحرم الأكثرية السنية من حقوقها كما يحدث منذ نصف قرن، لكن هذه المرة بلبوس ديمقراطي.

وآخرون لا رأي لهم، بل هم مجرد ركاب في "قطار السلطة السريع" الذي قدمته هيئات المعارضات، لكن لماذا لا تتمسك المعارضة بشروطها بإطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار الإنساني ووقف إطلاق النار كشروط مسبقة لأي تفاوض؟

خطأ آخر يتمثل في عدم إدراك أن القوة العسكرية على الأرض هي من تحدد سلفا نتائج أي مفاوضات، والكارثة هنا ليست في رجحان كفة النظام، فهذه كذبة كبيرة، فأكثر من نصف سوريا محرر بثمن باهظ، والنظام بالمحصلة يخسر تدريجيا وإن كان ببطء وثمن باهظ، الكارثة في عدم الاستناد إلى هذا الإنجاز والعمل على دعمه بكل الوسائل بما في ذلك اشتراط تسليح حقيقي وكبير ونوعي وتنفيذه قبل الذهاب إلى أي مفاوضات.

الذهاب إلى جنيف2 وفق الشروط والظروف الحالية أيضا "خطيئة" سياسية كبيرة كونه يثبت شرعية النظام وشرعية بشار الأسد كشريك أساسي في سوريا المستقبل، وإلا فكيف تحاور من لا تعترف بشرعيته الآن أو مستقبلا! وكأن الثورة عادت إلى نقطة الصفر بعد كل هذه التضحيات.

من السذاجة تصديق أن بشار سيذهب إلى جنيف لتسليم سلطته ورقبته إلى أي حكومة ودون أي موقف دولي يوافق عليه الروس بضغط غربي ويصدر بقرار أممي ملزم

مع الأسف، المعارضات ترمي خلفها كل تضحيات السوريين وأهداف الثورة بذهابها إلى جنيف بشروطه وأطرافه الحالية دون الحصول على أي إنجاز أو اشتراط واحد مما ذكر قبل المفاوضات.

فذهابها إقرار ضمني بانتهاء الخيار العسكري، وهذا أيضا خاطئ مضلل، بل ومدمر للثورة لأنه الخيار الوحيد المتاح حاليا ناهيك عن أنه الخيار الوحيد للنظام حتى اللحظة، ولن يتغير إلا والنظام على وشك السقوط وعندها لا قيمة لتغير موقفه.

فالمعارضات تذهب اليوم لمفاوضات جنيف2 معترفة ضمنا بشرعية النظام ورئيسه، وكلها أوراق مهمة رميت أرضا بدل أن تستخدم للتأثير على طاولة المفاوضات قبل عقدها.

المعارضات تقوم اليوم بالتضحية بكل ما أنجز بثمن كبير دفعه السوريون، ثمن لم تدفعه الأغلبية الساحقة ممن ستمثل الثورة في جنيف أو ممن تنخرط في هيئات المعارضات.

يأتي ذلك بسبب سوء إدارة المعارضات لملف الثورة وغياب الرؤية وقلة الخبرة بأحسن الأحوال أو نتيجة استتباعها وأحيانا اختراقها من قبل التيار الرمادي أو الأقلوي وأنصارهما النادرين.

ومع الأسف يساهم في ذلك أيضا -بشكل كبير- غياب السياسة والسياسيين الحقيقيين كشركاء مكملين للقادة العسكريين على الأرض، هؤلاء القادة العسكريون الذين يتصرفون "بدروشة" سياسية غير مدركين حقول الألغام التي يخوضون فيها وغير مدركين حاجتهم للسياسة والسياسيين الخبراء الشرفاء.

ولذلك تراهم "يتشاطرون" في الوقت الذي يجري فيه التلاعب بهم من قبل المعارضات والأطراف المعنية الدولية مثل المحاولات الأخيرة للسفير فورد لاستدراجهم للمفاوضات الحالية المترافقة بجهوده هو والمعارضات لسحب تفويض منهم، أو حتى إرسال مندوبيهم لطاولة المفاوضات.

ولكن أي طاولة مفاوضات؟ هي تلك الطاولة التي سيجري إغراقها بعدد كبير ممن "يمثلون كل أطياف المعارضة" كما يزعم الرعاة الدوليون والإبراهيمي، مع أنهم كانوا قد اعترفوا سابقا بالائتلاف الوطني كممثل وحيد للثورة بل للشعب السوري دون أن ينتج عن ذلك أي ترجمة قانونية سياسية باستثناء الضغط على الائتلاف لتقديم التنازلات باسم الثورة السورية.

نعم المطلوب إغراق طاولة المفاوضات بمعارضات في معظمها ليس فيها من المعارضة إلا اسمها الذي تتعيش به على موائد السياسة أو تخترق به الثورة كطابور خامس يحمل رؤى النظام أو يقترب منها، طبعا إلى جانب معارضات تقترب من الثورة قلبا، لكنها أساءت لها فعلا نتيجة لأسباب عديدة.

بل سنجد على طاولة المفاوضات بجهة المعارضات شبيحة النظام وحلفاءه كحزب صالح مسلم الكردي الممثل للنسخة السورية لحزب العمال، وكما سمعت من أحد هؤلاء المعارضين "عندما تغلق الأبواب على المتفاوضين فلن تستطيع التفريق بين النظام ومعارضيه"، أي سيختلط الحابل بالنابل ويضيع صوت الثورة في صخب جدال "المعارضات"، بينما النظام يجلس متفرجا.

وهنا أتساءل ترى لماذا قرر الائتلاف التضحية بحصرية تمثيله للثورة التي قاتل من أجلها؟ بل إن بعض أطرافه لا تخفي مشروعها في ضرورة الذهاب بـ"وفد وطني" يرأسه الائتلاف شكلا (كجائزة ترضية) يضم باقي المعارضات التي لم يكن لها يوما علاقة بالثورة، لكنها تضم بعضا من الشركاء السياسيين لبعض أطراف الائتلاف الذين ينسقون معا منذ بداية الثورة بعد أن توزعوا على تنظيمات المعارضات من هيئة التنسيق إلى المنبر الديمقراطي إلى الائتلاف الوطني إلى تيار بناء الدولة.

الذهاب إلى جنيف2 بالظروف الحالية وتمرير الرؤية الأميركية ونجاح المفاوضات وفقها خطيئة كارثية، والفشل المتوقع من المفاوضات كارثة موازية، وتجنب هاتين الكارثتين هو بمقاطعة المؤتمر

أما باقي ركاب الائتلاف والمجلس الوطني فمشغولون بالتمسك بمقاعدهم في "قطار السلطة السريع".

وللعلم قام الإبراهيمي -أثناء الفترة الماضية وبشكل مقصود- باستدعاء شخصيات عديدة في الائتلاف بشكل فردي كل على حدة، وسمع من كل منهم رؤية مختلفة وصلت أحيانا إلى حد التناقض، وهو ما سيجعله يتجه بسرور على ما يبدو إلى تحديد أسماء الحضور من الائتلاف بناء على هذه التناقضات بغض النظر عما يشيعه البعض من أن الائتلاف سيحدد "مبعوثيه" بنفسه، فهذا القرار سيؤخذ في مكان آخر.

وهكذا "تضيع الطاسة" كما يقول المثل العامي الشامي، ومرة أخرى من قال إن التفويض الثوري الذي أعطاه الثوار للائتلاف يمكن تداوله كصكوك السندات في بازار بيع الثورة السورية؟

ترى ألم يكن من الأجدى اشتراطهم لحصرية التمثيل، فالتنظيمات المعارضة الأخرى لم يعترف بها أحد من الثورة في أي مرحلة.

الذهاب إلى جنيف2 وفق الظروف والشروط الحالية وتمرير الرؤية الأميركية ونجاح المفاوضات وفقها خطيئة كارثية، والفشل المتوقع من المفاوضات كارثة موازية، وتجنب هاتين الكارثتين هو بمقاطعة المؤتمر بانتظار تغيير شروطه وفق ما ذكر.

أما خطيئة الخطايا فتكمن في تصوير الذهاب إلى جنيف2 بمحاولة لن نخسر شيئا إن فشل، وسيعود كل إلى موقعه مع أن النتائج ستكون أيضا كارثية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.