في الردّة المدنية للعلمانيين العرب (2)

في الردّةِ المدنية للعلمانيين العرب (2) . الكاتب :مهنا الحبيل

undefined

– أمة القوميين أم أمة العرب؟
– المعالجة الخاطئة للقوميين
– المسار الجديد المقترح للعلمانيين

حين نعود اليوم لاستكمال قراءة موقف أجنحة عديدة في فكر العلمانيين العرب وتياراتهم المتعددة، الذي قاد إلى نقض خلاصات توافقات الربيع العربي في رفض الانقلابات العسكرية واستبداد سلطة القمع وإسقاط الحريات وتثبيت كفاح الشعوب الدستوري وتنظيم الصراع السياسي وفقا لقاعدة التصويت الشعبي الحر وميثاق الحياة المدنية الدستورية، كما جرى في مصر، فسنلاحظ أن آثار هذا الموقف ممتدة أيضا إلى تونس.

ورغم الاختلاف الكبير في نموذج الشراكة السياسية بعد الربيع التونسي، حيث رئاسة البرلمان لدى الشيوعيين ورئاسة الجمهورية لدى يسار الوسط، وتشكيلة المجلس التأسيسي متعددة، وتشارك النهضة في حكومتها شخصيات من الترويكا؛ رغم كل ذلك فإن التصعيد في تونس مستمر نحو استنساخ حركة الجنرال السيسي، وهذه الأجواء أيضا تمتد على ساحة الوطن العربي من اصطفاف نُخب علمانية لدعم هذا التوجه أو التحضير له بنماذج مختلفة بحسب ظروف كل قطر.

وهو ما يؤكّد أهمية طرح هذا الملف للحوار بين مسارات الفكر العربي كرؤى نقدية تُقبل أو تناقش في حركة الوعي العربي الجديد الذي يسعى لفهم واقع الحراك الثقافي العربي وتبنيه لمصطلحات أو مفاهيم مهمة، وما يجري من اصطدام سياسي عنيف على الأرض، الخاسر فيه هو حرية الشعوب وقرارها المستقل الذي لطالما خشيَته الأطراف الدولية وتقاطعات المحاور الإقليمية، لأنه سيؤدي إلى صناعة استقلال قوي كامل للوطن العربي من خلال مناعة الحرية الشعبية للدولة الوطنية.

رغم الاختلاف الكبير في نموذج الشراكة السياسية بتونس، فإن التصعيد مستمر لاستنساخ تجربة السيسي، كما تمتد اصطفافات النخب العلمانية على ساحة الوطن العربي لدعم هذا التوجه أو التحضير له بنماذج مختلفة بحسب ظروف كل قطر

أمة القوميين أم أمة العرب؟
القاعدة القومية هي المشترك الذي طرحته التيارات والأحزاب العلمانية المتعددة من يسار وشيوعيين وحتى ليبراليين، فضلا عن القوميين بحكم أنّ هاجس الوحدة وفكرة الأُمة ظلّ هدفا روحياً متفاعلاً في الوجدان العربي لا يمكن أن يُتجاوز، وأن فكرة التقطير (فصل القطر العربي عن الأمة) وإن صعدت في مصر في عهد الرئيس السادات وهي تعود اليوم بعد الانقلاب، لم تكن تصمد إلا في حالات استبداد وضخ إعلامي هائل يحاول إزالة الضمير الأممي من وجدان الشارع، وهو ما يُفسّر الحملة اليوم على الشعب السوري والفلسطيني وحصار غزة.

وهي أيضا فكرة توحّد آمنت بها بعض هذه التيارات بصورة أيديولوجية، أي الرابط الأممي للجغرافيا العربية، لكنّ هذا المفهوم لم يُقعّد في مشروع أمة القوميين على السياق التاريخي الفعلي للمنطقة العربية، وهو أن تشكّل هذه الشعوب وانتقالها من قبائل ليتعارفوا إلى أمّة رسالة لم يكن إلا عبر الرسالة الإسلامية والبعثة المحمدية، كرابط ذاتي وفكري وأممي وكتأسيس حضاري وكانتقال تاريخي للعرب، وليس فقط للعلاقة مع أشقائهم العجم المسلمين.

هذه القضية التاريخية القطعية لم تكن مقبولة لدى الفكرة القومية التي طرحتها العلمانية العربية، بأن الأمة هي توحد لجماعات بشرية لم تُشكل وحدتها الرسالة الإسلامية، إنما يُعتبر الإسلام جزءا تراثيا محدودا، وأن الأصل وجود أمة جامعة طرحها القوميون غير أمة الرسالة.

وبالتالي فإن تجميع هذه الشعوب لا يعترف بأمة العرب ذات الرسالة، وإنما بتجميع حشودهم الجغرافية والبشرية أمام مشروع الاحتلال. ولعل دوافع ذلك هو الموقف من الفكرة الإسلامية ونزعة الأيديولوجية العلمانية الحادة التي سادت في أعقاب سقوط السلطنة العثمانية، والتي تقاطعت بالضرورة مع ذات الفكرة الاستعمارية التي لم تقبل بالتعامل مع العرب كأمة رسالة.

وعليه فإن التقاطع الاستعماري القديم مع هذه الفكرة لأمة القوميين قد تكرّس في المشهد الفكري بغض النظر عن النوايا، ولقد كانت الإشكالية القديمة التي دفعت لهذا الموقف هي خشية الحراك العلماني القومي من أن الاعتراف بأمة الرسالة -وهي الحقيقة التاريخية التي لا يُمكن أن يقبل بإلغائها العقل المجرد في فهم تشكل التاريخ الاجتماعي للعرب- سيهيئ الجمهور العربي للعودة لأمة الرسالة، وبالتالي فقدان قدرة التوجيه الفكري له.

إن هذه الإشكالية التاريخية وهي تعود اليوم ظلت ملازمة لذات الحراك العلماني الثقافي في الوطن العربي، خاصة أن أمة القوميين لا تستطيع أن تُنتج من التاريخ العربي المرتبط بالتشريع الإسلامي ما يُمثل قاعدة الفكر الأممي المستقل لرفضها الارتباط به.

وعليه فقد انفتحت على النماذج الأخرى كبديل مطلق في المذهب الاقتصادي الاشتراكي أو في المدارس الفكرية والمعرفية للإنسان وجوديا أو في مشروع الصناعة السياسي للبناء الحديث للحقوق، ولم يكن ذلك الاستنساخ المطلوب معتمدا على فكرة التقدم الحقوقي ووسائط الدولة المدنية الحديثة من حيث البناء الإداري ومفاهيم الحرية التي تحتاجها الأوطان العربية للتقدم، لكن كان هذا الاستنساخ يسعى لتغيير الهوية الفكرية ويدفع للقطيعة مع أمة الرسالة، حتى لا تُهدّد أمة القوميين أو مصالح النخبة العلمانية في الوطن العربي.

وخلال التاريخ العربي الحديث تمثّل هذا المشروع في أحد نموذجين: إما الترسانة العسكرية الحاكمة مباشرة كما جرى في مصر الناصرية، وفي العراق خلال العهد البعثي، وحتى في سوريا في العهد الأول للبعث قبل تحوله طائفيا بتخطيط مسبق، وفي نموذج ناصرية القذافي، وفي اليمن الجنوبي بالشيوعيين والشمالي بالقوميين نسبيا، أو من خلال تشكيل نخبة علمانية فاعلة في مسارات الحكم.

وما قصدناه هنا أن مجمل التجربة للعلمانية العربية الحديثة على المستوى القُطري، أو على مستوى دفع فكرة أمة القوميين كبديل عن أمة الرسالة للعرب التي تحتضن أقلياتها ضمن ثقافتها ومنهجها الأصلي وروحها المدنية الحضارية؛ هذه التجربة فشلت في تحقيق تثبيت ذاتي لهذا البديل كقناعة شعبية جماهيرية تُحتضن في الوطن العربي فتحمي مشاريعها السياسة بإرادة ديمقراطية، ولذلك كانت مرتهنة للآلة العسكرية واستبدادها، أو للنخبة الثقافية ذات النفوذ.
انتهت مراجعات بعض المفكرين المنتسبين للثقافة القومية إلى أن إحدى أبرز أزمات المثقف والعقل العربي هي محاولات تجاوز فكر وحقيقة أمة الرسالة، وأن مصادمة أصل الرسالة باتت جدارا وقف لديه التفكير العربي لأنه يحرث خارج أرضه

وكل ذلك حوّل هذه الكتل إلى مسار انفصالي جديد وخطير، يتمثل في شعورها بفكرة الأقلية الأيديولوجية التي تخشى على مصالحها أو طبيعة حياتها بحجة الحقوق الفردية على مستوى القطر أو عبر فكرة الأمة القومية المشكّلة من أقليات وأيديولوجيات مصالح، وليس أمة الرسالة الجامعة.

ولقد كان الشعور بهذا الاصطدام وأزمته الثقافية العميقة ماثلا في تجارب الحكم من حيث شعور الاستبداد بالعزلة الشعبية، أو مراجعات بعض المفكرين العرب.
 
ففي العراق وبعد انتفاضة الشيعة في الجنوب، شعر الرئيس الراحل صدام حسين بسقوط فكرة أمة القوميين كبديل عن أمة الرسالة وتوجه لمحاولات تصحيح ومصالحة متأخرة، لكنها لم تسعفه أمام القرار الإقليمي الدولي لإسقاطه، والذي ساعده العهد الاستبدادي الدامي للبعثيين.
 
وفي ليبيا حاول القذافي أن يعالج هزيمة الفكرة -التي لها شذوذ إضافي في فكرة الكتاب الأخضر- بمنح ولده سيف الإسلام صلاحيات إعادة بث ما كان يقمعه من فكر أمة الرسالة للخروج من العزلة الشعبية، دون التخلي عن أيٍّ من أركان الاستبداد كمثقف تنفيذي لترسانته الأمنية، وهناك تجارب غيرهم.
 
وفي الساحة الفكرية المنتسبة للثقافة القومية، أفصح محمد جابر الأنصاري المفكر البحريني عن مراجعات في هذا المسار، وكذلك المفكر العربي محمد عابد الجابري، تنتهي إلى أن إحدى أبرز أزمات المثقف والعقل العربي هي محاولات تجاوز فكر وحقيقة أمة الرسالة، وأن مصادمة أصل الرسالة باتت جدارا وقف لديه التفكير العربي لأنه يحرث في خارج أرضه.

المعالجة الخاطئة للقوميين
في هذه الحقبة من مطلع الثمانينيات وحتى الزمن الحاضر، جرت تحولات أخرى لعدد من المثقفين العرب تتجه نحو الاقتران بأمة الرسالة للعرب لا أمة القوميين البديلة.

 
ولكن السياق المركزي للعلمانيين وقاعدة أمة القوميين ظل في موقعه يطرح أفقا نسبيا للتجديد دون التوقف الجاد عند هذه الحقيقة التاريخية بالاعتراف بأمة الرسالة والتعامل الواقعي معها والوصول إلى قواعد مشتركة مع الفكر الإسلامي من حركة الإحياء الإسلامي، وليس بالإقرار بانحرافات الصحوة أو الصراعات الحزبية الإسلامية مع خصومها.

إن تلك المراجعات كانت تكفي لإعطاء فرصة تاريخية لمشاريع وحراك مفكري النهضة من القوميين أو بقية التيارات العلمانية، للعودة إلى مناهج التشريع الإسلامي الأصلية وأصول البناء السياسي كمرجعية ثقافية بإمكان كل عربي أن يتعامل معها، بغض النظر عن الأيديولوجية الشخصية كإيمان بالفكرة العلمانية المطلقة أو لديه تحفظات على نموذج تطبيقي للدين قد يكون تفسيرا غير قطعي أو حكما إسلاميا أصليا، لا يمنع من التعايش معه والقبول بالحياة الوطنية العامة في القطر أو الأمة حين تنتهي إلى خلاصات دستورية تُقلص كثيرا من الخلافات وتضمن الحريات الرئيسية وممانعة الحكم المدني.

 
والذي حصل في بعض المسارات هو العكس، حيث جهد عددٌ من المفكرين أو المثقفين العرب نحو فكرة علمنة بعض الإسلاميين أو لنزع إقرارهم بحق إسقاط أمة الرسالة، وضمهم كمجموعات إلى حلف الأقليات. في حين أن القضية كشفت فيما بعد أن الأزمة ليست في علمنة بعض الإسلاميين لكن في دمقرطة كتلة كبيرة من العلمانيين.
 
وهذا لا يُلغي مشروعية بعض انتقادات التيار العلماني للأخطاء التي ارتكبتها مسارات للعمل الإسلامي، وخاصة عهد الصحوة الذي تنكّب عن مفاهيم حركة النهوض الإسلامي، وواجهها بدلاً من البناء عليها بعد أن بعثها أئمة الإحياء الإسلامي، تلك الحركة المقترنة بالقيم والمعتمدة على نصوص تشريعية لحقوق الفرد والمجتمع والحريات في الوطن العربي.
تتمثل إحدى أهم الإشكاليات في إصرار النخبة العلمانية على اعتبار الديمقراطية المطلقة ذات العمق الفلسفي المعادي للدين التي لها حق نقض التشريع الديني المحكم، هي مخرج الإنقاذ الأخير

لكن ذلك لا يُبرر تصلب قطاع من العلمانيين وخاصة القوميين على تقديس موقعهم الثقافي وتنصيب نظريتهم كجامع شرطي، في حين أن قيم الحريات وتطبيقات الديمقراطية في العمل السياسي والرقابة التشريعية وحق الفرد وحتى في حياة أفراد المجتمع الشخصية وحقوق الأقلية؛ لها عمق تشريعي واسع يجب أن لا يقف عند تفسيرات بعض الفقهاء، بل إن الحياة الشخصية رغم أزمنة استبداد الحكم العباسي أو الأموي كانت تدار عبر أئمة فقه في المجتمع تعطي مساحات أكبر، وتفهما أوسع مما يفرضه بعض الفقهاء اليوم.

المسار الجديد المقترح للعلمانيين
أما الإشكالية الأخيرة فهي إصرار النخبة العلمانية على اعتبار الديمقراطية المطلقة ذات العمق الفلسفي المعادي للدين التي لها حق نقض التشريع الديني المحكم، هي مخرج الإنقاذ الأخير.

وهذه النظرية لم تُناقش أصلا للمقارنة بينها وبين الديمقراطية الوسطية، وهل حققت هي بذاتها فكرة الفلاح الكبرى للشعوب، وإذا كانت الديمقراطية الوسطية التي تعتمد أمة الرسالة تضمن تشريعات ضخمة واسعة لضمان حرية الفرد واستقلال إرادة الشعب، فما الذي يدفع لإلزام الناس باعتناق نقض التشريع الإسلامي؟ وأين موقف الاحترام للغالبية الشعبية هنا؟

إن التيارات العلمانية اليوم، وخاصة القوميين، وأمام هذا الاستثمار الضخم الذي يُنفّذه الاستبداد الجديد باسمها في مشروع نقض الربيع العربي، أمامها تحد تاريخي لإعادة قراءة التاريخ العربي وعمقه الاجتماعي السياسي، والانفتاح على المعاني الراسخة للحريات والتقعيد الدستوري في ذات مسارات التشريع الاسلامي، ليكون ميثاق التوافق العربي متحركا من جانبيه للوصول إلى تثبيت المشروع الدستوري الحقوقي للوطن العربي كعقيدة فكرية لأزمنة الحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.