غرفة الإصغاء (2)

غرفة الإصغاء (2) . الكاتب : توجان فيصل

undefined

أكمل هنا ما بدأته في مقالتي السابقة على هذا الموقع وتحت ذات العنوان. وأبدأ بأهلية من ترأس الوفد الفلسطيني وهو صائب عريقات، ومع رفضي المعروف للخوض في الحياة الخاصة لأي كان، لا أجد مفرا هنا من التوقف عند اعترافات تسيبي ليفني التي تطوعت هي بنشرها، وتحديدا حين فسّرت علاقتها بصائب عريقات ومسؤولين فلسطينيين آخرين بأنه عمل وطني لأجل إسرائيل أفتى بإباحته لها حاخامات إسرائيليون!

فحتى في الغرب الذي يبيح العلاقات خارج إطار الزوجية يختلف الأمر كليا إن تعلق الأمر بسياسي.

وكأمثلة على هذا انسحاب مرشح رئاسي أميركي أعزب عند كشف علاقته بسكرتيرته، وإرغام بول ولفوويتز نائب وزير الدفاع الأميركي الأسبق وأكبر مهندسي حرب احتلال العراق على الاستقالة من منصب مدير البنك الدولي، لأنه أعطى علاوة لعشيقته.

هذا إضافة إلى فضيحة كلينتون لوينسكي التي بالكاد لم تؤُل لمحاكمة الرئيس، وحتما لو كان كلينتون في دورة رئاسته الأولى لاستحال ترشيحه للدورة الثانية.

ومجرد الزواج من أجنبية يُمنع على شاغلي المناصب السياسية والعسكرية، وحتما العلاقة غير المشروعة مع امرأة من دولة معادية وذات دور سياسي كبير وتعترف بأنها أقامت العلاقة لأهداف سياسية، يرقى لدرجة التجسس، فآلاف القضايا ما دون هذا بكثير اعتبرت كذلك.

أما أن تقيم رئيسة فريق مفاوض علاقة معترفا بقصدها السياسي مع كبير مفاوضيها على مصير وطن محتل بكامله، فلا سابقة له في تاريخ البشرية، ويُلزمنا جميعا برفع الكارت الأحمر في وجه السلطة الفلسطينية ورئيس وفدها المفاوض.

أن تقيم رئيسة فريق مفاوض علاقة معترفا بقصدها السياسي مع كبير مفاوضيها على مصير وطن محتل بكامله، لا سابقة له في تاريخ البشرية، ويُلزمنا جميعا برفع الكارت الأحمر في وجه السلطة الفلسطينية ورئيس وفدها المفاوض

في أولى جلسات المفاوضات والتي طلبت ليفني من عريقات التكتم على مجرياتها، تَواجُدُ أميركا وإسرائيل يتماهى. فلا فرق سواء حضر أو غاب "مفوض أميركا الخاص للمنطقة" مارتن إندك، كون الرجل صهيونيا بامتياز، ومع ذلك هو حضر.

أي أن المغيّب الوحيد عن تلك المفاوضات هو فقط "المستمع الثاني"، أي الجانب الأردني المطلوب منه ضمان إنجاح ما تريده الجبهة الأميركية الإسرائيلية بدفع ما لا يريد المفاوض الفلسطيني دفعه صراحة.

ومن هنا حضور محمود عباس الملغوم لعمّان فجأة قبل أشهر، وتوقيعه اتفاقية مع الملك عبد الله الثاني يضع فيها الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس (التي تقول اتفاقية "وادي عربة" إن إسرائيل "ستعطي أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي فيها عند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي)، مضافا لها بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية، تحت وصاية الملك شخصيا، وليس الأردن "الدولة"، بزعم أنها كانت للشريف حسين بن علي وآلت لذريته (انظر مقالتي "ذرائع اتفاقية القدس" المنشورة على هذا الموقع في مايو/أيار المنصرم).

وبهذا لا يعود التصرف بتلك المقدسات خاضعا لموافقة نواب الشعب الأردني، بل لإرادة "فرد"، ولكن تبعات أية تسوية تتضمن أو تغفل المقدسات العصب الأكثر حساسية وحتى خطورة لما بات يسمى "قضية الشرق الأوسط" لشمول تداعياته للمنطقة بأسرها، تطال "الأردن الدولة والشعب" بأكثر من هذا!

فما يُسمى "الدور الأردني" في أدبيات القضية الفلسطينية هو في الحقيقة الدور الذي لعبه الأردن بعد الضم شبه القسري لما تبقى من أراض في الضفة الغربية للأردن بعد قيام إسرائيل، وهو دور "أمني عسكري" بدليل تعيين النظام الأردني لـ"حاكم عسكري" للضفة.

فيما تَنازُع النفوذ على القدس تحديدا كان قائما قبل هذا وبعده بين النظام الأردني وكل زعماء فلسطين بدءا من الشيخ أمين الحسيني (عند تشكيل إمارة شرق الأردن) مرورا بحكومة عموم فلسطين التي أحبط الأمير عبد الله قيامها (مما جعل مصر المَلَكية وليس حتى الناصرية تطالب بفصل الأردن من عضوية الجامعة العربية)، وانتهاء بياسر عرفات وفيصل الحسيني.

فبوفاة هذين (أو اغتيالهما)، لم تعد هنالك زعامة فلسطينية كبرى معنية حقيقة "بالدولة التي عاصمتها القدس"، والدليل هو تطوع السلطة الفلسطينية (ليس المنظمة كما زعم عباس) لوضع "القدس" (فلا قدس بلا مقدساتها) تحت وصاية فرد (رأس نظام يواجه انتفاضة ربيع شعبه)، واستجلابها "الدور الأردني" الذي كان عرفات يُهدَّد به.

وآخر ذلك التهديد كان جلب إسرائيل وأميركا للملك حسين من فراش موته (وكان يتعالج لديهم- انظر كتاب نايجل آشتون عن سيرة حياة الملك حسين وما يخص وفاته تحديدا) إلى "واي ريفر" حين تمنّع عرفات عن تقديم تنازلات إضافية.

ولإيصال رسالة الضغط بالدور الأردني بما لا يقبل التشكيك، وُضع الملك حسين تحت عدسات كاميرات العالم بعد أن كان امتنع عن الظهور كليا لحرجه (كما كل المتعالجين بالكيميائي) مما أحدثه المرض والعلاج في مظهره، فكانت أخباره بما فيها صوته وهو يلقي خطابا جديدا وخطيرا، تأتي للأردنيين على خلفية صورة قديمة، وفجأة يظهر الملك على العالم كله في واي ريفر محرجا بوضوح، ووصل الأمر حد اعتذاره عن شكله قولا!
ما يسمى "الدور الأردني" في أدبيات القضية الفلسطينية هو في الحقيقة الدور الذي لعبه الأردن بعد الضم شبه القسري لما تبقى من أراضي الضفة الغربية للأردن بعد قيام إسرائيل، وهو دور أمني عسكري بدليل تعيين النظام الأردني لحاكم عسكري للضفة

وكان أفضل ما صرح به الملك عبد الله الثاني قوله مرة أن لا عودة "للدور الأردني"، ولكن يبدو أن هذا تغير، أو هو كان أحد التصريحات خارج السياق كقوله عن حرية الصحافة في الأردن بأن "سقفها السماء"! والدور الأردني لم يعد فزّاعة ترفع في وجه المفاوض الفلسطيني، بل هو ما سعى ذلك المفاوض للتغطي به!

وحقيقة هذا الدور الأمني الذي يُورط فيه الأردن يتجلى فيما نشرته الصحف الإسرائيلية عما يقوم به الجنرال السابق جون إيلان (القائد السابق للجيش الأميركي في أفغانستان)، الذي عينه جون كيري كوسيط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في قضايا الأمن.

تقول "معاريف" إن إيلان، الذي شكل طاقما أمنيا يتألف من عشرين خبيرا موزعين على إسرائيل وواشنطن وعمّان، "يجري اتصالات مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ممثلة بطاقم يضم ممثلين من شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي والشاباك".

ومما نقلته معاريف عن مصادر أميركية، أن إيلان يدرس "بدائل للميزات التي يوفرها لإسرائيل الوضع الحالي"!

وينطلق من أنه "في حال قيام دولة فلسطينية فإن الجيش الإسرائيلي لا يستطيع دخول المناطق السيادية الفلسطينية"، ولذلك فإن الطاقم يبحث عن "حلول إبداعية وتوقع التطورات خلال الأعوام الثلاثين(!) القادمة".

وهنا يتضح الدور الأمني العسكري الأردني "القديم" الذي تجري محاولة استعادته في التمهيد للتسوية الجارية، إذ تكمل معاريف: "الجيش الإسرائيلي يعتمد على الجيش الأردني، ولكن الجيش الأردني يقوم بذلك لأنه يعرف أن الجيش الإسرائيلي في الجانب الثاني، والسؤال هو ماذا سيحصل عندما تكون قوة فلسطينية في الجانب الثاني، وكيف يمكن الحفاظ على الوضع الذي فيه مصلحة للطرفين في الحفاظ على الهدوء؟".

منذ بداية ما سمي مفاوضات سلام، ظلت إسرائيل تقول صراحة إن ما سيسمى "دولة فلسطينية" سيكون كيانا منزوع السلاح، أي تحديدا ما ورد في وصيّة بيغن (المسمى رجل السلام في بعض أوساط الحكم العربية!) "حكم ذاتي وليس دولة".

والإسرائيليون يستعيدون هذه الوصية حاليا ويؤكدون عليها، ولهذا يقال لنا إن ليس جون إيلان وحده، بل و"الطاقم الأمني" الذي شكله (بوجود أردنيين ولكن بدون فلسطينيين) "يدرس مع الإسرائيليين المعنى العملي للمصطلح "دولة فلسطينية منزوعة السلاح". كما يدرس أيضا الفترة الانتقالية المتوقعة بين الوضع الحالي وبين الوضع المستقبلي، ويضمن ذلك طلب إسرائيل إبقاء قوات إسرائيلية على طول نهر الأردن (على أرض من؟) كما يدرس الطاقم تأثير إقامة دولة فلسطينية على الأردن، وعلى علاقات إسرائيل مع الأردن".

ولكن مع وجود الجيش الإسرائيلي على طول النهر أو انسحابه (غير المحتمل نتيجة "وادي عربة")، فإن أمن إسرائيل اليومي يلزمه أن تكون هنالك قوات أخرى تقوم بالمهمة، بينما ما تسميه أمنها "القومي" سيلزمه الدخول لتلك المناطق في بعض الحالات.

"الحل الإبداعي" هنا يتمثل في إيجاد قوات بديلة أو مرافقة للقوات الإسرائيلية، وفي ذات الوقت وللحالتين (الأمن اليومي أو القومي) ينبغي أن لا تكون هذه "قوة خارجية" لأن هذا سيثير لإسرائيل مشاكل داخلية وإقليمية ودولية، بل يتوجب أن تكون قوة موجودة دوما وحكما. ومن هنا المبرر "الأمني" (وهو غير السياسي والاقتصادي) لشمول الأردن بالتسوية ضمن الكونفدرالية.

وحسب مخطط بيريز (الذي أوردناه في الجزء الأول من مقالتنا هذه) والذي أحياه جون كيري بذكر "الكونفدرالية" صراحة تحت ذريعة "السلام الاقتصادي"، فهذه الكونفدرالية ستضم إسرائيل والأردن و"الحكم الذاتي" الفلسطيني على ما يتبقى من الضفة الغربية.

فيما نسخة الملك عبد الله (البينيولوكس الرباعي) التي دُفع بها بطريقة ما لمذكراته (هي المادة السياسية الوحيدة فيها) فكشفت مرحلة لاحقة لا يكشفها حاليا لا الإسرائيليون ولا الأميركيون تتضمن لبنان أيضا! وغني عن القول أن كل نسخ "السلام الاقتصادي" غير قابلة للتسويق شعبيا، بخاصة حين تأتي مربوطة بمشاريع تبعية مباشرة لإسرائيل.

ويبقى "الدور السياسي" الأخطر الذي يراد من الأردن، وهو "الوطن البديل"، وليس فقط "التوطين" الذي التزم به الأردن في وادي عربة. التعبيران قفزا مؤخرا للواجهة في رفض الشعب الأردني، من كافة المنابت والأصول لهما.

وينبغي هنا إيضاح أن مدلول هذين التعبيرين بالنسبة للغالبية الساحقة من الشعب الأردني، ليس كما يحاول النظام تصويره تاريخيا لتقديم نفسه كحليف لبريطانيا ثم لأميركا ملتزم بما يسمى بـ"السلام" مع إسرائيل، والآن للتخلص من ضغط الغرب عليه في شأن الإصلاح الذي لا تملك حتى أميركا ترف غض النظر عنه في ضوء ثورات الربيع العربي.

 تجري المفاوضات لاستخلاص القبول "بيهودية إسرائيل"، مما يقضي على حق العودة لفلسطين التاريخية، بل يتيح تهجير عرب الـ48 لكنتونات الضفة المزدحمة تمهيدا لتفريغهم الحتمي للضفة الشرقية، بزعم أن هذا انتقال بيني لسكان الكيان الكونفدرالي ذاته

فنسخة النظام تصور الأمر وكأنه تنازع بين ذوي الأصول الشرق أردنية وذوي الأصول الفلسطينية (رغم استحالة الفصل نتيجة التزاوج لأجيال) على كعكة مناصب يُدخل بضعة متنافسين عليها بالانتخاب نادرا، وغالبا هم يفرضون بتزوير الانتخابات وبالتعيين.

ومن هنا فإن زعم "إصلاح" رسمي يقوم على تعديل لقانون انتخاب رديء ومرفوض شعبيا بإضافة بضعة مقاعد نيابية للمدن ذات الكثافة الديمغرافية لذوي الأصول الفلسطينية (عمّان والزرقاء وإربد) ثبت أنه سلعة من نوع "الواقع الافتراضي" لا تسوق إلا لدى أميركا وبدرجة أقل لدى الاتحاد الأوروبي، باعتبار فرق الثقافة والخبرة التاريخية بين مكوني المعسكر الغربي.

والدليل أن سلسلة زيادات المقاعد النيابية في تلك المدن قوبلت بإحجام متصاعد لذوي الأصول الفلسطينية عن الاقتراع والترشح، ومثله جرى للانتخابات البلدية الأخيرة رغم "توسّل" الحكومة للناخبين، ووصل الأمر أن استنكف 90% من ناخبي عمّان عن المشاركة فيها، وحتى العشائر التي كانت تقتتل في الانتخابات البلدية سابقا أدارت ظهرها زهدا بالكعكة الفاسدة.

وهذا مؤشر على موقف شعبي موحد لا يتيح لأية جهة رسمية التحدث باسمه حتى في شأن "البلديات"، ناهيك عن شأن "التوطين والوطن البديل".

فالمفاوضات تجري لاستخلاص القبول "بيهودية دولة إسرائيل"، مما يقضي على حق العودة لفلسطين التاريخية، بل ويتيح تهجير عرب الـ48 لكنتونات الضفة المزدحمة تمهيدا لتفريغهم الحتمي للضفة الشرقية بزعم أن هذا انتقال بيني لسكان ذات الكيان الكونفدرالي، وضمن ذات البيئة العربية بل والأردوسطينية.

ويؤكد هذا المخططَ كمٌّ هائلٌ من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين عبر تاريخ إقامة كيانهم، وهو ما يتوحد الأردنيون من كافة الأصول والمنابت على رفضه.

على الطرف الأردني -المسمى زورا "مستمعا" وهو في الواقع مُغيّب عما يجري في مفاوضات سرية، ولكن تسميته "ضامنا" لمخرجات تلك المفاوضات يبقى صحيحا- أن يتأنى قبل أن يصدّق أنه الوسيط المنجز للسلام، فيضرب على صدره عند بروز عقد التسوية الحتمية هذه قائلا "هذه عندي"، فتلك قد تكون ضربة قاتلة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.