ليبيا.. الطريق إلى الانقلاب

هشام الشلوي

undefined 

ما ميز ثورة 17 فبراير/شباط 2011 بليبيا عن أختيها التونسية والمصرية السلميتين، هو تحولها من ثورة سلمية إلى صراع مسلح، حملت فيه فئات عمرية مختلفة السلاح ضد الاستعمال الغاشم للقوة من قبل كتائب القذافي، وهي كتائب تدين بولاء مطلق لنظام القذافي، وتفتقد بشكل نهائي لعقيدة عسكرية وطنية.

كما أن ما ميز هذه الثورة أنها لم تسقط النظام فقط، بل أطاحت أيضا بفكرة الدولة وما تعنيه من مؤسساتية قادرة على تفادي تولي المجتمع مباشرة بتنظيماته المتعددة المتعارضة والمتباينة لمهام السلطة بما تعنيه من قوة مشرعنة قادرة على فرض النظام والقانون معا.

فقد عمل القذافي طوال فترة حكمه الطويلة على بناء كل التوازنات السياسية والاجتماعية بشكل منفرد بعيدا عن أي مشاركة لقوى سياسية أو اجتماعية داخلية، وانهارت في عهده تنمية المجتمعات المحلية، وظهرت الفوارق الفلكية بين القرية والمدينة، إذ أضحت القرى أشبه بمقابر جماعية تضم كتلا بشرية غير قادرة إلا على التنفس البيولوجي.

كما خلق حالة من الفصام بين الجغرافيا الليبية البالغة الاتساع، واستطاع إحكام سيطرته عبر تنظيمات ثورية عملت على تثوير الدولة والمجتمع بشكل لا يسمح بأن يكون للقانون مساحة كافية ومرضية كحكم بين الدولة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، أو بين الأفراد أنفسهم.

الثورة الليبية لم تسقط النظام فقط، بل أطاحت أيضا بفكرة الدولة وما تعنيه من مؤسساتية قادرة على تفادي تولي المجتمع مباشرة بتنظيماته المتعددة المتعارضة والمتباينة لمهام السلطة

قرّب القذافي منه قبائل، وأبعد أخرى، وجعل ديوان الحكومة مقصورا على عشرات من الرجال الموالين له بشكل فج، وأصبحت سياسة الباب الدوار هي السمة الغالبة، فوزراؤه داروا تقريبا على كل الوزارات رئاسة وعضوية، حتى حركة اللجان الثورية التابعة له بشكل مباشر، سلّطها على الدولة والمجتمع في فترات محددة، وأزاحها فترات أخرى طالقا يد ستة من أبنائه يصولون ويجولون ممسكين بكل الدوائر ذات العلاقة بالمال، كقطاع الاتصالات، ومشاريع البنية التحتية والإسكان والاستثمار الخارجي.

في فترة متأخرة حاول النظام فتح قنوات تواصل مع شخصيات مجتمعية في الداخل والخارج، إلا أنه رفض الاعتراف بها كمكونات سياسية أو هويات اجتماعية، ومارس ضغوطا عدة حتى يكون الحوار من جانب واحد وبشروطه هو، إلا أنه لا ينكر كل من له دراية بالشأن الداخلي الليبي أن هذا الانفتاح البسيط والسطحي استفاد منه سجناء رأي وإسلاميون حملوا السلاح في فترة تسعينيات القرن المنصرم ضد النظام.

أيضا عانت ليبيا من تصحر سياسي بدأ مع نشوء الدولة الليبية بعدما منع الملك إدريس السنوسي أي نشاط للأحزاب السياسية معتبرا إياها معادلة للفرقة والتمزق المجتمعي، وتعلل بأمية شعبية وفقر ونضوب في النخبة القادرة على وضع برامج سياسية، وترك الأمر رهين برلمان كل نوابه لا تجمعهم أي برامج سياسية مشتركة، بل تجمعهم المناطقية والقبلية.

لم يفوّت القذافي فرصة كهذه وأصر هو الآخر على منع أي نشاط حزبي داخل ليبيا مفلسفا ذاك الحظر بأن الأحزاب إجهاض للديمقراطية، وخلق توابع أمنية وحكومية لم يعرف التاريخ لها مثيلا.

وهكذا ضُربت أي إمكانية لتوافق مجتمعي عبر النشاط الحزبي يجمع الرؤى المشتركة بصرف النظر عن الجغرافيا، وبقي التنظيم الوحيد المُعبر عنه بشكل جيد هو القبيلة.

ولذا في اليوم الذي أطاح فيه الليبيون بالقذافي، أطاحوا معه بالدولة كمؤسسات مشخصنة، وكان عليهم أن يعيدوا بناء توازنات مجتمعية وسياسية جديدة تماما، ترضي كل شركاء الثورة.

وكانت التنظيمات السياسية والمؤسسية بعد ثورة فبراير/شباط معبرة بشكل مروع عن هذا الفقر المدقع والتصحر السياسي (المجلس الوطني الانتقالي والحكومات التابعة له، المؤتمر الوطني العام والحكومات الناجمة عنه).

نشأت عدة أحزاب سياسية فور صدور قانون ينظم حركتها من المجلس الوطني الانتقالي، وبادر المتقاربون فكريا وأيدولوجيا إلى الإعلان عن أنفسهم وصوغ برامجهم المتشابهة كلها تقريبا، فيما يتعلق بوحدة التراب والمصالحة الوطنية والرفاه الاجتماعي، وغيرها من الشعارات المتعارف عليها لدى أغلب الأحزاب السياسية عالميا.

بدا أن أكبر حزبين هما تحالف القوى الوطنية برئاسة محمود جبريل والذي صنفه كثيرون أنه يمثل التيار الليبرالي بليبيا، ورغم التصريحات التي تشي بليبرالية الحزب على لسان جبريل كقوله إن الدولة لا دين لها، وما ينشره بعض نشطاء التواصل الاجتماعي من صور ولقاءات جمعت جبريل بمفكرين وسياسيين غربيين، فإنه من غير الدقيق أو المسلم به الحكم بليبرالية حزب تحالف القوى الوطنية.

ويعود ذلك إلى سبب بسيط هو أن الليبرالية كفكر وكحركة سياسية مثلتها على الدوام نخب محصورة بشكل يستحيل معه القول إن هناك تيارا سياسيا ليبراليا متجذرا داخل ليبيا. كما يرجع إلى خلو ليبيا تقريبا من حركات سياسية علنية ذات أبعاد اجتماعية وشعبية معبرة عنها.

انقسم الليبيون بشأن قانون العزل، ولم يكن هناك بد من عزل شخصيات ساهمت في دعم نظام القذافي، وليس طبيعيا أن يكون هؤلاء جزءا من بنى سياسية قادمة من رحم ثورة تضرروا منها وساهموا في قمعها

ومما يؤسف له أن حزبا كبيرا كحزب تحالف القوى الوطنية ظهر إلى عالم الشهادة بعد ثورة شعبية سلمية ومسلحة، كأي حزب عربي تقليدي من فترة ما قبل الاستعمار أو بعده، إذ إن شخصية مؤسسه طغت على كل ما عداها من مشاركة فاعلة لأعضاء الحزب على مستوى اتخاذ القرار داخل الحزب أو على مستوى تنصيب قيادته العليا.

ولا أدل على ذلك من ظهور صورة مؤسس الحزب بجوار صور مرشحي الحزب في انتخابات يوليو/تموز2012، وساهمت تلك الدعاية في وصول شخصيات تعلم الغالبية العظمى من الشعب أنه لولا التلبيس الذي حصل لما اعتلت هذه الشخصيات سدة أول برلمان ليبي بعد ثورة فبراير/شباط.

وبهذا ساهم هذا الظهور المشوه لتحالف القوى الوطنية في تأخر بروز حياة سياسية حزبية مستنيرة وفاعلة، وشارك أيضا في صب مزيد من الليبيين جام غضبهم ولعناتهم على الأحزاب السياسية، واعتقاد غالبية لا يستهان بها من الشعب بصدقية مقولات القذافي السلبية عن الأحزاب السياسية.

وتشوهت العقيدة السائدة عن مؤسسات المجتمع المدني بعدما استطاع محمود جبريل إقناع بعض قادتها بالانضمام إلى حزب التحالف (وهذا سبب أصيل لتسميته بالتحالف).

وكان الحزب الآخر بعد تحالف القوى الوطنية هو حزب العدالة والبناء، وهو من نتاج أفكار جماعة الإخوان المسلمين الليبية التي اختارت في مؤتمرها التاسع بمدينة بنغازي بعد سجال دام يومين، أن تُنشئ حزبا سياسيا بالشراكة مع مستقلين وشخصيات عامة تؤمن بالمرجعية الإسلامية كقاعدة ومنطلق من منطلقات العمل السياسي، سواء أكان الحزب حاكما أو ضمن ترويكا أو معارضا.

لعل انعدام الخبرة السياسية، والتأثر الشديد بمرحلة العمل السري في زمن القذافي، كذا الضخ الإعلامي المبالغ فيه لتصوير الحزب ومعه جماعة الإخوان الليبية وكأنه صدى صوت مكتب الإرشاد بالمقطم، واستحضار ما أشاعه القذافي ونظامه عن فكر الإخوان من إرهاب وتطرف وعمالة، وكذا عدم قدرة الحزب على التواصل الكافي مع قطاعات واسعة من الليبيين وغيابهم شبه التام عن المشهد الإعلامي، والدور السيئ السمعة الذي مارسته قنوات إعلام خاصة ومواقع تواصل اجتماعي في بث أكذوبة مفادها أن الإخوان يسيطرون على مفاصل الدولة كحكومة تنفيذية أو مؤتمر وطني تشريعي.. كلها عوامل ساهمت في ضعضعة ثقة الناس بالحزب أو أهدافه.

في نهاية المطاف خرج عن المؤتمر الوطني قانون للعزل السياسي يحرم كل من شارك نظام القذافي بمستويات معينة تنفيذية أو ساهم في قمع ثورة فبراير/شباط من العمل السياسي لمدة عشر سنوات، وزعم بعض الليبيين أن هذا القانون كان مطلبا شعبيا، بينما قلل آخرون من هذه الفرضية، إلا أنه كان لابد من عزل شخصيات ساهمت بشكل واضح في دعم نظام القذافي طوال سنين حكمه، لأنه وببساطة متناهية لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا جزءا من بنى سياسية قادمة من رحم ثورة تضرروا منها وساهموا في قمعها بشكل أو بآخر.

هذا بالتأكيد لا يعني أننا نطالب أيضا بتخفيف حدة وغلواء قانون العزل السياسي وحصر حالاته في المستويات العليا من النظام السابق سواء التنفيذية أو الأمنية، لأن بذور وروح القانون اعترتها ثقافة المكر بين أحزاب تحالف القوى الوطنية والجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وحزب العدالة والبناء حتى شمل العزل رؤساء الأحزاب السياسية في سابقة لم يعرف التاريخ لها مثيلا.

بعد انقلاب 3 يوليو/تموز الماضي في مصر انتشت قوى النظام السابق متحالفة مع عدة قوى داخل ليبيا قبلية وسياسية وجهوية، في محاولة لتصفير العملية السياسية بالكامل وضربها وشلها وإعادتها إلى المربع الأول، مع ما يستتبع ذلك من إسقاط كل القوانين المُقرة من المؤتمر الوطني العام.

إذ إن الدعوة إلى حل المؤتمر الوطني ليست غاية في حد ذاتها، وإنما غايتها الإطاحة بمخرجات المؤتمر الوطني من منظومات قانونية أضرت بمراكز ومصالح تم اكتسابها إبان النظام السابق.

تقرير لجنة الأمن القومي بالمؤتمر الوطني يشير إلى تعاون قادة انقلاب مصر مع شخصيات أمنية سابقة ورجال أعمال ورجالات محسوبين على نظام القذافي لخلق حالة من الفوضى تؤدي إلى تململ شعبي

ويدل على ما ذهبنا إليه تقرير لجنة الأمن القومي بالمؤتمر الوطني العام في يوليو/تموز الماضي، والذي أشار إلى تعاون قادة انقلاب مصر مع شخصيات أمنية سابقة ورجال أعمال ورجالات محسوبين على النظام السابق لخلق حالة من الفوضى تؤدي إلى تململ شعبي يساهم في دب روح ثورة جديدة على منتجات ومخرجات الإعلان الدستوري، عن طريق اغتيال عسكريين ونشطاء في ثورة فبراير/شباط وتفجير منشآت حيوية داخل ليبيا، وسرقة أسلحة من معسكرات تابعة للدولة، وإطلاق سراح سجناء جنائيين وسياسيين لهم دور بارز في قمع الشعب قبل وأثناء الثورة.

ظهرت شواهد أخرى تدعم هذا السياق كمحاولة إظهار ليبيا بعدم سيطرتها على المورد الإستراتيجي الوحيد لليبيين وهو البترول، إذ استطاعت مجموعات مسلحة تدعي الانتماء للحركة الفدرالية المطالبة بما يشبه الحكم الذاتي بالشرق الليبي السيطرة على أغلب حقول وموانئ تصدير النفط في المنطقة الشرقية والمسماة تاريخيا برقة.

كما ذهب دبلوماسي ليبي عبر صفحته على الفيسبوك إلى أن مصدر الأسلحة الكيميائية التي ضُرب بها مدنيون سوريون في غوطة دمشق هو ليبيا، وأن رئيس مجلس طرابلس العسكري الأسبق عبد الحكيم بلحاج هو من صدرها إلى مجموعات جهادية تقاتل في سوريا، وأن نظام الأسد ليس غبيا ليوجه مثل هذه الضربة التي ستغضب الولايات المتحدة.

وبالتالي سيعتقد كثيرون أن ليبيا غير مسيطرة على سلاح كيميائي غير تقليدي، مما يعجل بتدخل حلفاء الأمس عسكريا وسياسيا على الأرض، خاصة أن ليبيا ما زالت تخضع لما يشبه الوصاية الدولية بموجب قراري مجلس الأمن 1970 و1973.

كل هذه التحركات من قوى متباينة في الرؤى والأفكار، ومتحالفة في المصالح من أجل ضرب ديمقراطية وليدة بليبيا وتمزيقها وتشتيت الناس عن أهداف تنموية، يذكرنا بمشهد قريب لم يزل يتراءى أمامنا جميعا، وهو انقلاب العسكر بمصر على أول ديمقراطية حقيقية في تاريخها.

كما يلاحظ أن الانقلاب على الشرعية في مصر والسعي إلى ذلك في ليبيا وتونس، ومن قبلهما إجهاضها باليمن، وراءه المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مع الشيطنة المستمرة لقطر.. اختلفت الوسائل، والانقلاب واحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.