نيكولاس كريستوفر.. دارفور، والبوليتزر

عبد الله علي إبراهيم - نيكولاس كريستوفر..دارفور، والبوليتزر

undefined

عاد نيكولاس كريستوفر، كاتب الرأي بجريدة النيويورك تايمز التي انضم لها في 1984، للكتابة عن محنة دارفور بعد غيبة. ومعروف أنه نال جائزة البوليتزر للمرة الثانية في 2006 لكشفه بلا هوادة عن "إبادة جماعية" في دارفور وإضفائه صوتا لمن لا صوت لهم في شعاب العالم منذ بدأ الكتابة عن دارفور في 2004. والجائزة، زينة المهنة الصحفية الأميركية، ترعاها جامعة كولومبيا بنيويورك.

كتب كريستوفر في عموده المعنون "دارفور 2013" في 24 يوليو/تموز المنصرم، عن ضحايا حرب الحكومة على شعب السلامات بواسطة مليشيا من شعب المسيرية، وكذلك حربها على البني حسين. وقال إن الحكومة لا تثق في السلامات وتفضل عليهم المسيرية الموالية وتخطط لإحلالهم أرض السلامات. أما سبب بغض الحكومة للبني حسين فلأنها طامعة في الذهب الذي ظهر بأرضهم بجبل عامر.

جاء كريستوفر إلى دارفور هذه المرة ليرى عن كثب كيف أساء تحليل نزاعها. فذكر في عموده الأخير هوية السلامات والبني حسين وقال إنهم عرب لم يتعرضوا لملاحقة الحكومة من قبل. ونسي ذكر أن الحرب القائمة مع البني حسين هي مع الرزيقات الأبّالة العربية في شمال دارفور. وعليه فالحرب التي وجدها كريستوفر في دارفور هذه المرة هي حرب العرب للعرب.

وما سيستغرب له المرء هو كيف له أن يفسر هذه الحرب العربية المستفحلة الآن في دارفور في إطار تحليله الذي لخص نزاعها في حرب إبادة (وتطهير عرقي) للأفارقة تشنها الحكومة العربية وحلفاؤها في الجماعات العربية. فأعمدة الرأي التي كتبها كريستوفر في النيويورك تايمز قديما لم تهيئ القارئ لضحايا عرب في نزاع دارفور. فالضحايا فيها أفارقة بغير منازع والمعتدون عرب.

أعمدة الرأي التي كتبها كريستوفر في النيويورك تايمز قديما لم تهيئ القارئ لضحايا عرب في نزاع دارفور. فالضحايا فيها أفارقة بغير منازع والمعتدون عرب

لقد رأى كريستوفر هذه المرة تعقيدا في مسألة دارفور تفاداه بغير وازع لمدة طويلة. فلم يلق السمع لخبراء عن دارفور -مثل ألكس دي وال، مؤلف "المجاعة التي تقتل" عن مسغبة في الولاية في 1984- نبهوا بقوة إلى أن مسألة دارفور أعقد من اختصارها في نزاع للعرب والأفارقة.

وقال محمود محمداني في "منقذون وناجون" (2009) إن تصوير المسألة كنزاع أرومي يجردها من السياسة. فدارفور في نظر مثل كريستوفر موضع بلا تاريخ وبلا سياسة لأنها ساحة المعتدين، العرب فيها بينون والأفارقة الضحايا بينون.

ومتى جردت قضية ما من السياسة جعلتها مسألة إنسانية بحتة تنصرف الهمة فيها لإنقاذ الضحايا من الأوغاد. ولهذا كان شعار مشروع كريستوفر الصحافي هو "أيتها القلوب النازفة، توحدي". فلا يتجاوز ما يكتبه في عموده بالجريدة عن حكاية لضحية أفريقية من عدوان عربي ما بمعزل عن السياسة المحلية في الولاية والوطنية والإقليمة والعالمية التي تكتنفها.

فهو غير معني مثلا بسياسات الموراد، ونظم ملكية الأرض، والغبن التنموي، ولفح التصحر، ونشأة حركات تحرير الولاية في تناغم مع الحركة الشعبية لجنوب السودان، وقياداتها التي شبت عن طوق زعامات "القبائل" التقليدية، ومخلفات الحرب الباردة من سلاح القوتين الأعظم الذي تفشى في حرب الثلاثين عاما في تشاد، ولا سياسات البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي.

لم يعد أحد مشغول بقضية دارفور يصدق زعم كريستوفر بأنها نزاع أزلي بين أفارقة وعرب. فأوضح الخصومات الدموية منذ 2006 ما وقع ويقع بين الجماعات العربية حول الموارد وحدود دورها.

وجاء كتيب "الحرب الأخرى: الصراع العربي الداخلي في دارفور" لجولي فلينت بحقائق هذه الحرب المخفية كما وصفتها. فقالت إنها خلفت ألف قتيل في عام 2010 وحدها علاوة على فرض النزوح على الكثيرين. وزادت بأن "قتل العرب للعرب في تصاعد من دون أي تعليق يذكر خارج السودان". بل كان حصاد القتل في النزاع العربي العربي مفردا هو الأكثر عددا بين ضحايا دارفور قاطبة. ففشا القتل حتى بين العرب الموصوفين بالمتعاونين مع الحكومة.

كان حصاد القتل في النزاع العربي العربي مفردا هو الأكثر عددا بين ضحايا دارفور قاطبة. ففشا القتل حتى بين العرب الموصوفين بالمتعاونين مع الحكومة

وفي إحصاء اليوناميد (قوات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي) فإن 80% إلى 90% من حالات العنف المميت المسجلة في جنوب دارفور لسنوات 2006 إلى 2008 كانت في مواجهات العرب بعضهم البعض.

وخلافاً لكريستوفر بقلوبه النازفة جاءت فلينت بتحليل سياسي لصدامات العرب والأفارقة. فقالت إن جماعات الجنجويد العربية، لم يتحالفوا مع الحكومة "العربية" جزافا مدفوعين بالعرق، ولكن عن مظالم من المزارعين الأفارقة.

فعبر سنيّ المحل تآكلت حقوق تلك الجماعات التقليدية المتمثلة في الوصول إلى المراعي والمياه. وكان المزارعون الأفارقة هم من حالوا بينها وبين الموارد باسم حق الحواكير (وهي حقوق تاريخية للجماعة في أرض لها دون غيرها).

كما تنصلت الدولة المُفقَرة عن تقديم أبسط الخدمات للبادية العربية في ورطتها مع الجفاف والتصحر. ولذا جنح أهلها في محنتهم إلى قبول "التحالف" مع الحكومة في ما سُمي بـ"الانتفاضة المضادة بأرخص ثمن" لاغتصاب الغنائم والأراضي من الأفارقة، الذين انزعجت الحكومة من حركاتهم المسلحة.

وتوقع الكتاب -في ملابسات معقدة منها تدني موارد الدولة مما سيمنعها من الصرف على حلفائها من البادية العربية- أنه ربما نشأ اصطفاف وسط العرب ضد الحكومة. وهذا بعض ما حدث منذ نحو شهر حين تصادمت قوات البادية (المعروفة بالحكمداريات) مع قوى الأمن المركزية في نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور.

تدور رحى حرب العرب للعرب الحالية في دارفور على ثلاث جبهات كما وصفها الصحفي أحمد حمدان بجريدة "الخرطوم". فالجبهة الأولى هي نزاع المسيرية والسلامات، التي كتب عنها كريستوفر، في وادي صالح بوسط دارفور. وحملت صحف 30 يوليو/تموز الماضي نبأ مقتل مائة من السلامات و28 من المسيرية.

الجبهة الثالثة في حرب العرب للعرب هي الأفظع لارتباطها بحقوق التنقيب عن الذهب أو الثروة المستجدة، في جبل عامر بشمال دارفور. وطرفا النزاع هما الرزيقات الشمالية والبني حسين

أما الجبهة الثانية فهي جبهة كتيلا بجنوب دارفور ويتصارع فيها بني هلبة والقِمر. وسقط في معركة بينهما في مايو/أيار الماضي 64 قتيلا وجرحى. وهو الهجوم رقم 15 من بني هلبة على القمر. وبلغ مجمل عدد القتلى فيها 94، وجرح 65، وأحرق 1200 منزل، وتم تخريب خمس محطات مياه، وأحرقت 14 قرية.

واتهم والي جنوب دارفور عناصر عربية وفدت من تشاد لمساندة بني هلبة ضد القمر. ووقع الطرفان اتفاقا بالسلام في أبريل/نيسان الماضي هو الرابع من نوعه دون نتيجة.

أما الجبهة الثالثة فهي الأفظع لارتباطها بحقوق التنقيب عن الذهب أو الثروة المستجدة، في جبل عامر بشمال دارفور. وطرفا النزاع هما الرزيقات الشمالية والبني حسين. ووقعا معاهدة سلام أمام النائب الأول لرئيس الجمهورية في 27 يوليو/تموز الماضي، قضى بإخلاء منجم جبل عامر من الجماعتين وإعادة كافة الأراضي السليبة لأصحابها حتى لو كانت مزروعة.

يقول الأميركيون في أخذ المرء بأمر بغير علم وتمكث، إنه أخذه وهرول به. وسبق سلف صالح لكريستوفر في النيويورك تايمز إلى التحذير من أن يهرول الصحفي بخبر عار من سياقه الاجتماعي والثقافي.

فقد مايز جيمس رستون الصحفي البارز بالنيويورك تايمز بين الخبر في منشئه والخبر في منتهاه. وقال إن الخبر في أسماع العالم مجرد نبأ ولكنه علم اجتماع حيث حدث. وبشّر في كتابه "مدفعية الصحافة" (1966) بجيل ناضج من الصحفيين الأميركيين همهم أن يكونوا على جانب الصحة من الخبر لا جانب المسارعة به.

ونبه إلى أن الفجوة بين الخبر وعلم الاجتماع في عصر انفجار المعلومات الراهن ستجعل من الأخبار "خبثاً مهرولاً" وهي كلمة لحكيم ما في وصف أول قاطرة سكك حديدية.

ودعا رستون إلى تعريف للخبر يزواج بين الولع بالحادثات -والدرامية منها على وجه الخصوص- وبين أسبابها في مجتمعها. ودعا لتحري الخبر بجدية بأن يستعين المخبرون عنه بعقلهم مثلما استعانوا بأرجلهم للعثور عليه، ويعنون بخلفياته التي عادة ما اقتُطعت بالكلية أو أوجزت لصالح الخبر الدسم.

دعا رستون لتحري الخبر بجدية بأن يستعين المخبرون عنه بعقلهم مثلما استعانوا بأرجلهم للعثور عليه، ويعنون بخلفياته التي عادة ما اقتُطعت بالكلية أو أوجزت لصالح الخبر الدسم

واشتكى أن الصحافة الأميركية لا تغطي أنباء العقل لأنها مشغولة عنها بتغطية الوقائع مشددة على صراع الشارع. وخشي من أن يُزَندق لقوله إن تحري الأخبار وتحليلها في بلد ديمقراطي من الجدية حيث لا ينبغي أن يترك للصحفيين وحدهم.

ولم تصدق بشرى رستون عن الجيل الصحافي الناضج إذا اعتبرنا إفساد كريستوفر لخبر دارفور بإفراغه من ثقافة مكان حدوثه. والأدهى أن بوليتزر، التي ما بعدها في زينة الصحفي الأميركي، وجدت في عوار كريستوفر المهني (malpractice) ما يزكيه لتقلدها.

وظل الرجل طوال خوضه بغير علم في مسألة دارفور يُلقي الدروس الأخلاقية على الصحافة العربية. فعاب عليها غضها الطرف عن مقتلة دارفور لأن الضحايا مسلمون أفارقة. وأضاف سائلا: لماذا تهتاج الصحافة العربية حين يكون قاتل المسلم أميركيا أو إسرائيليا وتتوارى حين يقتل العرب مسلمين عجما"؟

وربما حثنا سوء تبليغ النيويورك تايمز عن دارفور كما تجسد عند كريستوفر أن نتعقب الخبر العربي والرأي فيه في الصحافة الغربية، والأميركية خاصة، وأن نحاكمه بأعراف المهنة لا بالإدانة الإجمالية القانعة بأن لا خير يأتي من تلك الصحافة ولا حل سوى لعنها أو التظاهر ضدها.

وسيحتل فحص جائزة بوليتزر -متى تقلدها صحفي ذو عوار مهني مختص بشأن العالم العربي- مكانا مقدما في الشغل النقابي الصحفي العربي. فلقد سبق أن نال الجائزة توماس فريدمان في 2002 لكشفه في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول، العلاقة العضوية بين المدارس الإسلامية ("مدرساز" كما يقولونها) والإرهاب. ونَقض هذا الكشف الزائف كتاب صدر في 2006 عنوانه "تدريس الإسلام: الكتب المقررة والدين في الشرق الأوسط" الذي حرره إليانور دوكاتو وقريقوري ستاريت. ولم يجد المؤلفان بعد دراسة مناهج تلك المدارس في بلدان عربية مختلفة مصداقا لنظرية فريدمان.

إذا كان شعار حلف كريستوفر هو "أيتها القلوب النازفة اتحدي" فليكن شعارنا في تحري الصدق: "أيتها المهنة الراعفة تيقظي". فالواجب الحذر ممن يطلب تفسيرا بسيطاً شاملاً لمسألة صعبة حتى لو كان مضللا

لسنا نتعقب الخبر العربي في الصحافة الأميركية للكيد القومي أو السياسي. فنحن شركاء في مهنة نأمل أن تقسط كل القسط لنا ولسوانا. ولسنا نأتي بأمر أيضا. فقد سبقتنا الصحافة الأميركية لمأسسة الشفافية في خدمتها للقراء. فأفترعت النيويورك تايمز وظيفة "المحرر للجمهور" الذي يُؤمن مساءلة الجريدة أمام الجمهور. بل سبق اللوبي الدارفوري الأميركي إلى خدمات هذا المحرر محتجاً على خبر قال إنه مفارق للوقائع في دارفور.

فقد كتب إريك ريفس -وهو أكاديمي أميركي- في 11 يونيو/حزيران 2013 يحتج لهذا المحرر على قصة صحفية بقلم جفري قتلمان نقلت خبر عودة 300 ألف نازح دارفوري إلى قراهم في 26 فبراير/شباط 2012. واستنتج قتلمان أن مثل هذه العودة تؤذن ربما بقرب نهاية مسألة دارفور.

وحمل ريفس على القصة الخبرية وقال إنها ترخصت في النقل وتوصلت إلى خاتمة للقضية الدارفورية من فوق بحث ركيك وفقير.

إذا كان شعار حلف كريستوفر هو "أيتها القلوب النازفة اتحدي" فليكن شعارنا في تحري الصدق: "أيتها المهنة الراعفة تيقظي". فالواجب، في قول محمداني، الحذر ممن يطلب مثل كريستوفر تفسيرا بسيطاً شاملاً لمسألة صعبة حتى لو كان مضللا. فمثله يرغب في فعل درامي وما يهمه لو ارتد بالخسران كما وضح من عمود الرجل الأخير. فالحذر واجب ممن يتصيدون أزمة مقلقة ويخاطرون بغير ذكاء أو حياء في تعميقها وتسويئها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.