رابعة العدوية.. من الشهادة إلى الحرية

رابعة العدوية.. من الشهادة إلى الحرية

undefined

الانغراس في الميدان
رابعة ورابعة
فض الاعتصام

لا تزال أعين العالم منذ عدة أسابيع معلقة ببقعة صغيرة من بقاع الأرض، تترقب ما تحمل للأيام وما تحمل الأيام لها.

تلك البقعة هي ميدان رابعة العدوية بالعاصمة المصرية القاهرة، حيث يعتصم عشرات الآلاف من المصريين منذ أكثر من شهر محتجين على الانقلاب العسكري الذي عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي من منصبه، وأتى بنظام آخر أقرب بكثير إلى نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك منه إلى النظام الذي كانت تحلم به ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ولأجله سالت دماء مئات الشهداء، وجُرح الآلاف، وعاشت مصر ما عاشت من الاضطرابات طوال عامين ونصف إلى الآن.

وقد ارتفعت وتيرة التهديد بالهجوم على اعتصام رابعة وما شابهه لفضها من قِبل أركان النظام الجديد، بدءا بوزير الدفاع، ومرورا بوزير الداخلية ورئيس الوزراء، وانتهاء بالرئيس المؤقت، ولم يستطع أي من هؤلاء أن يخفي غيظه من هذه التجمعات الحاشدة الصامدة، التي حاول الإعلام المسيَّس، خاصة ممن بدا أن مصيره وبقاءه في ساحة العبث بالدماء والأوطان مرتبط بفض تلك الاعتصامات، أن يقدم لها صورة شائهة تنفي عنها كل معاني الإنسانية الرائعة فيمن يريد أن ينتزع حريته ولو كلفته حياته.

في رحاب رابعة ترى وجوها بعدد مدن مصر وربما قراها، وتسمع لهجات تتفاوت بين لكنة أسوان ولهجة القاهرة ولسان الإسكندرانية

وما تريده هذه السطور هو تسجيل وقفة في وجه تتار الإعلام الذين لا يهمهم أن تتسبب حواراتهم أو كلماتهم في إزهاق أرواح، أو سفك دماء حرام، أو حتى تضييع حاضر وطن ومستقبله، أولئك الذين يحرضون على الأحرار من معتصمي ميادين مصر وكأنهم أعدى الأعداء، أو العدو الذي لا عدو غيره.

الانغراس في الميدان
معتصمو ميدان رابعة ككل واحد فينا لهم ظروفهم الحياتية، وأحوالهم وأعمالهم ومعايشهم وعائلاتهم، وكلها قيود تربط الإنسان بأماكن وأزمنة بعينها، وليس من اليسير أن يقتلع الإنسان نفسه من ظرفي الزمان والمكان اللذين يرتبط بهما في نشاطه اليومي المعتاد لينغرس في بيئة أخرى.

إن الانتقال من المألوف إلى غير المألوف في عمومه عسير، حتى وإن كان من بيئة وظروف إلى أفضل منهما، وقد يسوَّغ في حق أفراد معدودين أن يتحملوا صدمة النقلة البيئية المفاجئة، لكن أن ينتقل عشرات الآلاف من البشر في موكب جماعي من حياتهم المنظمة المرتبة، وبيوتهم التي اعتادوها، وبرامجهم اليومية التي ألفوها، ليلتحفوا السماء، ويفترشوا الأرصفة، ويضربوا خيامهم بين البنايات، وفي جذور أسوارها، وعلى جانب الطريق حينئذ لا بد أن يكون شيء عظيم وعظيم جدا قد دفعهم إلى هذا.

إن كلمة السر التي أخرجت هؤلاء هي "الحرية" التي يؤدي فقدها ببعض الطيور إلى الانتحار، وبطيور أخرى إلى العقم حتى لا يولد لها نسل في الأسر!! الحرية التي من ذاقها عرفها، ومن عرفها اكتشف فداحة الاستبداد، وعاين الفرق بين الموت الذليل والحياة العزيزة، بل بين الموت العزيز والحياة الذليلة!.

فرق كبير بين أن تسعى في مجتمعك تبحث لأفكارك الجميلة وآرائك النيرة عن مجال لتطبيقها، ولنشاطك البدني عن متنفس حر، ولمهاراتك المختلفة عن فرصة توظيف ملائمة، لتحجز لنفسك بجدارة موقعا يكافئ مواهبك وقدراتك، فرق بين هذا وبين أن تعد عليك أنفاسك، وتراقَب ألفاظك وكلماتك، وتقدمك المحسوبية لا الأهلية والجدارة، ويسود منطق السلطة المطلقة لا منطق القانون، ولغة السلب والنهب لا لغة المشروع الوطني الذي يحوي الجميع.

هجر القاطنون الجدد لرابعة العدوية مضاجعهم، وليسوا جميعا فقراء، ولا أغنياء، وليسوا جميعا موظفين ولا عمالا وتجارا، وليسوا جميعا رجالا ولا نساء وأطفالا، بل ليسوا جميعا مصلين صائمين، ولا تاركي الصلاة أو الصيام.. بل هم خليط من كل هؤلاء، وهذا يعني أنهم الشعب كله، وليسوا فئة منه، ولا فريقا من أبنائه.

في رحاب رابعة ترى وجوها بعدد مدن مصر، وربما قراها، وتسمع لهجات تتفاوت بين لكنة أسوان ولهجة القاهرة ولسان الإسكندرانية.. ترى الجلباب الصعيدي، والثوب النوبي، والزي الأزهري، والعقال السيناوي، والقميص والبنطال، والحُلة الكاملة، وغير ذلك.

يُنادَى هناك على الطبيب والجرّاح والممرض عند الحاجة إليهم فيستجيبون، وعلى الكهربائي والسباك والبناء فيسارعون.. وبين الشهداء والمصابين طلاب وأطفال ونساء ورجال أعمال وأساتذة جامعات وأئمة مساجد.. هو الشعب إذن رماهم بفلذات أكباده!

ما تراه في رابعة هو طبخة ثورية كبيرة بطعم رمضان وتراويحه، بمذاق القرآن وصلاة التراويح ودعاء السحر.. كما رابعة العدوية كانت

ليس ساكنو رابعة الجدد مجتمعا هابطا من السماء، ولا هم جماعة من الملائكة في زيارة عاجلة للأرض، ولا أبطالا أسطوريين في فيلم كارتوني حطوا بسفينتهم الفضائية على كوكبنا، بل هم من جذور الأرض خرجوا، ومن رحمها وُلدوا، حتى ضمهم رحم (رابعة) الحنون، هم أبناء النخيل والرمال، أبناء الحشائش الخضراء وسنابل القمح، أبناء مكاتب المؤسسات ودكاكين البقالة وأسواق الفاكهة، هم كل فئات المجتمع المصري.

هم أشجار نخيل انغرست في الميدان، تتمايل مع نغمات الحرية، وتترنم بهتافات الحرية، وتغني أناشيدها، وتنادي الشهيد من بُعده القريب ومن قربه البعيد، فتفهم عنه، ويفهم عنها، لكن الطغاة لا يفهمون؛ لأن لكنتهم صهيونية، ولهجتهم أميركية، وبزتهم مغشوشة بلون الجندية.

رابعة ورابعة
ما تراه في رابعة هو طبخة ثورية كبيرة بطعم رمضان وتراويحه، بمذاق القرآن وصلاة التراويح ودعاء السحر.. كما رابعة العدوية كانت.

في هذه الطبخة حملت طائفة من البشر أقدار وطن -ويزعمون أمة!- على أكفها، هي أجسام مختلطة: طويلة وقصيرة، سمينة ونحيفة، سمراء وشقراء، سوداء وبيضاء.. في فؤادها جراح الوطن محمولة، يزورها الخوف، لكن حلم الشهادة يعود فيطمئنها، من جديد يضغط الخوف على فؤادها، فتعود وتتذكر مصير الوطن لو خُطِف منها الحلم، فتعاود صف قدميها في الساحة من جديد.

هي طبخة التقى فيها القومي بالديني، والتاريخ بالواقع، والأحلام بالوقائع.. بدت فيها قامات السادة من الفاتحين الكبار والعلماء والصالحين الأكابر شامخة، وأشباح الطغاة من كل لون وطعم مزمجرة مهدِّدة.. صراع بين تاريخ وتاريخ، وآخر بين واقع وواقع، بين صدق وكذب، بين ثبات لأجل تثبيت أقدام الطغيان وثبات لأجل ركل الطغيان إلى المصير المعتم الجدير به.

رووا عن رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية الزاهدة -مضيفة الثورة العظيمة- أن رجلا طلب منها الدعاء، "فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله؟! أطع ربك وادعه، فإنه يجيب المضطرين".. وليس أكثر اضطرارا من ضيوف رابعة، الذين انقلب حنق السكان القدامى لمدينة نصر وغيظهم منهم إلى حب لهم وبكاء ودموع وشراكة في الدفاع عن قضية الوطن.

فهل هو وطن اختصرناه في بقعة؟ أو وطن حنا "بعضه" على "كله" فاحتواه في سويداء قلبه؟ كيف تجيب "نعم" وكل الوطن رابعة، صعيده وقاهرته وبحريّه وشرقيه وغربيه، والشوارع كلها تلد موجات وراء موجات من الثورة، ولكن العيون التي لا تريد أن ترى -يا سيدي- لن ترى!!

كانت رابعة تقول: "اللهم قد وهبت لك من ظلمني، فاستوهبني ممن ظلمتُه".. رابعة لا تريد بالظلم أكثر من لفظ فيه غيبة، أو درهم مسلوب، أو نظرة عين غير عادلة، أما أضيافها الذين حملتهم في أكف ميدانها، فهم الوجلون المتوجسون على مستقبل أمة من جبال ظلم تريد أن تهبط عليها، الخائفون على هوية وطن، على كرامة شعب، فهل يمكنهم أن يسامحوا القاتل؟!

لا يزعم "الربعويون" أن اعتصامهم غير قابل للفض، فهذا إلى الله وحده، لكنهم يزعمون أن ما بناه الله في نفوسهم، من حب الشهادة والصمود أمام زخات الرصاص والقدرة على الاحتشاد من جديد، لن يهدمه البشر

فض الاعتصام
الاعتصام في رابعة طلبا للحرية المسروقة ليس بأن تتكوّم في مكان تخلد فيه إلى النوم، ولكن أن تصنع حياة جديدة تدفع في اتجاه تحقيق الحلم، فمع أمومة رابعة لكل من نام على أرصفتها، وافترش طرقاتها، فإن العودة والانتشار في عموم الوطن، وحمل أمانته بأمانة هو الواجب التالي الذي سيؤدي إلى توديع ذرات تراب رابعة بالدموع المنسابة من عمق أعماق النفوس.

نحن -إن أردت أن تسمع صوت الميدان- نريد أن ننفضّ، ولكن على شرط أن يكون في يدنا أحد نيشانين: الشهادة (شهادة التخرج من الميدان بدماء يسفكها البغي والجبروت)، أو شهادة نجاة الوطن من يد الطغاة، وزوال ظلالهم الكالحة عن هذه الحياة أو عن أرض الوطن الذي لا يريد أن يحتضن جثثهم النتنة.

كل ما يهم الطغاة هو أن يفضوا الاعتصام، وما علموا أنه مبنيّ في النفوس قبل أن يكون مبنيا في رحاب رابعة العدوية، وأن رابعة وأمثالها من الميادين حين احتضنتهم فتحت لهم مدرسة للفداء والوطنية والشهادة، حتى كان دم الشهيد في وعيهم أعلى صوتا من الرصاصة التي اغتالته، وأنه يحشد الناس بموته (أو حياته الباقية) أكثر مما يحشدهم بحياته الفانية.

لا يزعم "الربعويون" أن اعتصامهم غير قابل للفض، فهذا إلى الله وحده، لكنهم يزعمون أن ما بناه الله في نفوسهم من حب الشهادة والصمود أمام زخات الرصاص، والإقبال حين تقبل، والقدرة على الاحتشاد من جديد لن يهدمه البشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.