عن شرعية وشبهات المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية

عن شرعية وشبهات المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية

undefined

يثير استئناف العملية التفاوضية الفلسطينية الإسرائيلية، العديد من التساؤلات والشكوك والشبهات حول سلامة صنع القرار في الساحة الفلسطينية، وطريقة تحديد الخيارات السياسية، فضلا عن عقلانيتها وشرعيتها وجدواها.

اللافت أن هذا القرار صدر بعد أن شاعت الأخبار عن تحفظ اللجنة المركزية لفتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقيادات الفصائل، على استئناف المفاوضات، ورفضها التجاوب مع الضغوط الأميركية بهذا الشأن، باعتبار أن اسرائيل لم تستجب للحد الأدنى المطلوب منها لتسيير عجلة المفاوضات، وضمنه وقف الأنشطة الاستيطانية في الضفة، والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة لهم، في أراضيهم المحتلة في الرابع من يونيو/حزيران1967.

طبعاً، ليست هذه المرة الأولى التي يحصل فيها الأمر على هذا النحو، إذ كان الرئيس محمود عباس أبو مازن وقّع قبل أسابيع فقط على اتفاقية تمنح الملك عبد الله عاهل المملكة الأردنية الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس، في سابقة فريدة من نوعها، تخلّ بالمكانة التمثيلية للمنظمة، من وراء الأطر والهيئات القيادية "الشرعية".

وبديهي أن هذا وذاك يذكراننا أيضاً بالمفاوضات السرية التي تم "طبخها" قبل عقدين في أوسلو 1993، بعيداً عن قيادات "فتح" والمنظمة والفصائل، والتي نجم عنها الاتفاق الذي قامت بموجبه السلطة، والذي جاء مجحفا وناقصا ومهينا بالنسبة لحقوق الفلسطينيين.

طبعا لا تكمن المشكلة في انتهاج خيار المفاوضات في حد ذاته، فهذا خيار يمكن أن تفضي إليه كل الصراعات، بما فيها التي تخوضها حركات التحرر الوطني. وهذا يعني أيضا أنه ليس ثمة اعتراض من حيث المبدأ على المفاوضات، وإنما الاعتراض يكمن في مسائل جوهرية أخرى، أهمها:

أولا: أن الطبقة السياسية الفلسطينية التي ستدير المفاوضات لم تفلح من البداية في هذا الأمر، أي منذ عقدها اتفاق أوسلو، الذي تضمن إجحافا خطيرا أضر بحقوق الشعب الفلسطيني، إذ لم ينص على وقف الاستيطان، ولا على توصيف إسرائيل باعتبارها دولة احتلال، ولا على تعريف الضفة وغزة كأراض محتلة، ولا على تحديد مآلات الحل النهائي، ولا على جدول زمني ملزم.

والأنكى أنه قسم الضفة إلى ثلاثة أجزاء، وأخضع الاقتصاد الفلسطيني للاتفاقات مع إسرائيل، ناهيك عن التنسيق الأمني.

ثانيا: أن هذه الطبقة لم تفلح أيضا في إدارة كفاح الفلسطينيين، ولا في استثمار تضحياتهم على النحو الأمثل والأقل كلفة، لا في الداخل ولا في الخارج، لا بالمقاومة المسلحة ولا بالتسوية، لا بالانتفاضة ولا بالمفاوضات، لا في بناء المنظمة ولا في بناء السلطة. وها قد نجمت عن ذلك تجزئة شعب فلسطين، وتجزئة قضيته، وتجزئة أرضه، وحال الانقسام في النظام الفلسطيني، وتآكل مكانة قضية فلسطين على الصعيدين العربي والدولي.

ثالثا: حتى في المفاوضات كانت ثمة خيارات أخرى جرى التفريط فيها بطريقة مزاجية ومتعمدة، ومن غير دراسة أو تبصر.

فمثلا تمت مغادرة مفاوضات "مدريد" التي كان يخوضها وفد من فلسطينيي الضفة والقطاع، لصالح الانخراط في مفاوضات سرية في "أوسلو" بوفد من منظمة التحرير. وبعد إقامة السلطة تم تهميش المنظمة لصالحها من دون أي سبب، مما أضر بوحدة شعب فلسطين، وبوحدة قضيته ومصيره.

وفي العام 2000 ذهبت القيادة إلى مفاوضات كامب ديفيد2 قبل إنجاز الحل الانتقالي، وبعد فشل هذه المفاوضات تم إشعال الانتفاضة الثانية التي جرى تحويلها إلى مقاومة مسلحة، ثم إلى عمليات تفجيرية، دون التحكم بها بالشكل وبالوقت المناسبين.

تدخل إسرائيل هذه المفاوضات بشروطها، أي دون تقديم أي تنازلات بشأن وقف الاستيطان، أو الاعتراف بحق الفلسطينيين المشروع في أرضهم
رابعاً: مشكلة هذه المفاوضات أنها تأتي في ظروف ومعطيات دولية وإقليمية وعربية غير مواتية البتة بالنسبة للفلسطينيين، وفي ظل انحسار مكانة القضية الفلسطينية في سلم الاهتمامات العربية والدولية، مع انشغال العالم العربي بثوراته، وبالتحولات والاضطرابات السياسية الجارية فيه، وانشغال الفاعلين الدوليين بتداعيات هذه الثورات، وبالأزمات والأولويات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها بلدانهم.
 
خامساً: على الصعيد الإسرائيلي فإن الأحوال أسوأ بكثير مع وجود حكومة يمينية متطرفة قومياً ودينياً، وانحسار اهتمام الإسرائيليين بأحوال الفلسطينيين، بسبب ضمور التيارات اليسارية والمعتدلة، وعلى خلفية تراجع كل أشكال المقاومة في الضفة والقطاع، وبحكم تخفيف الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة، بعد بناء الجدار والطرق الالتفافية والأنفاق والجسور التي فصلت فعلا بين الطرفين، وخلقت واقعاً من الاحتلال المريح والمربح بالنسبة للإسرائيليين.

وبالمحصلة، فإن إسرائيل تدخل المفاوضات بشروطها، أي دون تقديم أي تنازلات بشأن وقف الاستيطان، أو الاعتراف بحق الفلسطينيين المشروع في أرضهم، أقله تلك المحتلة عام 1967.

وعلى العكس، فإسرائيل هي التي تشترط على الفلسطينيين، فهي التي باتت تصر عليهم وتطالبهم بالاعتراف بها كدولة يهودية حصرا، وعلى اعتبار أولوياتها أهم من حقوق الفلسطينيين.

سادسا: المشكلة أيضا تكمن في استئناف المفاوضات في ظل حال الضياع الفلسطيني، وفي ظل واقع الاختلاف والانقسام في النظام السياسي الفلسطيني، وتهميش منظمة التحرير، الكيان المعنوي الجامع لعموم شعب فلسطين في الداخل والخارج، وغياب كل أشكال المقاومة في مواجهة الاحتلال والاستيطان.

هذا فضلا عن إخراج كتلة واسعة تتمثل باللاجئين الفلسطينيين من معادلات موازين القوى، المتعلقة بالصراع ضد الإسرائيليين، بعد اختزال قضية فلسطين في الأراضي المحتلة في الضفة وغزة عام 1967.

سابعا: فوق كل ذلك، فإن ما يضعف من مركز القيادة الفلسطينية أن هذه المفاوضات تأتي في ظل ارتهانها لخيار السلطة والمفاوضات وحده، من دون اعتماد أي ضغوط أو خيارات أخرى، سواء كانت بديلة أو موازية، وهذا أمر غير معقول في الصراعات السياسية.

ومعلوم أن هذا يحصل في واقع باتت فيه السلطة تدين بمكانتها السياسية ومواردها المالية للدعم المتأتّي من الدول المانحة والدول الراعية لعملية السلام، وهي دول تأخذ في اعتبارها حساسيات إسرائيل وحساباتها أكثر بكثير مما تأخذ فيه حقوق الفلسطينيين وقضيتهم العادلة.

ثامنا: الأنكى من كل ما تقدم أن هذه المفاوضات تتيح لإسرائيل -بعد أن ضمنت التسليم بـ"حقّها" بالوجود في أراضي 1948- منازعة الفلسطينيين على حقهم في الضفة الغربية، لانتزاع مزيد من الأراضي، وتشريع مزيد من الإجراءات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تتيح لها التحكم بهم، وتقييد أي تطور لكيانهم، وخاصة بعد أن قطَّعت أوصال الضفة بالجدار والجسور والأنفاق والطرق الالتفافية.

الآن، ينبغي أن يكون واضحا للموافقين وللمعترضين من الفلسطينيين أنه بمفاوضات أو من دونها فإن وضعهم في الداخل (والخارج) لن يتغير كثيرا، لأن الأمر يتعلق بموازين القوى، وبالمعطيات الدولية والإقليمية، وبأحوال إسرائيل وتوجهاتها، لاسيما مع وقفهم كل أشكال الضغط والمقاومة في الضفة والقطاع، ومع حال الوهن والانقسام والتشتت في أوضاعهم.
 
فقط قد ينجم عن هذه المفاوضات مجرد تحسين شروط عمل الطبقة السياسية السائدة في إدارتها لسلطتها، لاسيما مع حصار غزة، وتكريس تقسيم الضفة إلى كانتونات.

والمعنى أنه في الحالين سنبقى إزاء واقع من نشوء نظام "أبارتهايد" في الأراضي المحتلة، قد يأخذ طابعا "شرعيا" مع تسوية أخرى ناقصة ومجحفة ومهينة، أو قد يحصل ذلك بدون مفاوضات، أي بحكم الأمر الواقع.

ثمة فرق بين تسوية تتأسس على تكريس الظلم والإلغاء والامتهان، وتسوية تتأسّس على الحق المشروع بالحرية والهوية والكرامة والمساواة والعدالة

والقصد أن الوضع الفلسطيني إزاء إسرائيل بات عقيما مع الانقسام وترهل السلطة، وتهميش منظمة التحرير، وتقادم الطبقة السياسية، وعدم البحث عن خيارات أخرى، ووقف كل أشكال المقاومة.

الفرق هنا يبقى فقط في إصرار القيادة على الذهاب من إحباط إلى إحباط، ومن فشل إلى فشل، أو البحث عن خيارات أخرى قد تبعث الإلهام وتحث على الأمل.

أما بشأن التسوية أو المفاوضة تحديداً، فمن المفهوم أن لا صراعات ولا ثورات ولا حروب إلى الأبد، فلم تعد في هذا العصر، ولا في هذا العالم صراعات وجودية، فهذا النمط من الصراعات القديمة تجاوزته البشرية.

مع ذلك فثمة فرق بين تسوية تتأسس على تكريس الظلم والإلغاء والامتهان، وتسوية تتأسّس على الحق المشروع بالحرية والهوية والكرامة والمساواة والعدالة.

إذن القصة لا تتعلق هنا برفض التسوية أو المفاوضة لمجرد الرفض، ولا باستدعاء بديل آخر هو الحرب، أو العودة إلى المقاومة المسلحة في ظروف باتت مستحيلة، بدليل وقفها في الضفة وغزة.

والمقصود أن ثمة خيارات أخرى بين هذين الحدّين المتناقضين، فثمة حق الفلسطينيين المشروع في العمل والكفاح بكل الوسائل من أجل حقوقهم كبشر، وثمة التعويض عن موازين القوى بتحويل الصراع من صراع على الوجود إلى صراع على معنى الوجود، ومن صراع على مجرد بقعة أرض هنا أو هناك، إلى صراع حول الإنسان وحقه في العيش بحرية وكرامة ومساواة، حسب ما يتماشى مع المعايير الدولية، ويكشف إسرائيل على حقيقتها، ويضعها أمام تحدّي كونها دولة عنصرية، واستعمارية، ودينية، الأمر الذي يمكن أن يفاقم التناقضات في مجتمع الإسرائيليين من جهة، ويعيد التطابق بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين، بعد أن تمت تجزئة كل من القضية والأرض والشعب.

وكي نكون منصفين في رؤية أحوالنا، ينبغي أن ننتبه إلى أن العجز الفلسطيني المزمن على صعيد الفكرة والبنية والأداء، إنما هو نتاج عوامل أساسية عدة، ضمنها: احتساب إسرائيل في هيكل النظام الدولي على القوى العظمى المتحكمة في العالم، واعتبارها ضمن إطار قوى الحداثة والتحديث والديمقراطية فيه، وافتقار الفلسطينيين -على تشتّتهم- إلى حاضنة عربية مناسبة، وتفوّق الإسرائيليين عليهم في موازين القوى والإدارة والتنظيم، هذا دون أن نغفل العوامل الذاتية، أي حصة القيادة والإدارة، التي أسهمت في مفاقمة كل ذلك.

السؤال المطروح لماذا لا تقوم القيادة احتراما لشعبها بمفاتحته بتعقيدات الوضع، وبالتحديات المطروحة، ومصارحته بما هو ممكن وما هو غير ممكن، لإشراكه بتقرير مصيره، وتحديد خياراته

ولعل أهم ما ينبغي للفلسطينيين إدراكه اليوم هو أن إسرائيل تفاوضهم على كل بقعة أرض، وحتى على حقهم في الضفة (22% من فلسطين)، فلم لا يتم قلب الطاولة بالتحول نحو مفاوضتها ومقاومتها على حقوقهم كبشر، وعلى حقهم المشروع في كل فلسطين، في دولة ديمقراطية علمانية، أي دولة مواطنين متساوين وأحرارا.

فهذا مشروع من شأنه إعادة الاعتبار للتطابق بين فلسطين، القضية والأرض والشعب، لاسيما بعد أن كاد الفلسطينيون يبدون بمثابة شعوب عديدة (48+67+ لاجئين).

وهذا المشروع يسهم أيضاً بحل المسألة اليهودية في فلسطين، ويطرح التحدي على إسرائيل بين هذا الخيار، أو اعتبارها مجرد دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، تسير عكس عجلة التاريخ.

وفي كل ذلك يصبح المشروع الوطني الديمقراطي التحرري الفلسطيني -الذي يتناسب مع المعايير والقيم العالمية وحركة التاريخ- في مواجهة مشروع إسرائيل الاستعماري والعنصري والديني.

على أية حال، فإن الشعب الفلسطيني الذي دفع أثماناً باهظة لكل الخيارات التي اتّخذتها هذه القيادة منذ عقود، من عمره، وحياته، ومقدراته، يستحق أن يعرف ما يجري حقاً. والسؤال الآن، لماذا لا تقوم هذه القيادة بالتعبير عن احترامها لشعبها، بمفاتحته بتعقيدات الوضع، وبالتحديات المطروحة، ومصارحته بما هو ممكن وما هو غير ممكن، لإشراكه بتقرير مصيره، وتحديد خياراته؟

مع ذلك -ورغم كل ما يجري- ينبغي القول بأن قضية فلسطين لن تنتهي بدون حلول تتأسس على الحقيقة والحرية والعدالة، لا بمفاوضات ولا باتفاقات، ولا بتوقيعات، ولا بما هو دون ذلك. فالفلسطينيون لن يذهبوا من هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.