تصحيح تقويم للعلاقة القومية الإسلامية

تصميم - العنوان: تصحيح تقويم للعلاقة القومية-الإسلامية - الكاتب: منير شفيق - الاقتباس: القول بأن العلاقة بين الإسلاميين والقوميين قامت على التكاذب استنادا إلى ما آلت إليه يسقط من حسابه الجدية في التشارك من قبل الطرفين أو أحدهما

undefined

 

آلت العلاقة التحالفية أو شبه التحالفية بين التيارين القومي والإسلامي خلال عشرين سنة امتدت من أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى أوائل العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين إلى علاقة تصادمية وصراعية حادّة في أكثر من بلد عربي وحول أكثر من قضية، كما يحدث بصورة عامّة.

وبدلاً من أن تُقرأ هذه العلاقة خلال العقدين المنصرمين بأنها نجمت عن ظروف ومعادلات موازين قوى، وتحديات موضوعية وذاتية، وكانت جادّة من قبل الطرفين وتحققت في ظلها إنجازات وانتصارات، ذهب البعض إلى اتهام الطرفين أو أحدهما بالتكاذب والخداع خلال تلك المرحلة. الأمر الذي يتضمن التشكيك في النيات.

بدلاً من أن تقرأ العلاقة بين الإسلاميين والقوميين خلال العقدين المنصرمين بأنها نجمت عن ظروف ومعادلات موازين قوى، ذهب البعض إلى اتهام الطرفين أو أحدهما بالتكاذب والخداع خلال تلك المرحلة

أما الدليل فهو ما آلت إليه تلك العلاقة الآن من تصادم وانقسام وصراعات حادة. فالمنطق هنا يقول لو لم تكن العلاقة تكاذبية وخداعية أصلاً لما آلت إلى ما آلت إليه اليوم. أي أن دليل تلك التهمة مُهينٌ للطرفين سواء أكان الكاذب أو المخادع أو المكذوب عليه والمخدوع.

هذا إذا أُعفي أحدهما من تهمة التكاذب والمخادعة. لأن الآخر يكون قد أُهين بعقله وحيطته وحسن تقديره للأمر طوال عشرين عاماً حين لم يكتشف التكاذب ومرّ عليه الخداع. أما إذا كان الطرفان يتكاذبان ويتخادعان بالقدر نفسه فالتهمة أشدّ إهانة وتحقيراً.

هذا الدليل حين يستند إلى ما يحدث الآن في الحكم على ما حدث بالأمس يسقط من حسابه وقائع الأمس بالنسبة إلى تلك العلاقة، ولا يدخل في حسابه ما قام به من موازين قوى وتحديات وظروف أوجبت أو هيّأت لإقامة العلاقة التحالفية أو شبه التحالفية طوال عشرين عاماً تقريباً ومن ثم قامت العلاقة من قبل الطرفين على أساس قناعة جادة، وتُرجمت عملياً بالوقوف في الخندق الواحد في تأييد أو دعم المقاومات في لبنان وفلسطين والعراق مثلاً، أو معارضة السياسات الأميركية أو مواجهة التواطؤ مع السياسات الأميركية، أو مناهضة مشاريع التطبيع، مثلاً، وأيضا تعزيز جبهة المقاومة والممانعة على سبيل المثال كذلك.

وكانت أطراف من التيارين خلال تلك المرحلة ذاتها تتخالف وتتصارع وتتنافس في أكثر الحالات التي عرفت، مثلاً، انتخابات نقابية أو برلمانية على المستوى القطري فيما تكون في الآن نفسه متلاقية ومتحالفة على مستوى الموقف من المشاريع الاستعمارية أو التطبيعية أو على مستوى دعم المقاومة والممانعة ومواجهة العدوان الصهيوني والأميركي. الأمر الذي يسقط من خلال الوقائع في الحالتين تهمة التكاذب والمخادعة المشتركة من قبل الطرفين، أو من قبل أحدهما.

الحياة السياسية والاجتماعية والشخصية والاقتصادية مليئة بما لا يحصى من حالات الشراكة في ما بين طرفين أو أكثر وحتى في حالات الحب والزواج أو الصداقات، والتي تؤول بعد ردح من الزمن، قصير أو طويل، إلى خلاف وانفصال وشقاق من دون أن تعني أنها قامت منذ البدء ومن خلال مسارها التشاركي على التكاذب والخداع.

فالقول إنها قامت على التكاذب والخداع أصلاً وذلك استناداً إلى ما آلت إليه يُسقط من حسابه الجدية في التشارك من قبل الطرفين أو أحدهما. أي يُسقط وقائع بحكم فوقي على ما كان من وقائع وشروط أودت إلى فك التشارك والانتقال إلى الخصومة والصراع.

صحيح أن هنالك علاقات تشارك كثيرة تقوم في الحياة وأحد الطرفين أو كلاهما يخادع الآخر أو يتآمر عليه منذ البداية وطوال مرحلة التشارك. ولكن دليل ذلك يستند إلى وقائع وحقائق منذ البداية وطوال الحكاية، وليس استناداً إلى لحظة انفجار الخصومة والصراع. وهذا عادة يجب أن يكون مكشوفاً منذ اللحظة الأولى بقليل من البصيرة وحسن تقدير الموقف. وقد يكون أحياناً مكشوفاً طوال الوقت للطرفين بأنهما يمكران لبعضهما مكرا.

يجب أن تُقرَأ كل مرحلة في العلاقات التشاركية أو في الخصومة استناداً إلى وقائعها وتفسّر الحالة الثانية من خلال ما استجد من ظروف وموازين قوى ووقائع جديدة، كما تفسّر الحالة الأولى من خلال ما ساد من ظروف وموازين

ماذا يمكن أن يقال بانشقاق الحزب الواحد إلى حزبين متصارعين أو ولادة تيارات متصادمة من قلب تيار واحد؟ ثمة من يتجه إلى تفسير ذلك بالتكاذب والتخادع وحتى التآمر منذ البداية، بما في ذلك في مرحلة التأسيس، أو الشباب عندما كان الطرفان يداً واحدة، وقلباً واحداً، في مواجهة رصاص تفريق المظاهرات أو الصمود المشترك في السجون لسنوات أو حتى الصعود إلى الجبل سوياً وقد وضعوا حياتهم على أكفهم.

كثيراً ما ذهب البعض من الذين عاشوا تجربة انشقاق الحزب الواحد أو التيار الواحد إلى اتهام الطرف الآخر بأشنع التهم عائداً بها إلى الأيام الأولى. وذلك بدلاً من أن يتعامل مع العلاقة التصادمية المستجدة بأنها وليدة متغيّرات لمرحلة جديدة من دون أن يحرم الخصم من الجدية والصدق قبل أن تقع الخصومة.

وهذا ينطبق على كثيرين من الأفراد الذين ينخرطون في النضال في مرحلة الشباب أو الثانويات والجامعة، ثم يدخلون بعد بضع سنين، أو أكثر قليلاً، إلى مرحلة جديدة تغرقهم في انشغالات خاصة، أو مساومات سياسية، أو مطامح مادية، فهل نتهمهم منذ البداية بالتكاذب والتخادع، أم نقرّ لهم بصدقهم، ومنهم من كان من الممكن أن يكون شهيداً رمزاً للنضال والتضحية ونكران الذات. ومن ثم نفرق بين المرحلتين.

وبكلمة يجب أن تُقرَأ كل مرحلة في العلاقات التشاركية أو في الخصومة استناداً إلى وقائعها، وتفسّر الحالة الثانية من خلال ما استجد من ظروف وموازين قوى ووقائع جديدة، كما تفسّر الحالة الأولى من خلال ما ساد من ظروف وموازين قوى ووقائع، ويجب أن يضاف ما يسود في الحالتين من مناخات فكرية ونفسية عامة.

طبعاً البعض يُحب أن يفسّر ما يحدث من متغيرات في المواقف إلى الحيثيات وليس إلى ما استجد ويستجد من متغيرات ووقائع تغيّر في المواقف والعلاقات.

الذي لا يلحظ عمق المتغيّرات التي حدثت في موازين القوى قطرياً وعربياً وإقليمياً ودولياً بين مرحلتي العقدين الماضيين: أوائل التسعينيات حتى نهاية 2010، والمرحلة التي ابتدأت من 2011 إلى اليوم، يذهب إلى ذلك التحليل السطحي أو التفسير التبسيطي أي التكاذب والتخادع في فهم تطورات العلاقات في ما بين التيارين القومي والإسلامي من حالة التحالف أو شبه التحالف إلى حالة التصادم والخصومة والصراع الحاد.

علماً أن هذه بدورها في طريقها إلى مواجهة متغيّرات جديدة في موازين القوى قطرياً وعربياً وإقليمياً ودولياً ونشوء مناخات فكرية ونفسية عامّة جديدة، قد تعيد، وأغلب الاحتمال ستؤدي إلى علاقات تحالفية، أو شبه تحالفية، بين التيارين القومي والإسلامي وستكون من نمط جديد.

فالظواهر السياسية والاجتماعية والعلاقات في ما بينها، تشاركاً وخصومة، ترابطاً وانفكاكاً، أكثر جدية من أن تقوم على التكاذب والتخادع، كما أن العوامل والمعادلات التي تلد في أكنافها المواقف، أو تتبدّل المواقف أكثر خصوبة وثراءً في تنوعها وتأثيراتها من أن تُحكم بالجينات، أو الرغائب، أو التآمر، ولا سيما حين تتحدث عن تيارات وأحزاب وجماعات وأنظمة ومجتمعات ودُوَل وليس عن أفراد بعينهم.

فالتياران كان جادين في علاقاتهما خلال العشرين سنة التي سبقت العام 2011 وكانا محكومين ليس بالوعي والإرادة فحسب وإنما أيضاً بمعادلات موازين القوى والظروف والتحديات التي سادت في حينه، كما قاوما، كلاهما، مغريات كثيرة تحثهما على التصادم والاختلاف، بل كانت ثمة تضحية من الطرفين حين توافقا وتحالفا لمواجهة هجمة أميركية صهيونية ركع الكثيرون أمامها، وهرولوا لاسترضائها، أو الهروب من تحديها وغضبها. فالتشارك بين التيارين في تلك المرحلة لم يكن ترفاً، أو نزهة، أو مغنماً، وإنما قبضاً على جمر فكيف يكون تكاذباً ومخادعة.

مع ما يمكن أن تثبته الأيام من صواب أو أخطاء في إدارة الصراع في الظروف الجديدة من قبل القوى الإسلامية والقومية والوطنية واليسارية،  تظل المسألة أكثر جدية من هذه التبسيطية المخلة

أما المرحلة الراهنة ومنذ اندلاع الثورتين وانتصارهما في تونس ومصر، وما تلاهما من ثورات وثورات مضادة، وما تولّد من موازين قوى جديدة قطرياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، وما فرضته، أو أدّت إليه المراحل الانتقالية من صراعات تتعلق ببناء أنظمة جديدة، ومع تراجع كبير لدور القوى التي سيطرت على العالم والمنطقة خارجياً وإقليمياً وعربياً وقطرياً في المراحل السابقة ومع تقدّم قوى جديدة لتحلّ محلها في السيطرة.

ثم مع ما يمكن أن تثبته الأيام من صواب أو أخطاء في إدارة الصراع في الظروف الجديدة من قِبَل القوى الإسلامية والقومية والوطنية واليسارية، هو الذي يفسّر مآل العلاقات في ما بين القوى الإسلامية والقومية (والوطنية واليسارية) وليس التكاذب والتخادع، فالمسألة أكثر جدية من هذه التبسيطية المخلة التي راح يقول بها بعض الإسلاميين وبعض القوميين.

فالذين أسسّوا وانضموا إلى المؤتمر القومي الإسلامي أو فتحوا عضوية المؤتمر القومي العربي للإسلاميين، وشاركت أحزابهم في المؤتمر العام للأحزاب العربية، أو تشاركوا في المؤتمر العربي العام الذي ضمّ هؤلاء جميعاً، وجمهرة الهيئات والنقابات والمنظمات الشعبية، ومؤتمرات القدس والجولان ودعم المقاومة، وإطلاق الأسرى ما كانوا لاعبين وما ينبغي لهم أن يكونوا.

فقد كان الأمر جداً، يوم كان التشارك، ويوم قامت وتقوم الخصومة، ويوم يعود التشارك، ومن يعش يَرَ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.