إسرائيل تتفرج على تآكل حزب الله

إسرائيل تتفرج على تآكل حزب الله

undefined

نموذج القصير
دفة المعركة
الحريق الطائفي

تحدثنا الشهر الماضي في هذه الصفحة عن مآلات الموقف الإسرائيلي من الثورة السورية، وتفضيلاتها المرجحة لبقاء حالة الاستنزاف المتواصلة بين النظام والمعارضة، لتتحول سوريا مع مرور الوقت إلى دولة فاشلة.

السطور التالية ستناقش وجهاً آخر يتعلق بانغماس حزب الله في القتل الحاصل داخل الأراضي السورية، إلى جانب النظام، وكيفية تقييم الموقف الإسرائيلي له، والتعبير الأكثر رواجاً هذه الأيام حول ما بات يسمى" تآكل" الحزب، وتراجع دوره القتالي ضد إسرائيل لاعتبارات مذهبية وسياسية تتعلق بأوامر إيران!

نموذج القصير
التقدير الإسرائيلي السائد في تل أبيب هذه الأيام أن الغلبة الميدانية الأخيرة في الصراع لم تكن لتتحقق للأسد، دون أن يحظى بدعم قوي من إيران سياسياً وعسكرياً، ومن حزب الله قتالياً، بعد أن بدا محبطاً ومكتئباً في الأسابيع الماضية عندما قصفت إسرائيل أهدافاً قرب دمشق، لكن معنوياته ارتفعت مرة واحدة، بعد "انتصاره" في القصير، الذي أعلن عنه حسن نصر الله من بيروت، وكأن المعركة معركته، وهو ما يعني أن الأسد يشعر أنه مدين جداً للحزب على المساهمة المهمة التي قدمها مقاتلوه لنجاحه في عدد من المواجهات.

من الخطأ المبالغة في قيمة انتصار النظام والحزب في القصير، لأن هذا النجاح لا يمكن أن يرجح الكفة في صالحهما بشكل يؤدي لهرب الثوار المسلحين إلى مناطق منعزلة وبعيدة

ومع ذلك، فربما يكون من الخطأ المبالغة في قيمة انتصار النظام والحزب في القصير، لأن النجاح جاء بعد سلسلة إخفاقات طويلة في السنتين الأخيرتين، حيث خسر فيها الأسد السيطرة على أكثر من نصف الأراضي السوريّة، وفي هذه اللحظة لا يمكن للنجاح أن يرجح الكفة في صالحه بشكل يؤدي لهرب الثوار المسلحين إلى مناطق منعزلة وبعيدة.

بصورة أو بأخرى، توصلت دوائر نافذة في صنع القرار الإسرائيلي إلى أنه صار واضحاً أن كلمة حزب الله أصبحت العليا في علاقته بالحليف السوري، وهو ما لم يكن على الإطلاق طوال تاريخه منذ قرابة العقود الثلاثة! بفعل ما قام به مقاتلوه من قدرة على تعديل التكتيكات العسكرية بحسب ما تقتضي الظروف، وبالتطور الإستراتيجي، ونجاحه بتحقيق التنسيق بين ثلاث قيادات هي: قوات النظام، مقاتلو الحزب، المليشيات الموالية للأسد كالجيش الشعبي، لاسيما وأن مقاتلي الحزب أفضل تدريباً وتنظيماً من قوات الأسد، ما يعني أن مشاركة قواته في الهجوم على القصير كانت بمثابة المفتاح الذي قلب الموازين.

في ذات الوقت، ورغم "إيجابيات" التحريك الطائفي للنظام على المدى القصير، من خلال رفع رايات حزب الله في المدن السورية، وعلى مآذن المساجد فيها، فإن من شأن ذلك أن يضعضع أي دعم متبق لدى الأسد بين شرائح سنية متواضعة، وهي إستراتيجية تفاداها الأسد الأب بوضوح، لأنه أدرك مخاطر الحكم بالاستناد للأقليات وحدها.

ورغم أن الاستيلاء على القصير، سيسمح لقوات الأسد وحزب الله بالاستعداد لشن هجمات شمالاً وشرقاً لاستعادة مساحات خسرها الجانبان، لكنه سيتزامن بالضرورة مع تراجع فاعلية الحزب مع توغله أكثر في الأراضي السورية، بعيداً عن القرى الحدودية التي تقطنها أكثريات شيعية تسهل وصول الإمدادات، وبالتالي إذا بدا تعثر تحالف الأسد والحزب الذي يستخدم حالياً أقصى طاقاته، في مجهود الاستعادة والاحتفاظ بالأراضي، فستظهر محدوديته، وحينذاك يمكن للثوار البدء بهجوم مضاد يضعهما على مسار تراجعي لا يمكن عكسه.

دفة المعركة
على الوجهة الإسرائيلية، لم يعد سراً أن الحزب يكثف نشاطاته في المناطق القريبة من الجولان، ويسعى لوضع موطئ قدم له في المنطقة، ضمن استعداداته لتنفيذ عمليّات مستقبليّة ضد إسرائيل، لقناعته بأن وضعها غير مستقر، ويسعى لمنع وجود تنظيمات مسلحة إسلامية من المعارضة السوريّة، ما يعني أنّ ما يجري حالياً في سوريا يؤثر على صانع القرار في إسرائيل، وتحديداً ما تحقق في القصير، ودور حزب الله، لأنه تحوّل غير مسبوق، وسيتسبب بانعكاسات واسعة النطاق على مجمل الساحة السوريّة، بما يشمل الجانب المعنوي، وأصل القتال والحرب الدائرة.

تبدو إسرائيل مطمئنة لعدم توجه حزب الله ناحيتها لأنها تعلم، كما يعلم، أن ما يجري في المنطقة عموماً، يؤكد بالضرورة أنه لا يمكن استثناء لبنان من الحريق السوري

وهنا يطرح السؤال: طالما أن حزب الله بات يشعر بتراجع صورته الشعبية لدى الرأي العام العربي، ويعتقد حقيقة بغياب "الكاريزما" التي طالما تمتع بها أمينه العام، فهل يلجأ لتصدير أزمته هذه لإسرائيل؟ وهل يحاول استعادة ما فقده من خلال مواجهة مفتعلة مع الجيش الإسرائيلي؟
لاشك أن إسرائيل تتحسب جيداً لمثل هذا السيناريو، وتقوم بإجراء مناورات تدريبية مكثفة لتفادي وقوعه، لكنها على قناعة أكثر بأن الأوضاع في لبنان تتجه لمزيد من الانفجار، وربما بات البلد فعلاً على شفير حرب أهلية، وهو ما يجعل المواجهة معها آخر ما يفكر به قادة حزب الله على الأقل حالياً.

هنا تبدي تل أبيب ارتياحاً غير عادي لما يمكن أن نسميه اتفاق "جنتلمان" غير مكتوب مع دمشق، منسجماً مع التطمينات التي أرسلتها الأولى إلى الأسد حين قصفت بعض قوافل الأسلحة في قلب الأراضي السورية، وذات الرسائل التي بعثت بها سوريا إلى تل أبيب حين لاحقت بعض المسلحين قرب الحدود الإسرائيلية، وطالما أن حزب الله جزء من منظومة إيران وسوريا، فهذا يعني أن الحلف المذكور غير معني بتصدير أزمته الداخلية إلى إسرائيل، لأنه قد يستجلب رداً دولياً، وتحديداً أميركياً، التي تمنح النظام السوري يوماً بعد آخر فرصة الإجهاز على معارضيه، ولو أعلنت بين حين وآخر كلامها الممجوج بضرورة تنحي الأسد!

أكثر من ذلك، تبدو إسرائيل مطمئنة لعدم توجه حزب الله ناحيتها لأنها تعلم، كما يعلم، أن ما يجري في المنطقة عموماً، يؤكد بالضرورة أنه لا يمكن استثناء لبنان من الحريق السوري، انطلاقاً من انغماس الحزب العلني في القتال الدائر هناك، وتفاخر أمينه العام بذلك، خصوصاً بعد سقوط القُصير في يد جيش النظام بمساعدة مقاتلي الحزب ودعمهم.

وتشير المحافل الاستخبارية الإسرائيلية إلى أن مشاركة الحزب العلنيّة في الاقتتال السوري الحاصل، قد تدفع مقاتليه لعدم التوقف عند حدود القُصير، بل سيكملون مسارهم هذا، ويستمرّون في القتال بجانب جيش النظام في أكثر من موقع ومنطقة، بمعنى أنّ قتالهم في الداخل السوري لن يقف عند حدود معيّنة، وبالتالي فلن يكون لديه قدرة عملية ولوجستية للقتال على جبهتين!

الحريق الطائفي
على الصعيد اللبناني الداخلي، فقد بات واضحاً أنّ تدخل حزب الله في الحرب السورية، حتى قبل سقوط القصير، ساهم بتأجيج الانقسامات المذهبية والإثنية في المنطقة، وبعد تدخله، واحتفاله بسقوط القصير، كما لو كان تحرير مزارع شبعا، زادت حدة الانقسامات بشكل خطير، وظهر ذلك في المواجهات المتقطّعة في لبنان، حيث برز الشلل السياسي والتخبّط الأمني الخطر.

الخطورة في وضع حزب الله، كما تقدر إسرائيل، أنه اعتبر نفسه جزءً متكاملاً من المنظومة الإيرانية في المنطقة، حيث تقف طهران، في هذه المرحلة، أمام مفترق مصيري حاد: فإما أن تعبر بر الأمان بوصفها قوة إقليمية مؤثرة في صناعة السياسة الدولية، أو تبدأ رحلة العودة للانغلاق بين جبال فارس بعد مشوار طموح امتد ثلاثين عاماً، وفي هذا المفترق الصعب والمفصلي ارتضى الحزب لنفسه أن يكون ترساً في العجلة الإيرانية!

ولذلك هناك من يقول إن إيران تشعل سوريا، وفي نفس الوقت تحترق في نار مرجلها، لأن النار السورية ذاتها لم تعد بعيدة من قلب طهران نفسها، فالأمر لا يحتاج أكثر من شرارة لن يطول وقت وصولها إلى "كوم القش" الإيراني، ومن ضمن ذلك أن ارتدادات تدخل حزب الله في سوريا ستكون مرتبطة بنتائجها الطائفية، والكارثية داخل لبنان.

الإسرائيليون يعتقدون أن الحزب عمل على تغليب الاعتبارات الإستراتيجية التي تخصه فيما يتعلق بانخراطه في الحرب السورية، خاصة حفاظه على خطوط الإمدادات الحيوية من الساحل السوري للحزب في لبنان، وتواصله جغرافياً مع سوريا عبر منطقة الهرمل-القصير، إضافة لقطع خط الإمداد اللبناني للمعارضة المسلحة، والسيطرة على الحدود اللبنانية السورية.

لكن الحزب وداعميه، كأنهم نسوا أو تناسوا، أن مشاركته المباشرة الفاعلة والمؤثرة ساهمت إلى حد كبير في تعديل مسار الأمور على الأرض، وشكلت إحدى أبرز مفاجآت الثورة السورية، إلى جانب صدمة السوريين الذين فتحوا بيوتهم وفرشوا أرضهم للبنانيين إبان الحرب الإسرائيلية عليهم عام 2006، وقابلوهم هذه المرة بفتح رشاشاتهم على صدورهم العارية، لحسابات سياسية وطائفية حرقت الحزب بصورة مريعة!

وفي هذه المرة أيضاً، استدعى تورط حزب الله في الحرب السورية الدائرة ردود فعل قوية على المستويات الدولية والإقليمية واللبنانية، لأنه ساهم بتغيير مسار الصراع، وقواعد اللعبة، واخترق خطوطاً حمراء!

الدوائر الإسرائيلية، ومعها بعض الأوساط الغربية والأميركية توجه الأنظار لحزب الله، وما ستؤول إليه تجربته في القصير، التي لا تخلو من مخاطرة ومغامرة، ما دامت المعركة تنطوي على احتمال أن تتحول "حرب استنزاف طويلة"، إضافة للوقوف على كيفية تعاطيه، وتصرفه بعد انتهائها: فهل يعلن انتهاء عملياته العسكرية المباشرة في سوريا، وتكون لحظة الانسحاب المتاحة على خلفية انتصار القصير؟ أم يكمل لما بعد القصير، ويتوغل أكثر في العمق السوري، وينغمس أكثر في الحرب ليصبح طرفاً ثابتاً فيها؟

حزب الله لا يستطيع أن يتمدد على طول الخريطة السورية، حتى لو أراد ذلك، وجاءته الأوامر من طهران، لأن الارتدادات الطائفية والمذهبية في لبنان والمنطقة العربية بدأت

أخيراً.. فإن حزب الله بتدخله العسكري في سوريا لم يرتكب خطأً يمكن تجاوزه فحسب، بل اقترف خطيئة تاريخية، ودخل في مغامرة غير مضمونة النتائج، رغم أن انسحابه وخروجه ما زال متاحاً وممكناً إذا توقف تدخله عند هذا الحد، حتى لو أوهم نفسه وجمهوره بأن تدخله في القصير بالذات يمكن أن يبرره بالاعتبارات الحدودية والجغرافية والأمنية والديموغرافية، لكن ذهابه أبعد أكثر من القصير سيكون وخيم العواقب!

مع العلم أن الحزب لا يستطيع أن يتمدد على طول الخريطة السورية، حتى لو أراد ذلك، وجاءته الأوامر من طهران، لأن الارتدادات الطائفية والمذهبية في لبنان والمنطقة العربية بدأت، والشارع "السني" يكتظ بمزيد من مشاعر الضغينة، والحزب يتولى في بيئته ضخ الدلالات الطائفية لمشاركته في الحرب السورية، واستدراج الجماعات المذهبية الأخرى للغة طائفية موازية، وربما جاء الوضع في طرابلس اللبنانية عينة عن نتائج مشاركة الحزب في القصير.

أخيراً.. لا تخفي إسرائيل "سعادتها" بتورط حزب الله في القتال الدائر داخل الأراضي السورية بجانب النظام، لأنها بذلك تصطاد عشرة عصافير بحجر واحد: فهي تعمل على استنزاف قوات الحزب في معركة لا تخصها مباشرة، وإن كانت تحصد ثمارها دون أن تطلق رصاصة واحدة، وترى صور نصر الله التي رفعت في قلعة الأزهر الشريف عام 2006، ماذا يفعل بها الآن في ذات المكان، وفي النهاية تعتقد جازمة أن الحزب الذي يخسر يوماً بعد يوم من شعبيته وبعده الجماهيري لن يجرؤ من جديد على توريط لبنان بحرب إسرائيلية ثالثة.

ولئن قدر لكاتب هذه السطور أن ينقل فحوى هذا التقدير الإسرائيلي لأحد القلائل الذين يهمسون في أذن نصر الله، لكن الجواب أتاه بأنهم ماضون حتى النهاية، ولسان حال الحزب يقول إن: ما بعد حيفا، تحولت إلى ما بعد القصير!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.