الثورة التونسية.. إرهاب جديد وقناصة قدامى

الثورة التونسية.. إرهاب جديد وقناصة قدامى

undefined

الثورة.. تعديلات على الرواية الرسمية
الإرهاب الجديد
القناصة القدامى

تُجمع الروايات الرسمية القادمة من مهدِ الربيع العربي على خطورة الوضع الأمني بالبلاد اليوم سواء تعلّق الخبر بالحوادث الأمنية الأخيرة التي اتخذت من السلاسل الجبلية في منطقة الوسط الغربي على الحدود الجزائرية مسرحا أو بمناطق أخرى من البلاد كالصدامات الأخيرة التي عرفتها مدينة القيروان وبعض الضواحي التونسية.

لا تكمن خطورة الظاهرة والحدث في مضمونهما الأمني، حسب ما تروج له وسائل الإعلام المحلية وغيرها الناطقة بالعربية، بقدر ما تنكشف على مستوى توظيف الخبر. المسألةُ وظيفيةٌ إذن وليست هندسيةً.

فالإرهاب الجديد القادم مُكتسحا تونس كما تزعم النخب التونسية وتروج له الأبواق الخارجية، قديمٌ قِدَم النظام القديم الذي طالب الشعب بإسقاطه عنوانا أصيلا لثورته ولكن خلاياه اليوم أنشطُ من أيِّ وقتٍ مضى وقد توفَّرت لها كل شروط الانقلاب على الثورة أو إجهاضها أو هكذا يبدو لها.

الثورة.. تعديلات على الرواية الرسمية
قد يعسُر تفكيك التطورات المتلاحقة في تونس منذ ثورة الكرامة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 دون تصحيح بعض معطياتٍ مفاتيح يحاول القائمون على ترسيخ الرواية الرسمية طمسَها أو تزويرها، وأولُها تاريخ الثورة التونسية أو قُل تاريخ ميلادها.

غياب النخب السياسية عن الثورة هو الذي مكَّن من سقوط "بن علي"، بل هو الشرط المركزي لنجاح ربيع تونس، فثورات القاع لا تُباع ولا تُشترى لأنه لا رأس لها

لِمَ تُذكر كل الثورات العربية وتُدوَّن بتاريخ انطلاقتها إلاّ الثورة التونسية؟ الجواب عندنا أنه في السطْو على الزمان سطوٌ على المكان وعلى الحدث أيضا وقد جُرِّد من إطاره، وهو سطو هدفه سَحْب الثورة من مكْمَنها الأصيل في أرياف الشمال الغربي وقُراه الفقيرة المفقَّرة ومنها منطقة القَصرين حيث جرت الأحداث الأخيرة، وجرِّها عنوةً نحو العاصمة وشوارعها وخاصة نحو نُخبها لتصحيح "خطأ تاريخي فادح".

لقد كانت النخَبُ التونسية الخاسرَ الأكبر من ثورة الشعب الفقير لأنه أتَى ما عجزت عنه طوال معاشرتها الاستبدادَ، بل إنّ الأمَرّ من كل ذلك أن الزلزال التونسي كشف التحالف الوثيقَ الصامت بين نظام الاستبداد في تونس خلال الوكالتين الأولى (1956-1987) والثانية (1987-2010) وبين أغلب النخب السياسية التونسية إن لم نقل كلّها.

يتأسس التعميم السابق على الإقرار -دون أدنى مبالغة- بأن غياب النخب السياسية عن الثورة هو الذي مكَّن من سقوط "بن علي"، بل هو الشرط المركزي لنجاح ربيع تونس، فثورات القاع لا تُباع ولا تُشترى لأنه لا رأس لها.

قد نذهب إلى أبعد من ذلك حين نقول إن غياب الأيديولوجيا والتنظير السياسي عن الثورات العربية هو الذي ضمِن نجاحها في الإطاحة برأس النظام. والعكس صحيح أيضا لأنه استنتاج يقوم على فرضية مضادة تُقرّ بانعدام نسبة النجاح التي كان يمكن أن تحظى بها أيُّ دعوة إلى الثورة وإلى إسقاط النظام قد يقوم بها أيُّ طرف سياسي عام 2010-2011.

إنَّ تحررَ الشعوب العربية من ربقة الخطاب الأيديولوجيّ والسياسيّ ومن انتهازية نُخبها هو الذي مكّنها في لحظة تاريخية فارقة من إسقاط أنساق الاستبداد ومنوالاته. فوعي الطبقات الشعبية الباطن بزيف خطاب نُخبها النضالي هو الذي دفعها إلى الانفصال عنها وعن خطابها عندما خرجت تطالب بالحرية والكرامة في غيابٍ لا يَخفى عن أحد لكل أشكال التحزّب أو الانتماء لغير الوطن.

الإرهاب الجديد
الثابتُ أنه لا ثابتَ بشأن تعريف الإرهاب والإرهابيين عربيا أو دوليا باستثناء بسيط هو وثيق علاقتهما بالإسلام والمسلمين حسب ما رسّخت لذلك مراكز البحوث الأميركية ومراكز القرار السياسية والإعلامية التي تتبعها. ثم أعاد الإعلام الرسمي العربي مع استثناءات قليلة جدا استنساخ المصطلح وتوظيفَه خدمة لمصالح داخلية وأمنية يجمعها ترسيخ القائمِ السياسي وتغطية عجزه التنموي.

الإرهاب الجديد في تونس اليوم يحيل إلى مجموعات مسلَّحة تتحصَّن "بجبال الشعانْبِي" من ولاية "القَصْرين" بالوسط الغربي للبلاد، ولا نعلم عن حقيقتها إلا القليل النادر مما لا يُوثَق به من روايات إعلام النظام القديم الذي ما زال صانعا للخبر ناقلا له ومعلقا عليه بعد الثورة. هي من ناحية أخرى مجموعة لا مجموعات -حسب مصادر أمنية وعسكرية يُوثَق بها- تُحاصَر في آخر معاقلها قرب الحدود الجزائرية وتتضمن عناصر (أقل من 20 فردا) لا تحمل الجنسية التونسية في أغلبها، بل تشبه إلى حد بعيد تلك المجموعات المتنافرة التي تتموقع في صحراء المغرب العربي تَتَزيّا بالجهاد وتَجمع في أنشطتها بين التهريب والخطف وطلب الفدية تحت شعارات مختلفة هي أبعد ما تكون عن الإسلام والمسلمين.

الظاهرة ليست جديدة فقد شهدت البلاد حوادث مشابهة أبرزها سنة 2007 بمدينة "سليمان" على باب العاصمة تونس (40 كلم) والتي خلَّفت قتيلين في صفوف قوات الأمن وتم التعتيم على العملية ولم يقع التصريح الرسمي بها إلا بعد أكثر من أسبوع على انتهاء الاشتباكات وتحديد الفاعلين بأنهم أعضاء جماعة "السلفية الإرهابية" حسب التوصيف اللفظي لوزير الداخلية في ذلك الوقت، إذ لم تكن مصطلحات "السلفية الجهادية" و"السلفية العلمية" قد استقرت نعتا لأقصى طرفيْ الطيف السلفي في تونس. ولم تكن قد ولجت حينها قاموس الخطاب السياسي التونسي أو العربي ما بعد الربيع، بل اكتفى أمن "بن علي" الإعلامي بربط السلفية بالإرهاب في أوج الحرب الأميركية على ما تسميه مراكز القرار عندها "الإرهاب الإسلامي".

الحديث عن الإرهاب والإرهابيين في تونس اليوم خطاب وظيفيٌّ أساسا وليس هندسيا, لأن الحوادث الأخيرة في تونس لا تكاد تُذكر عربيا في أبعادها ومداها مقارنةً بما يحدث في سوريا

الحديث عن الإرهاب والإرهابيين في تونس اليوم خطاب وظيفيٌّ أساسا وليس هندسيا. هو ليس حدثا هندسيا لأن الحوادث الأخيرة في تونس لا تكاد تُذكر عربيا في أبعادها ومداها مقارنةً بما يحدث كل ساعة من مذابح "نظام المقاومة" ومجازره في حق الشعب السوري. وهي لا تكاد تذكر مغاربيا مقارنة بأحداث "بانياس" الأخيرة في الجزائر. وهي لا تكاد تذكر تونسيا مقارنة بجرائم قيادات اتحادات العمال ونقابتها وإعلامهما من أجل دفع الدولة والثورة نحو الشلل. هو خطاب وظيفي يحقق لمن يريد أن يجعله هندسيا وظائف أساسية.

فمحورُ الإرهاب والإرهابيين أبرز أعمدة الدخان الإعلامية وأكثرها فعالية من بين جميع الأعمدة التي تُنصَّب اليوم في دول الربيع العربي من أجل حجب أمهات القضايا والإيهام بغيرها. فقد رُسِّخ هذا الخطاب في الغرب حجر زاوية لكل أشكال الخطاب السياسي والإعلامي إذ هو يحقق فوائد سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة وتتبناه أذرع إعلامية وبحثية ضخمة.

وهي تمنع كل محاولة لنَسْفه وفضح زيفِ ما يقوم عليه من أسس غير علمية أصلا لأنه إنما جاء مبررا وغطاء لحملة توسعية شرعت فيها الإمبراطورية الأميركية الجديدة مع ندرة موارد الطاقة من أجل السيطرة عليها في مظانّها بعد سقوط الدبّ الروسي وتحوّله الأيديولوجي.

استفاد النظام الرسمي العربي من "محور الإرهاب" وكذا فعل نظام "بن علي" لكن التوظيف الجديد ما بعد الثورة هو توظيفٌ يخدم مصالح جديدة قديمة في آن لكنها متعلقة اليوم بغير النظام الرسمي على الأقل في تونس.

إنّ حديث المعارضة السياسية وأبواقها الإعلامية عن مخازن الأسلحة هنا وجماعات تتدرب هناك والنفخ اليومي في جرائم مدنية وسياسية لتلبيسها زيّ الإرهاب الإسلامي -مثل ما حدث في حادثة اغتيال أحد قيادات اليسار- حقٌ نِسبِيٌّ أُريد به باطلٌ مطلَقٌ.

الحق النسبيُّ يتعلق بوجود الأسلحة في تونس مَعْبرا لبقايا السلاح القادم من ليبيا لكنها ليست بالكمِّ الذي يروَّج له. أما الباطل المطلق فهو الزعم بأن البلدَ صار فريسة للإرهاب وللعنف المسلح ولجماعات "القاعدة".

ثم إنّ "المجموعة الجهادية المسلحة" موجودة حقا لكن عددها في تونس ضعيف جدا قد لا يكفي لملء حافلة للركاب وهي تواجِه مقاومةً فعلية وصادقة على الأرض من قوات الجيش الوطني وقوات الأمن المحترفة بعد حملة التطهير التي عرفتها ولا تزال وزارة الداخلية ومختلف قطاعات الأمن.

وهو ما يفسر في جزء كبير الحملة الشرسة التي تتعرض لها هذه القطاعات الحساسة من قبل أطراف سياسية وإعلامية وحتى أمنية للطعن في حرفيتها وولائها للوطن. ثم هي تواجه مقاومة ثقافية شرسة من الحاضنة القيمية والأخلاقية المسلمة للشعب العربي في تونس، فالبيئة الثقافية هناك كانت دائما ورغم مكائد النظام القديم وبقاياه اليوم من النخب السياسية والإعلامية والنقابية بيئة طاردةً للإرهاب والتطرف حاضنةً للاعتدال والتسامح حتى في مناخها وتضاريسها. هي أرض لقاء بامتياز لم ينجح الاستبداد وريثا شرعيا للاستعمار في تصْحِيرها وتجفيف ينابيعها وتحويلها مرتعا للفقر والجهل والعصابات المسلحة.
         
القناصة القدامى
مصطلح "القناصة" في خطاب اليومي التونسي -فضلا عن السياسي- صاحَب ذروة "ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول" وصاحَب كوكبةً من المصطلحات التي ستكوِّن حقلا دلاليا سيسِم طويلا منظومة الاستبداد العربي لحظة احتضارها وهي تنازع النزع الأخير. نظائرها المُميتة من فِرق الموت "كتائب" القذافي و"بلطجية" مبارك و"بلاطجة" صالح ثم أخيرا وليس آخرا "شبيحة" الأسد الأكثر أصالة في التقتيل على مسالخ الاستبداد والطائفية والمذهبية.

"قناصة تونس" الذين أثاروا الرعب في شوارع القصرين وبوزيان وسيدي بوزيد وتالة وغيرها من المدائن التي صمدت في وجه فرق الإرهاب الحقيقي لفَّهُمُ النسيان أو أُريد له أن يلفَّهم وطُوِي ملفهم كأنهم لم يكونوا بل أنكر أحد أقطاب الثورة المضادة وجودهم جملةً.

القناصة الجدد القدامى بقايا النظام السابق أو ما تسمى في تونس "بالدولة العميقة" وقد كشف هروب رأسِ الدولة عُمقَ جذورها الممتدة في كل مفاصل الدولة والمجتمع. تحالَف معها بعد الثورة قطبان مركزيان أثبتا عمليا أنهما جزآن لا ينفصلان عن منظومة الاستبداد.

أول الأقطاب التي يُجمِع الجميع تقريبا على عدائها الفاضح للثورة التونسية باسم "حرية التعبير" ما يصطلح عليه في الخطاب الشعبي "إعلام العار" وهو يشمل جميع الأبواق المسموعة والمرئية والمقروءة تقريبا مع استثناءات لا تكاد تذكر من الأقلام الحرة خاصة.

الأقطاب التي يُجمِع الجميع تقريبا على عدائها الفاضح للثورة التونسية هي ما يصطلح عليه في الخطاب الشعبي بـ"إعلام العار" وهو يشمل جميع الأبواق المسموعة والمرئية والمقروءة تقريبا

تُجاهد هذه الأبواق يوميا من أجل بث الخوف بين المواطنين وإرهاب الشعب عبر تضخيم الأحداث وتهويلها حتى تخالَ البث قادما من ريف دمشق أو من أطلال حمص فتُذكِّر ضمنيا -وهنا مربط الفرس- بمحاسن "بن علي" صاحب شعار "تونس بلد الأمن والأمان".

ثاني أقطاب التحالف الذي يقود الثورة المضادة في تونس مع بقايا بن علي وإعلامه النخب التونسية القديمة بشكل عام والسياسية منها بشكل خاص. وهي نخب تتوزع في قراءة أولية على الطيف التالي.

نخب ما يسمى بالمعارضة السياسية صنعها بن علي وتربت في حضنه أو – في أحسن الحالات- سمح لها بأن تكونَ محددا شروط عملها ومجاله. خرجت هذه النخب خاسرة من الجولة الانتخابية الأولى لكنها اختارت -عوض إعادة صياغة مشروعها الانتقالي من أجل معارضة حقيقية تحققُ شروط التعايش السياسي- معادةَ الناخِب قبل المنتخَب، والتحالفَ مع قوى أجنبية ومراكز مشبوهة قد تحقق لها ما عجزت عنه بنفسها.

تُناظِرها قيادات الاتحادات العمالية (النقابات) وقد كبّدَت عن طريق سياسة الإضراب والاعتصام ميزانيةَ الدولة الفارغةَ أصلا خسائرَ فادحة تساوي في مجموعها حجم الديْن الخارجي أو تزيد. من الحيْف التحليلي أن نُنكر دور النخب الحاكمة اليوم ومسؤوليتها وقد مكّنت بأدائها الباهت وخططها المرتعشة وتردُّد قراراتها غير الثورية في كثير من الأحيان القوى القديمةَ من العودة إلى المشهد السياسي، بل العمل على استعادة منظومة الاستبداد في شكل أكثر تلاؤما مع رياح الربيع العربي.  
                                              
ليس الخطر المحدق بالانتقال نحو مجتمع العدالة في تونس ومصر وغيرها من دول الربيع العربي كامنا في "خطر الإرهاب الإسلامي" مثلما يروِّج له خطاب أعداء الأمة في الداخل والخارج، بل يكمن رأسا في انتهازية النخب العربية أو قُلْ أغلبها. فبعد أن قدَّمت لها شعوبها أرقى الثورات مُضمَّخة بدماء شهدائها ها هي تتناحر لتصفِّيَ حسابات قديمة فتكشف جشعها وعداءها لمشروع النهوض العربي الإسلامي الذي سيعصِف حتما بمصالحها وولاءاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.