عن أطروحة الأمن الروحي بالمغرب

العنوان: عن أطروحة الأمن الروحي بالمغرب - الكاتب: يحيى اليحياوي

undefined 

في أوائل شهر مارس/آذار من العام 2009, عمد المغرب فجأة, ودونما مقدمات تمهيدية مسبقة, إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران, في سابقة خلنا ذات القرار معها أن ثمة أمرا جللا وقع, أو يوشك على الوقوع, يستوجب قطع الدابر, قبلما تستفحل العدوى وتغدو المصيبة متعذرة الاتقاء أو العلاج.

الارتكاز على مسوغات خفيفة في الميزان, ثقيلة في التبعات والتداعيات, من شأنه تأجيج الفتنة في غير موضع أو مقام, وإثارة الريبة والشك حول الخلفيات والدوافع الأساس لقرار قطع المغرب علاقاته مع إيران عام 2009

ومع أن بعض عناصر التوتر كانت قائمة وبادية, سيما بظل التضامن المبالغ فيه مع دولة البحرين, بأعقاب رأي غير رسمي أبداه بعض المؤرخين الإيرانيين, على خلفية وقائع ومعطيات تاريخية تم الزعم بموجبها بـ"إيرانية البحرين" مع ذلك أقول, لم نكن نتصور أن الأمور ستتطور بسرعة, لدرجة قطع العلاقات الدبلوماسية, في زمن لم يعد ذات المنهج سلوكا معتمدا أو مفضلا, حتى باشتداد العداوات وبلوغ الاحتقانات مستويات اللاعودة فيما بين الدول والحكومات.

لم تكن البحرين بالقطع هي القشة التي قصمت ظهر البعير, أو هي التي استطاعت لملمة المناوشة مع إيران, بأسلوب مرن وهادئ لم يبلغ درجة قطع العلاقات, بقدر ما كانت النذير المحتمل للقادم من تطورات مع دولة لم يستسغها المغرب كثيرا, ولم يستلطف قادتها يوما, منذ نجحت الثورة الإسلامية هناك أواخر سبعينات القرن الماضي, وإلى حدود اعتماد قرار قطع العلاقات.

يقول بلاغ وزارة الخارجية المغربية, في تسويغه لقرار قطع العلاقات مع إيران: إن الخلفية الأساس التي ثوت خلف قطع هذه العلاقات, إنما تأتت بسبب وجود "نشاطات ثابتة للسلطات الإيرانية, وخاصة من طرف البعثة الدبلوماسية بالرباط, تستهدف الإساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة, ومذهبه السني المالكي" من خلال عملية التشييع التي تثوي خلفها بعض الجهات "المتسترة" خلف هذا الادعاء أو ذاك.

من قراءة عابرة ومقتضبة لهذا المقتطف, يبدو أن السلطات بالمغرب (سواء ذات الوظيفة الأمنية الصرفة, أم ذات الطبيعة الدينية الخالصة) إنما أدركت أن ثمة حقا وحقيقة "تهديدا روحيا" مؤكدا, متأتيا من سلوك إيراني لا يتغيأ, بمنظور ذات السلطات, فقط نشر التشيع, وتحريف الناس عن معتقداتهم وملتهم, بل وأيضا تهديد وحدة عقيدتهم, ومن ثمة مذهبهم, المذهب المالكي, الذي يعتبر الخيط الناظم لعلاقة المغاربة مع ربهم, وعلاقات بعضهم البعض, إيمانا وطقوسا ورموزا وتمثلات وسلوك حياة.

ويبدو أيضا, من خلال ذات المقتطف, أن المس بالعقيدة الأشعرية وبالمذهب السني المالكي, إنما يبدو للسلطات بالمغرب, ليس فقط في كونه مساسا بالهوية الدينية, المرتكزة عليهما معا, بل ولربما أيضا وفي سياق ذلك, بالمجهودات الحثيثة التي ما فتئ الملك يقوم بها, بجهة "توفير الأمن الروحي للمغاربة, والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية المغربية, المتميزة بلزوم السنة والجماعة, والوسطية والاعتدال, والانفتاح, والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وما يرتبط بها من مبادئ الإسلام السمحة".

الأمن الروحي هنا إنما المقصود به صيانة العقيدة والمذهب المذكورين, "وتحصين الإسلام السني السمح, النقي, من البدع الضالة, ومن التطرف الأعمى, والتسيس المغرض". بالتالي, فهو إنما يعني, بمنطوق خطاب للملك بشهر أبريل/نيسان من العام 2004, "الإسلام الأصيل, كما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين, سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, والذي ارتضاه المغاربة دينا لهم, لملاءمته لفطرتهم السليمة, وهويتهم الموحدة, على طاعة الله ورسوله, ولأمير المؤمنين, الذي بايعوه على ولاية أمرهم, فحماهم من بدع الطوائف, وتطرف الخوارج عن السنة والجماعة".

قد لا يستطيع المرء أن يحصر مدى ما قد يبلغه اصطلاح الأمن الروحي, ولا مدى ما قد يصله مصطلح الأمن نفسه, بالمعنى الضيق العام كما بالمعنى الهلامي الواسع. وقد لا يستطيع المزايدة كثيرا على قرار رسمي صادر عن أعلى مستوى, لا سيما لو كان مبنيا في مرجعيته, مستساغا في منطوقه, غير عاطفي في منحاه, وغير ارتجالي عند الاعتماد.

 غير أن الارتكاز على مسوغات خفيفة في الميزان, ثقيلة في التبعات والتداعيات, إنما من شأنه تأجيج الفتنة في غير موضع أو مقام, وإثارة الريبة والشك حول الخلفيات والدوافع الأساس لقرار من هذا الحجم, لا تزال تموجاته تعتمل من بين ظهرانينا من تاريخه ولحد كتابة هذه السطور:

– فعلى الرغم من ندرة المعطيات عن واقع التشيع بالمغرب, ناهيك عن أهدافه ومراميه ومبتغياته, فإن الأمر لا يبدو لنا بالمرة مثار خشية أو تخوف, ليس فقط بحكم تعذر, لدرجة استحالة اختراق منظومة دينية سميكة, بعيدة جغرافيا عن تيارات وأوكار التشيع, ولكن أيضا بحكم تعذر, لدرجة استحالة اختراق عقيدة ومذهب متركزين بالمخيال العام, أيما يكن التمركز, ولن يكون بمستطاع هذا "المبشر المتخفي" أو ذاك, الفعل فيها لدرجة التحريف أو الدفع للتشكيك, أو الزعزعة, أو ما سواها.

معالجة خطر التشيع, لا يمكن أن يتم بالأدوات المباشرة (المنع أو المحاصرة أو الرقابة) إذ أنها لم تعد ذات نجاعة كبرى في زمن الشبكات الرقمية وانفجار البث التلفزيوني العابر للحدود

إذا كان الأمر كذلك, فمعناه أن لا مناعة كبرى لذات العقيدة والمذهب, أو أن الإيمان لدى المغاربة إنما بات مجرد نزوة عابرة, قد تستطيع كل الرياح الذهاب بها حيثما أرادت وشاءت. وهذا منطق لا يستقيم بالمرة, اللهم إلا في مجال المال والأعمال والتجارة, حيث لا منظومة للأخلاق والقيم تذكر من بين ظهرانيه.

صحيح أن ريح التشيع قد تطال هذا الفرد أو ذاك, أو تسقط في شباكها هذه المجموعة أو تلك, جراء ظروف وسياقات ذاتية محددة, لكن ذلك هو إلى الاستثناء أقرب منه إلى التأسيس للقاعدة العامة, التي يمكن البناء عليها للخلوص لهذه النتيجة أو تلك. الأمر بهذه الجزئية ليس عقدا يبرم بين طرفين, بل هو ارتباط نفسي عميق, من المتعذر حقا التجاوز على تجدره, أو القفز على سماكته لاستدراج فرد أو استقطاب مجموعة.

– وعلى الرغم من الاعتقاد بقدرة السلطات على لجم موجة ما في التشيع "رسمية" تعمل بقوة الترغيب والترهيب, أو بأدوات أخرى, فإن ذلك لا ولن يمنع فعل الأدوات غير الرسمية, التي من شأنها أن تندس بهذا البرنامج التربوي والتعليمي أو ذاك, بهذا المدشر أو ذاك,  أو تفعل بطرق ناعمة خفية, دونما أن تظهر لأعين السلطة, كائنة ما كانت تفتح أعينها وبصائرها: إنها القوة الناعمة التي تحدث عنها الأدميرال جوزيف ناي, والتي قد ينجح المرء بموجبها في مصادرة هذا الكتاب أو ذاك القرص, لكنه لا يستطيع ثني الناس عن تتبع هذه القناة الفضائية "الشيعية" أو تلك, أو عن ولوج هذا الموقع الإلكتروني "الشيعي" أو ذاك.

إن معالجة خطر التشيع, كما روجت وتروج له السلطة, لا يمكن بناء على ذلك, أن يتم بالأدوات المباشرة, أدوات المنع أو المحاصرة أو الرقابة, إذ الأدوات إياها لم تعد ذات نجاعة كبرى في زمن الشبكات الرقمية وانفجار البث التلفزيوني العابر للحدود. بالتالي, فإن المعالجة التقليدية لم تعد تتساوق وقدرة الاختراق المتعددة المصادر والمنابع, لأن ليس ثمة من حواجز جمركية تمنع تجوال "السلع" الثقافية, أو تحول دون عولمة تيارات الرموز, المادية منها كما اللامادية على حد سواء.

– ثم إذا كان التشيع بهذه القوة في الاختراق, وبهذه الخطورة في تحريف المغاربة عن عقيدتهم ومذهبهم, فلم يا ترى لم ينجح في ذلك بالمجالات الأخرى, حيث مجاله وتربته بامتياز, كما الحال بلبنان مثلا, أو بالعراق, أو بالعديد من دول الخليج, التي لم يمتط سنتها ولا مسيحيوها ناصية التشيع, بل بقوا على مذاهبهم, حتى بتجاورهم وتصاهرهم, وانتماءاتهم السياسية, التي تتجاوز على كل ذلك بالجملة والتفصيل؟

والمعنى أنه قد يتشيع هذا الفرد أو ذاك, في هذا البلد أو ذاك, لكن ذلك يبقى في إطار السلوك الخاص أو جراء غواية من هنا أو هناك, بالإمكان فهمها وتفهمها.

– ثم إن الخطر في التشيع, لا يكمن في الفكرة بصورة عامة, وهي معتدلة ووسطية في عمومها وإلى حد بعيد, بقدر ما يكمن في فصيل من الشيعة مغال ومتطرف, لكنه أقلية بكل المقاييس, حتى بالدول ذوات الوجود الشيعي المعتبر. والدليل على ذلك أن دورات التقريب بين المذاهب, لا تقيس على الغلاة والمتطرفين, بقدر قياسها على صلب ما يضمن التعايش والتواصل والاحترام المتبادل بين اجتهادات المذاهب, دونما أن يصل ذلك إلى جوهر الإسلام, أعني إلى جوهر الرسالة ومقام صاحب الرسالة.

إن الذين يشتمون الصحابة والخلفاء الراشدين, أو يزايدون على زوجات الرسول, أو يتحاملون على أئمة السنة, إنما يعبرون عن شذوذ مذهبي صارخ وتمترس أيديولوجي هجين, ناهيك عن الأجندات السياسية الضيقة التي يضمرونها قلبا, حتى وإن لم يجهروا بها قالبا.

وعليه فإننا لا نتماهى بالمرة مع أطروحة "الأمن الروحي" التي تم الدفع بطرحها من لدن البلاغ الرسمي المشار إليه أعلاه, ليس فقط لأننا ننفر من عبارة الأمن ذاتها, والتي غالبا ما تحيل في مخيالنا الجمعي العام, إلى القمع ومداهمة البيوت والإهانة والتعذيب وغيرها, ولكن أيضا لأننا غير واثقين من أن ذات المسوغ هو الذي حكم القرار واستعجله.

إذا كان الأمر مرتبطا بالأمن الروحي والعقدي والقيمي للمغاربة, فلم يا ترى لم تقطع العلاقات مع الدول التي ثبت أنها تصدر البعثات التنصيرية والتبشيرية بهذا الجزء من المغرب كما بذاك؟ وإذا كان الأمر كذلك, فلم التساهل لدرجة التسامح, مع حركات في الشذوذ الجنسي, معلنة ومعروفة, وتجاهر بذلك علانية بمنابر الإعلام, كما بالفضاء العام, وتتطاول من هنا جهارة على العقيدة والمذهب معا, ومع ذلك لا تلقى الشجب, فما بالك المتابعة والمنع؟

حماية الأمن الروحي للمغاربة تستوجب حمايتهم من العاهة والفقر والظلم والطغيان, لا ممارسة الأبوية عليهم في قضايا روحية يعضون عليها بالنواجذ, ويملكون القدرة والقابلية للدفاع عنها

من جهة أخرى, فإذا كان المقصود بالأمن الروحي ضمان وحدة العقيدة والمذهب, وتحصينهما ضد الخوارج, فلم يا ترى لا يتم العمل على تحصين ذات الأمن, من سلوكات الزوايا, والمتصوفة, وأهل البدع والشعوذة, المنتشرين هنا وهناك؟ ولم السكوت, بل ودعم الطرق والزوايا الصوفية, حتى بات أهلها أصحاب تقوى ونصيحة وأمر ونهي يعتد بهما, في أكثر من منطقة بالمغرب؟

ثم إن القول بضمان الأمن الروحي للمغاربة, إنما يشي في خلفياته كما لو أن ثمة قابلية لدى هؤلاء لتغيير عقيدتهم ومذهبهم "لمن يدفع" أو أنهم بحاجة لمن "يحميهم من فوق" تماما كما تحمي الأم رضيعها, أو كما تحمي الدولة مواطنيها من اللصوص والمجرمين والخارجين عن القانون. إن للناس مناعة لا يجب الاستهانة بها, ولهم فضلا عن ذلك, قدرة فائقة لوضع الأمور في الميزان الصحيح دونما وصاية أو نصيحة من أحد.

إن حماية الأمن الروحي للمغاربة لا تتحقق بقرار, ولا هي بحاجة إلى موقف سياسي, كائنة ما كانت درجة ومرتبة من يعتمده. إنها تستوجب تقوية من نوع آخر لمناعة المغاربة, كي لا يسقطوا ضحية هذا الابتزاز أو ذاك. إنها تستوجب حمايتهم من العاهة والفقر والظلم والطغيان, لا ممارسة الأبوية عليهم في قضايا روحية يعضون عليها بالنواجذ, ويملكون القدرة والقابلية للدفاع عنها, والحؤول دون أن تتحول إلى وقود لفتنة ندعو الله أن يجد لها من العقلاء من يدفعها عنا في الحاضر كما في المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.