معضلة سوريا بين كارثة الاستمرار وزلزال السقوط

معضلة سوريا بين كارثة الاستمرار وزلزال السقوط . الكاتب: فهمي هويدي

 undefined

أما وقد دخلت الأزمة السورية عامها الثالث دون حل، فلا النظام سقط ولا الثورة انتصرت، فهل من سبيل إلى حل يضع نهاية لسيناريو الموت والدمار؟

(1)

أخبار الموت والدمار أصبحت عناوين ثابتة في نشرة أخبار سوريا، أحدثها الغارة الإسرائيلية على ريف دمشق، التي أدت إلى قتل ٣٠٠ شخص، وهو ما تم في وقت ظهرت فيه ملامح تمزيق الوطن وتقسيمه إلى دويلات، إذ بدأ تنفيذ عمليات تطهير مذهبي للسنة في الساحل السوري غربي البلاد، في حين شرعت آلاف العائلات السنية في الهروب من بيوتها في بانياس، بعد وصول أخبار المجازر التي ارتكبتها قوات النظام وموالون له من الطائفة العلوية في حي رأس النبع وبلدة البيضا المجاورة. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن عدد قتلى حي رأس النبع في بانياس على أيدي قوات النظام والموالين، ارتفع إلى 62 شخصا في يوم واحد، وقد تم توثيق أسمائهم وصورهم، وبين القتلى 14 طفلا.

بعدما أعلن رسميا عن استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي ضد الثوار، أعلن في واشنطن أن الأزمة دخلت منعطفا جديدا استدعى إعادة النظر في الموقف الأميركي من تسليح المعارضة

في ذات الوقت أدان الائتلاف الوطني السوري عمليات الإعدام الميدانية التي نفذها النظام بحق المدنيين في حي رأس النبع، وحذر من تكرار المجازر في قرية بساتين إسلام المجاورة، مشيرا إلى أن القتل العشوائي في قرى الساحل المرشحة لتكون جزءا من الدولة العلوية، شبيه بعمليات التطهير العرقي التي قامت بها القوات الصربية في البوسنة قبل عقدين.

على صعيد آخر، رصد الائتلاف الوطني وجود حركة نزوح واسعة باتجاه طرطوس، لجأ إليها الأهالي بعدما عاينوا ذبح الأطفال والشيوخ والنساء على الهوية المذهبية. وناشد الائتلاف مجلس الأمن أن يدين تلك المجازر، بحيث يعتبرها جرائم إبادة جماعية تستوجب اتخاذ إجراءات فورية لإيقافها.

من أخبار الأزمة السورية أيضا أن الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله اعترف في حديث بثه التليفزيون يوم الثلاثاء 30/4، بأن عناصر الحزب عبرت الحدود اللبنانية للاشتراك في الدفاع عن نظام الأسد، وقال إن للنظام السوري أصدقاء لن يسمحوا لأحد بإسقاطه عسكريا، ملوحا في ذلك بالدعم العسكري الذي تقدمه إيران والغطاء السياسي الذي توفره روسيا والصين للرئيس الأسد.

وأثناء حديثه كانت مجموعة كبيرة من السوريين الهاربين من جحيم المعارك مشتبكة مع حرس الحدود الأتراك الذين كانوا يحاولون منعهم من دخول الأراضي التركية في منطقة أكشاكال، الأمر الذي أدى إلى مقتل جندي تركي وإصابة 11 بجراح. وقد تزامن ذلك مع إعلان وزير الإعلام الأردني أن أعداد المهاجرين السوريين إلى بلاده فاقت حدود احتمالها، حتى أصبحت تهدد أمنها القومي.

وبعدما أعلن رسميا عن استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي ضد الثوار، أعلن في واشنطن أن الأزمة دخلت منعطفا جديدا استدعى إعادة النظر في الموقف الأميركي من تسليح المعارضة، ودفعها إلى إمداد الجيش السوري الحر ببعض الأسلحة الدفاعية التي تمكنه من التصدي لهجمات النظام وتمكّنها من التفوق على الأرض، بما يسمح للجيش الحر بالتقدم على الجماعات السلفية التي أصبحت عنصرا فاعلا في مقاومة النظام، الأمر الذي أثار قلق أطراف عدة إقليمية ودولية خشيت وصول السلاح الكيمياوي إلى أيديها.

(2)

اعتبرت الأمم المتحدة أن الأزمة في سوريا إحدى أكبر الأزمات الإنسانية التي واجهتها في تاريخها، وحسب تقديرات خبرائها فإنه بعد مضي 25 شهرا من الصراع الدموي أصبحت الحصيلة كالتالي:

– قتل 70 ألف رجل وامرأة وطفل، واختفى عدد مماثل لهم داخل سوريا، ولا يعرف ما إذا كانوا قد زج بهم في السجون أو تم التخلص منهم بوسيلة أو بأخرى.

– نزح قرابة سبعة ملايين شخص من منازلهم التي تهدمت بفعل القصف الجوي والقتال على الأرض، الأمر الذي حوّل الدور إلى أنقاض لا تصلح للسكنى.

من حصيلة الكارثة الإنسانية في سوريا, قتل 70 ألف رجل وامرأة وطفل، ونزوح نحو سبعة ملايين شخص, وتشريد 4.25 ملايين, دون أن يسلم التراث التاريخي النفيس من التخريب

– تشريد 4.25 ملايين شخص داخل البلاد، منهم 1.5 مليون يواجهون انعداما وشيكا للأمن الغذائي.

– جرى إحصاء 3.1 ملايين طفل أصبحوا يعانون من العوز والفقر المدقع.

– لجأ إلى البلدان المجاورة 1.3 مليون سوري (تتزايد أعدادهم كل يوم)، وهؤلاء يعيشون في معسكرات لا تتوافر لأغلبها الحدود الدنيا للحياة الطبيعية، نظرا لشدة الضغوط وقصور الإمكانيات.

– واجه 400 ألف فلسطيني لجؤوا إلى سوريا مصيرا بائسا، بعدما اضطر أكثرهم للجوء إلى الجيران مرة ثانية، وأصبح أغلبهم يعيشون في ظروف بائسة مزرية.

– إلى جانب الخسائر البشرية والعمرانية الهائلة، لم يسلم من الدمار والتخريب التراث التاريخي النفيس في سوريا، والذي يضم أصولا مصنفة ضمن التراث العالمي، وبالتالي اعتُبر ملكا للإنسانية جمعاء. وما حدث لمدينة حلب التي دمرت فيها مئذنة الجامع الأموي والطرز المعمارية العربية النادرة والنفيسة التي تحفل بها، نموذج لتلك الكارثة الثقافية والحضارية التي خلفتها الحرب البائسة.

(3)

لقد حولت الحرب الأهلية الدائرة سوريا من بلد نعتز به إلى بلد نأسى عليه، وكلما رأيت في أطراف القاهرة سوريات يتسولن المارة، وشبانا سوريين يجلسون على الأرصفة منكسي الرؤوس، تملكني شعور بالخزي والحزن والنقمة.. الخزي إزاء ما وصل إليه حال السوريين من هوان لا يستحقونه، والحزن لأننا لم نستطع أن نقدم لهم العون والمساندة التي توقعوها منا، والنقمة على النظام الذي أذلهم طوال أكثر من أربعين عاما، ثم حين رفعوا صوت الغضب وقرروا الدفاع عن كرامتهم، لم يتورع عن سحقهم وتدمير حياتهم مستخدما في ذلك أكثر أساليبه فظاظة ووحشية وأشد أسلحته فتكا.

في مختلف المناسبات التي شاركتُ فيها خلال العام الأخير، كان السؤال المصري أول ما يوجه إلي، ولا أكاد أفرغ من الإجابة عنه حتى يباغتني السؤال الثاني عن سوريا، وكان ردي دائما أن استمرار نظام دمشق مستحيل، وأن سقوطه مشكلة. ذلك أن ما فعله الرئيس الأسد بشعبه أغرق سوريا في بحر من الدماء والأشلاء باعد بين الطرفين بحيث أصبح من المستحيل عبوره أو تجاوزه، الأمر الذي أصبح يحول دون إمكانية التصالح أو التعايش بين الطرفين مرة أخرى.

في الوقت ذاته، يفتح سقوط النظام الأبواب واسعة على مخاطر لا أول لها ولا آخر، الأمر الذي قد يؤدي إلى إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط من جديد. ذلك أن أحدا لا يعرف ما إذا كانت سوريا التي نعرفها ستظل هي ذاتها بعد سقوط النظام أم لا.

استمرار النظام السوري بمثابة كارثة تحل بالبلاد، أما سقوطه فسيكون بمثابة زلزال يضرب المنطقة

لا أتحدث عن الدمار والخراب الذي حل بالبلاد فحسب، ولكنني أتحدث عن احتمالات تحول سوريا إلى دويلات، يمهد لها التطهير العرقي الحاصل الآن والذي يستهدف تفريغ الساحل من أهل السنة، ليصبح حكرا على العلويين. وقد سبق أن أشرت إلى المعلومات التي تحدثت عن نقل موجودات البنك المركزي من دمشق إلى اللاذقية، التي ترشح عاصمة للعلويين، وعن تجهيز الميناء والمطار في المدينة لكي يواكب التطور الجديد.

أما أصداء السقوط في الجوار السوري فحدث عنها ولا حرج، ذلك أن الصدى سيكون قويا في لبنان جراء التغير في ميزان القوى المفترض، الذي لن يكون في صالح حزب الله بعد فقد حليفه وانقطاع الجسر الذي يحمل إليه العتاد والذخيرة.

في الوقت ذاته، ليس مستبعدا أن يكون للحدث صداه في الأردن. والمؤكد أن الصدى في العراق سيكون أقوى. وإذا كان أهل السنة هناك قد أعلنوا في الأنبار تمردهم على حكم المالكي، فإن ذلك التمرد قد يتحول إلى انتفاضة وانقلاب في الموازين إذا سقط النظام السوري، الأمر الذي يعزز فكرة تقسيم البلد وتفتيته. وحين يضعف موقف حزب الله وينقطع جسر تمويله بالسلاح والذخيرة، فإن ذلك سيشجع إسرائيل على تحقيق أملها في توجيه ضربة عسكرية لإيران. ولن تكون تركيا بعيدة عن التأثر بالحدث، خصوصا إذا علمنا أن العلويين فيها كتلة سكانية يتراوح تعدادها بين 12 و14 مليون نسمة.

إذا صح ذلك فإنه يسوغ لنا أن نقول إن استمرار النظام السوري بمثابة كارثة تحل بالبلاد، أما سقوطه فسيكون بمثابة زلزال يضرب المنطقة.

(4)

محتميا بالأوراق التي يملكها، ومراهنا على المخاوف المثارة جراء سقوطه، ومستثمرا الأجواء السلبية التي شاعت جراء اشتراك المجموعات السلفية في محاربة نظامه، ومتكئا على الدعم الإيراني والروسي والصيني، استطاع النظام السوري أن يصمد رغم كل ما تلقاه من ضربات طوال الأشهر الستة والعشرين الماضية. وليس مستبعدا أن يستمر صموده لفترة أطول، غير مبال بالدماء الغزيرة التي تسيل، ولا بالخراب الذي يحل بالبلد حينا بعد حين.

ولأنه لم ينكسر فذلك يعني مباشرة أن المقاومة لم تنتصر، وأحسب أن هذه النتيجة تحققت لأن النظام يملك تفوقا جويا كاملا، وأن الجيش الحر لم يتوافر له السلاح النوعي الذي يمكنه من كسر صمود النظام، وأن المخاوف التي أثارها دخول السلفيين الذين أعلن بعضهم ولاءه لتنظيم القاعدة، أثر على حماس الجهات التي تقدم السلاح للمقاتلين، خشية أن يصل ذلك السلاح إلى أيدي عناصر القاعدة.

حين ينجح النظام في الصمود ويتعذر على المقاومة إسقاطه، فذلك يعني أن الحل العسكري لم يعد قادرا على حسم الصراع، ويعني أيضا أن استمرار القتال بصورته الراهنة من شأنه أن يرتب نتيجة واحدة هي استمرار مسلسل القتل والدمار والخراب، ومن ثم لا يكون هناك بديل عن حل سياسي بين الأطراف المتحاربة.

ثمة حلان أحدهما أمثل والثاني سيئ, الأمثل أن يكثف العرب جهودهم لا لإسقاط نظام دمشق، وإنما للتفاهم وطمأنة الدول الراعية له. أما الحل السيئ فيتمثل في عقد اتفاق بين الطوائف السورية يستلهم فكرة مؤتمر الطائف بين الفرقاء اللبنانيين

هذه الخلاصة إذا سلمنا بها فإنها ستضعنا أمام حلين أحدهما أمثل والثاني سيئ. الأمثل أن يكثف العرب جهودهم لا لإسقاط نظام دمشق، وإنما للتفاهم وطمأنة الدول الراعية له (إيران في المقدمة منها إضافة إلى روسيا والصين)، وطمأنة الطائفة العلوية إلى أن مصالحها ستكون مؤمنة في ظل الوضع المستجد. وحين يتحقق ذلك ترعى الدول العربية حوارا بين المعتدلين من ممثلي النظام وقوى المعارضة والوطنيين المستقلين لوضع أسس النظام الجديد.

أما الحل السيئ الذي قد يكون أفضل من اللاحل، فيتمثل في عقد اتفاق بين الطوائف السورية يستلهم فكرة مؤتمر "الطائف" الذي رعته المملكة العربية السعودية عام ١٩٨٩ لإسدال الستار على آثار الحرب الأهلية التي شهدتها لبنان طوال ١٥ عاما. وقامت فكرة الاتفاق على قاعدة المحاصصة واقتسام السلطة بين القوى الرئيسية المتصارعة: الموارنة والسنة والشيعة. والمحاصصة في الحالة السورية تقتضي اقتسام السلطة بين السنة والعلويين والأكراد والدروز، كل حسب نسبته.

هناك شرطان للحلين: الأول أن يستبعد الرئيس بشار الأسد من المشهد ابتداء، كما حدث مع علي عبد الله صالح في اليمن، والثاني أن يتغير ميزان القوة بين النظام والمعارضة في الداخل، حتى لا يكون الحل على حساب قوى الثورة. وهذا التغيير في ميزان القوة لن يتم إلا إذا حققت المعارضة إنجازا عسكريا على الأرض يعزز موقفها ويجعلها تتعامل بندية مع النظام، وهو ما لا سبيل لتحقيقه إلا عبر تعزيز القدرة العسكرية للجيش الحر.

إن إنقاذ شعب سوريا ووحدة أرضها يشكلان الهدف الرئيسي الذي ينبغي أن يسعى إليه الحل السياسي المنشود. أما استمرار الصراع بصورته الراهنة فإن عواقبه الكارثية ستحل بالاثنين: الشعب والوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.