ذرائع اتفاقية القدس

ذرائع اتفاقية القدس . الكاتب: توجان فيصل

undefined

الاتفاقية التي وقعها محمود عباس والملك عبد الله الثاني بشأن القدس شكلت مفاجأة للعرب والمسلمين وليس لإسرائيل ولا لأميركا, فقد أتت برضى الأخيرتين التام. فنحن أمام اتفاقية علمنا أنها معدة منذ سنوات مُحّصت خلالها مرارا وآخرها بوجود أوباما في إسرائيل. لهذا فإن أول ما يلزم لإضاءة تلك الاتفاقية خطاب أوباما في زيارته الأخيرة لإسرائيل، والذي أكد فيه بقاء القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

وقبل أن نأتي لحقائق السياسة, من المهم أن نتوقف- بما أن الاتفاقية تتعلق بمصير موقع ديني- عند  توظيف نص آيتين كريمتين في "ترويسة" تسبق "مقدمة" الاتفاقية. الأولى قوله تعالى في سورة الإسراء "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". فمن أسرى بالرسول للقدس هو الله جل جلاله (وليس لعباس أن يسري بأحد), وبغرض تقديم المعجزة (لنريه من آياتنا) التي كانت تطلب من الرسول لإثبات نبوته, والمعجزة الخاصة بالنبي يستحيل زعم وراثة أحفاد النبي لموقعها أو مكانتها .

القول بأن أصول الملك عبد الله الثاني الهاشمية تعطيه حق الوصاية على الحرم القدسي, تدحضه حقيقة أن الرسول الكريم لم يوكل للقرشيين أمر المسجد الشريف الذي أقامه هو في المدينة المنورة

ولا يقاس حتى على قصة "سدنة الكعبة". فتلك واجبات حماية وخدمة يتولاها أهل الدولة أو المدينة التي توجد فيها أماكن دينية مقدسة أو أثرية. والكعبة المشرفة -حتى حين تحولت لمقر أصنام تعبد من دون الله- كانت خدمتها حكرا على قريش، كامتياز سيادي له مزايا سياسية واقتصادية لأهل مكة.

وبعد فتح مكة أبقى الرسول سقاية الحجاج للعباس بن عبد المطلب، وعمارة المسجد الحرام لبني عبد الدار. ويؤكد رفض اعتبار هذا التوكيل الوظيفي استحقاقا وميزة دينية تورث, أنه حين تفاخر بنو عبد المطلب وبنو عبد الدار بهذا, أنكر عليهما علي بن أبي طالب هذا التفاخر، فنزلت الآية الكريمة في سورة التوبة مؤيدة لموقف علي بقوله تعالى "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين". وهذا أمر إلهي يضع المجاهدين في سبيل الله في منزلة أعلى من أية سقاية وعمارة, وتحريرُ الأقصى والحرم القدسي من الاحتلال (وأي دفاع عن أرض أو عرض) جهاد لا ريبة فيه. 

وما فعله محمود عباس يضطرنا للوقوف عند شرعية توليه وتصرفه بأي من الشأن الفلسطيني, لنذكر بأنه لا يملك شرعية سياسية لحمل أي من الألقاب "السنية" التي أسبغها على نفسه. فحتى لو غضضنا النظر عن فرضه من قبل إسرائيل وحلفائها، وبما لا يقل عن اغتيال عرفات للمجيء به لرئاسة السلطة ومنظمة التحرير بطرق غير مشروعة، حسب الأنظمة والقوانين الناظمة لعمل هذه المؤسسات, فإن كل تلك الولايات انتهت، بما فيها مدة ولاية السلطة الفلسطينية حسب اتفاقية أوسلو ذاتها, وبالتالي لا شرعية لزعم رئاسة عباس لدولة فلسطين الموجودة فقط على ورقة قرار, مما يجعل ترسيمه "لخارطات" ما شرع بالتنازل عنه فقط (بدءا بحدود الحرم القدسي) تتويجا "غير سني" لتلك اللاشرعية!!

أما فيما يتعلق بالملك عبد الله الثاني، والقول بأن أصوله الهاشمية تعطيه حق الوصاية على الحرم القدسي, فتدحضه حقيقة أن الرسول الكريم لم يوكل للقرشيين أمر المسجد الشريف، الذي أقامه هو في المدينة المنورة على أرض اشتراها رافضا هبتها له, ولا هو أوكله لقبيلة أخرى. 

وإذا كان لبنى هاشم أن يطلبوا وصاية على مقدسات, فالأقرب للمنطق التاريخي والسياسي (لغياب المبرر الشرعي) لقب "خادم الحرمين الشريفين" الذي اتخذه الملوك السعوديون مؤخرا.

وإذا كان الحديث عن حق الهاشميين بالعودة لوطنهم الأصل (حق تضمنه الشرائع الدولية) سيفسر باعتباره فتنة بين دول عربية مسلمة, فإن الفتنة بين أهل القدس والهاشميين, وبين أهل الضفة المحتلة والأردنيين, وفتنة الأصول والمنابت داخل الأردن التي يجرى النفخ فيها بزعمها (رغم أن غالبية الشعب الأردني أصبح أردوسطيني).. تلك الفتنة هي ما أحيته تلك الاتفاقية غير المشروعة، لا ثنائيا ولا دوليا، لكونها لم يستشر أهل القدس ولا الشعبان الفلسطيني والأردني بشأنها. وإيقاظ فتنة كهذه يتناقض مع نص الآية الثانية التي جرى الزج بها في الديباجة السابقة لمقدمة الاتفاقية, وهي قوله تعالى" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ". 

ونأتي "لمقدمة" الاتفاقية التي جرى النص في مادتها الأولى على أنها جزء من تلك الاتفاقية. ولا يتسع حيز المقال لدحض كل ما تورده تلك المقدمة وكأنه حقائق دينية، أو تاريخية يُبنى عليها, ولهذا سنقفز عن بنود المقدمة التي  تتحدث عن أهمية القدس ومقدساتها للمسلمين ولكافة الأديان، ونتوقف عند البنود التي تبرر بها الاتفاقية وهب الوصاية, وهي باختصار وبداية: دور الشريف حسين بن علي في "حماية ورعاية الأماكن المقدسة في القدس وإعمارها" منذ العام 1924 و"استمرار هذا الدور" في ملوك الأردن من سلالته، وذلك "انطلاقا من البيعة التي بموجبها انعقدت الوصاية على الأماكن المقدسة للشريف الحسين بن علي، والتي تأكدت بمبايعته في 11 آذار/مارس 1924 من قبل أهل القدس وفلسطين", وتكمل المقدمة أن  تلك الوصاية "آلت للملك عبد الله الثاني بما فيها بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية ". 

بسبب عدم قبول بريطانيا قرارات مؤتمرات شعبية لا شرعية لها، لم يجر ضم الضفة الغربية للأردن إلا في أبريل/نيسان 1950بعد انتخابات نيابية جرت في الضفتين

ونتوقف عند مغالطات تاريخية: أولها أن بيعة 11 آذار/مارس للشريف حسين بن علي من بعض زعماء الحجاز، والأردن، وسوريا، وفلسطين، عند مجيئه للعقبة عام 1924 لم تتضمن بيعة باسم القدس، ولا وصاية له على مقدساتها بتاتا. ولكونه نصح من زعماء جدة بالتخلي عن عرش الحجاز لابنه علي "حفاظا على كرامته", وجرى نفيه في العام ذاته إلى قبرص (حيث علم بمبايعة أهل الحجاز لعبد العزيز آل سعود ملكا عليها) تكون بيعته قد انتهت بنفيه، وبقسمة ما تبقى من مملكته المأمولة بين ابنيه فيصل ملكا على العراق وعبد الله الأول أميرا على شرقي الأردن، التي لم تكن تضم أي جزء من فلسطين، بل تدار منفصلة من قبل بريطانيا- رغم كون الإمارة أيضا تحت ذات الانتداب- من قبل المندوب السامي البريطاني في "القدس" تحديدا.

وجرى مكررا رفض بريطانيا طلب عبد الله الأول ضم أي جزء من أراضي فلسطين لإمارته، أو لمملكته، باعتبار أن هذا ليس مطلب الفلسطينيين, وهو ما جعله يعقد مؤتمرات أريحا ونابلس، بالاتفاق مع الشيخ محمد علي الجعبري وثلة معروفة من أتباع الملك, وتم منع المعارضين من الحديث أو حتى دخول مكان مؤتمر أريحا بمائتي مسلح أحضرهم الجعبري, فيما قامت مظاهرات حاشدة وإضرابات في نابلس وجنين ضد مؤتمر نابلس.

ولم تمكن إقامة مؤتمر مماثل في القدس التي كانت عقدت الزعامة لمفتيها الشيخ أمين الحسيني(المناضل ميدانيا) بانتخابه عام 1921خلفا لشقيقه، ومنذ 1922رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين الذي أنشئ ليتولى الشؤون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية في فلسطين، ومن منجزاته استعادة الإشراف على الأوقاف الإسلامية بعد أن كانت في يد النائب العام البريطاني اليهودي الديانة. كما انتخب لرئاسة لجنة إعادة إعمار وترميم قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وتكررت رئاسته لمؤتمر العالم الإسلامي الذي بدأ منذ العام 1931 في القدس من أجل القضية الفلسطينية. 

وهذا بعض مما يثبت أنه لم تكن هنالك مبايعة للحسين بن علي في شأن القدس ابتداء, ناهيك عن أن البيعة لا تورّث لا شرعا ولا "ديمقراطيا". ولعدم قبول بريطانيا قرارات مؤتمرات شعبية لا شرعية لها لم يجر ضم الضفة الغربية للأردن إلا في 24 أبريل/نيسان 1950 بعد انتخابات نيابية جرت في الضفتين, وبقدر من القسر جعل الجامعة العربية تطلب فصل الأردن من عضويتها, حيث كانت الضفة الغربية ومنذ انتهاء الانتداب البريطاني في مايو/أيار 1948 تحت حكم حاكم عسكري أردني.

ولا مجال هنا لبحث مجريات العلاقة بين الملك عبد الله الأول والقدس ومفتيها وزعيمها المنتخب, ولكن نهايتها تمثلت باغتيال عبد الله الأول في المسجد الأقصى, وكان أحد المتهمين من عائلة الحسيني من بين من أعدموا. واللافت أنه لم تقم "فتنة" بين مكونات الشعب نتيجة هذا الاغتيال, فإلى جانب حكمة رجالات الدولة فإن تولي الملك طلال -الذي كان يعتبر شخصية وطنية- العرش، ووضع القوى الوطنية في عهده لدستور جديد متقدم للبلاد صدر عام 52, مكن من طي هادئ للحادث الدموي.

ونكمل النظر في بنود المقدمة التي بُررت بها اتفاقية "الوصاية" تلك, وباختصار هي تشير لكون منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في قفز على عدم شرعية ترؤس عباس للمنظمة، وأيضا عدم شرعية قرار كهذا يتخذه رئيس المنظمة منفردا، ولو كانت رئاسته شرعية.

ومثله الإشارة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته التي تشمل أرضها الحرم القدسي, مما ينقض حق عباس في وضع ذلك الجزء "المقدس "من أرض فلسطين تحت وصاية أحد, وخاصة وصي غير فلسطيني، وفي فترة تقوم فيها انتفاضة شعبية أردنية ضد السلطات المطلقة للملك.

والغريب أن ينطلق منح وصاية للملك الابن بالاستناد لخطاب صدر عن الملك الأب عام 1988 "بفك ارتباط الدولة الأردنية" بالضفة الغربية باستثناء الأماكن المقدسة في القدس, استثناء وظف لزعم أن الملك حسين "صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة". فيما القانون الدولي لا يجيز احتلال أراضي دولة أخرى بالقوة، والدستور الأردني يعتبر التنازل عن أرض المملكة "غير جائز" بالمطلق، ولو تم بإرادة الشعب, فكيف إن جاء بنص خطاب لحاكم لا أكثر.

والحالة الوحيدة التي يجوز فيها ذلك التنازل هو أن تقوم الدولة التي خسرت الأرض بتحريرها، ومن بعده يترك لسكانها حق تقرير مصيرهم. والأعجب أن تستمر المقدمة في هذا اللغو التشريعي لتقدم ضمن أسانيدها تصريحا للحكومة الأردنية عام 1994 بخصوص دورها في القدس!!

أما زعم أن الاتفاقية لا تزيد عن تكريس "وصاية "قائمة منذ عهد الملك  حسين, فيكفي لتفنيده نص اتفاقية وادي عربة القائل "تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس, وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن".

الزعم بأن الاتفاقية لا تزيد عن تكريس "وصاية " قائمة منذ عهد الملك حسين, يكفي لتفنيده نص اتفاقية وادي عربة القائل "تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس

وهو نص يفيد حقيقة الاعتراف الأردني "بوصاية" إسرائيلية على تلك الأماكن "الإسلامية المقدسة"، بجعلها هي من يوزع الأدوار فيها عند إقرار الوضع النهائي لتلك المقدسات لا أقل.. فيما "الدور" الذي زُعِمَ إبقاؤه أو الذي سيعطى من قبل إسرائيل في التسوية النهائية, هو "للأردن" كدولة, وهو ما حوله عباس هنا لوصاية "لشخص" الملك عبد الله الثاني!!

أما الحديث عن قدرة وخبرة للأردن في حماية المقدسات، أثبتها عبر ممارسته ذلك "الدور" فسأتناوله في مقالة أخرى قريبا، لأسباب تتعلق بحيز مقالتي هذه, ولكون ذلك الدور يستلزم مقاربة مختلفة، تتمثل في رواية بعض الأحداث الموثقة والتي كنت من شهودها. 

وأخيرا, وليس فقط لأن هنالك تساؤلات عن علاقة هذه الاتفاقية بقرار قطر إنشاء صندوق لدعم القدس وتبرعها له بربع مليار دولار, ومحاولة تبرير الاتفاقية بزعم أنها جاءت لغلق أي دور قطري يقوي جبهة حماس مقابل عباس.. بل لأن الاتفاقية كشفت حجم الخطر الذي يهدد القدس, فإن تشكيل صندوق لحماية القدس ومقدساتها وتمكين أهلها فيها بات ملحا.

وفي هذا السياق نتمنى بشدة على قطر أن لا توكل الإشراف على الصندوق لأية جهة حكومية، بل للجنة شعبية من أهل القدس ومن فلسطينيين لهم تاريخ في حمايتها، ومطلعين على حقائق واقعها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.