هل مشكلة فلسطين مشكلة الفرص الضائعة؟

هل مشكلة فلسطين مشكلة الفرص الضائعة؟

undefined

من يتفاوض؟ وعلى ماذا؟
هدف الصهيونية الحقيقي
سياسة الإبادة
يهودية الدولة وعنصريتها

في كثير من المناسبات ذات الصلة بالصراع العربي الصهيوني، ترتفع أصوات بعض الساسة العرب بأنّ على العرب أن ينتهزوا الفرصة التاريخية وأن يتصالحوا مع الإسرائيليين، ويردد بعض المثقفين وراءهم نفس القول وكأن الحركة الصهيونية كانت على استعداد لقبول حل سلمي، أو أن الكيان الإسرائيلي قدّم مشاريع تلغي الطبيعة العنصرية الإسرائيلية وتنتهي بسلام تاريخي للصراع، كما حدث، مثلاً، في جنوب أفريقيا.

من مخاطر هذا الأمر أن بعض الأطراف الفلسطينية والعربية يستخدمه كمبرر لتقديم تنازلات جديدة، على أساس أن العرب أخطؤوا حينما لم يقبلوا الجلوس مع اليهود قبل 1948، وعندما رفضوا قبول الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها بعد 1948. في هذه المقالة الكثير من الحقائق والوقائع التي تثبت عدم صحة هذه المقولة. 
 
من يتفاوض؟ وعلى ماذا؟
أولا: مَنْ مِنْ العرب كان عليه التفاوض قبل 1948 ومع مَنْ مِنْ الجماعات اليهودية في فلسطين؟ هل كان على عرب فلسطين عام 1882 (عشية بدء هجرة الجماعات اليهودية المنظمة إلى فلسطين)، البالغ عددهم أكثر من نصف مليون نسمة، الجلوس مع يهود فلسطين البالغ عددهم، وقتذاك، نحو ثمانية آلاف نسمة؟ أم كان ينبغي على عرب فلسطين عام 1896 (وقت ظهور كتاب هرتزل "دولة اليهود")، البالغ عددهم نحو 800 ألف نسمة والذين كانوا يملكون ما يربو عن 98% من مساحة فلسطين، التفاوض مع يهود فلسطين الذين كان عددهم لا يزيد عن 25 ألف نسمة ويملكون نحو 2% من مساحة فلسطين؟

في نهاية أوسلو كان على الفلسطينيين التنازل عن حقوقهم في شأن قضيتي اللاجئين والقدس مقابل "دولة" بمواصفات خاصة، أي بلا سيادة حقيقية على الأرض ولا مع الخارج

أمْ كان على عرب فلسطين عام 1917 (عام صدور وعد بلفور)، البالغ عددهم نحو 920 ألف نسمة، والذين كانوا يملكون نحو 96.5% من مساحة فلسطين، الجلوس مع اليهود الذين هاجروا لفلسطين وبلغ عددهم إلى 48 ألف نسمة وصاروا يسيطرون على نحو 3.5% فقط من المساحة؟ إذا كان هذا ممكنا آنذاك فيمكن تصور مدى عقلانية أن يتفاوض الشعب الإنجليزي –مثلاً- مع الأقلية الهندية على اقتسام مساحة بريطانيا اليوم؟

أمْ كان ينبغي على من تبقى من عرب فلسطين عام 1949 بعد انتهاء عمليات القتل والتشريد والتهجير خلال حرب 1948-1949 وقيام الكيان الإسرائيلي (الذين قُدر عددهم بنحو 156 ألف نسمة من أصل نحو 750 ألفا كانوا يمثلون سكان فلسطين عشية الحرب) الجلوس والتفاوض مع اليهود الذين صار عددهم بعد قيام الدولة نحو 650 ألف نسمة؟ ليس منطقياً أن يحدث هذا استناداً إلى معيار العدد فقط. ثم ماذا لو أضيف العرب من المحيط إلى الخليج إلى تلك الأرقام؟

ثانياً: ثم على ماذا كان يجب عليهما أن يتفاوضا؟ أعلى أن يترك عرب فلسطين –وهم أغلبية- كل أرضهم لجماعات يهودية هُجرت لفلسطين من كافة بقاع الأرض كما أراد جناح من الحركة الصهيونية؟ أمْ على أن يترك العرب ضفتي نهر الأردن (أي فلسطين والأردن) كما طالب جناح آخر (اليمين الصهيوني)؟

الحقيقة هي أنه لم يكن مطروحا لدى الحركة الصهيونية في ذلك الوقت اقتسام الأرض، فالحركة قامت على أساس إبادة الآخر أو تهجيره. وفي مرحلة أوسلو كان على منظمة التحرير الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن ميثاقها ونبذ ما سمي "الإرهاب" عند الإسرائيليين (أي المقاومة) والقبول بحكم ذاتي على أجزاء من الأرض التي احتلت عام 1967 مع فصلها بمئات من المستوطنات اليهودية وآلاف الأميال من الطرق الالتفافية ومئات من نقاط التفتيش، أي حكم ذاتي لكانتونات لا رابط بينها. وفي نهاية أوسلو (مباحثات كامب ديفد 2000) كان على الفلسطينيين التنازل عن حقوقهم في شأن قضيتي اللاجئين والقدس مقابل "دولة" بمواصفات خاصة، أي بلا سيادة حقيقية على الأرض ولا مع الخارج.

هدف الصهيونية الحقيقي
ثالثاً: هل كان في إمكان عرب ما قبل 1948 –أصحاب فلسطين الشرعيين– أن يتفاوضوا مع عصابات مسلحة شكلها المهاجرون اليهود من كل بقاع الأرض بهدف رئيسي –أجمعت عليه كل قيادات تلك العصابات علناً– وهو إبادة العرب في فلسطين وإرهاب من تبقى منهم لدفعهم نحو الهجرة تمهيداً لقيام دولة لليهود هناك؟ وهل كان في استطاعة عرب ما بعد 1948 أن يتفاوضوا مع قادة "دولة" وليدة استطاع جيشها (الذي تكون بالأساس من العصابات المسلحة اليهودية التي عملت في فلسطين) عامي 9148 و1949 أن ينفذ قرار التقسيم –قرار الجمعية العامة رقم 181- بالقوة المسلحة، بل أن يوسع من مساحة الأرض التي تحت سيطرته من نحو 6% من فلسطين إلى نحو 77%، وأن يدمر أكثر من 400 قرية فلسطينية من أصل نحو 518 قرية تم احتلالها؟

لقد أدرك قادة الحركة الصهيونية أنه لا يمكن تطبيق قرار التقسيم إلا بالقوة، إذ كيف يمكن لليهود وهم، وقتذاك، لا يملكون إلا 6% من مساحة فلسطين أن يقيموا دولة على مساحة 55.5% (ويشكل العرب أغلبية سكانها أيضا) كما جاء بقرار التقسيم.

إذا حدث هذا –ولكي لا يُضيّع العرب الفرصة المزعومة- كان على عرب فلسطين عام 1947 التنازل عن نحو 49.5% من مساحة فلسطين لكي يتم تنفيذ قرار التقسيم بلا حرب!! وهذه هي المساحة التي تمثل الفارق بين ما كان تحت سيطرة اليهود فعلاً وبين ما أعطاه قرار التقسيم لهم. كان هدف حرب 1948، في واقع الأمر، هو توسيع السيطرة اليهودية وليس بسبب رفض العرب وعدم قبولهم قرار التقسيم ومهاجمتهم الدولة الوليدة كما روجت آلة الدعاية الصهيونية.

وقد أثبتت الوقائع على الأرض ذلك، فقد احتلت العصابات الصهيونية (قبل 15/5/1948) جزءًا من الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للدولة العربية (نحو 43% من مساحة فلسطين، من ضمنها يافا وعكا) كما احتلت أجزاءً من الأراضي المخصصة للقدس المُدولة بقرار التقسيم.

وفي كتابات الصهاينة أنفسهم ما يُثبت أن القوات الصهيونية هي التي هاجمت واحتلت مدنا وقرى عربية خلال الفترة من قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947 وحتى إعلان الدولة في 15/5/1948 وبدء دخول الجيوش العربية فلسطين. وتكفي الإشارة، هنا، إلى ما قاله ديفد بن غوريون أمام تجمع صهيوني في 12/12/1948 إنه ما إن بدأ شهر أبريل/نيسان 1948 (أي قبل الحرب) حتى تحولت ما أسماها هو "حرب التحرير" من دفاع إلى هجوم.

الحركة الصهيونية أول من رفع "ثلاث لاءات"، هي "لا اعتراف، ولا تفاوض، ولا سلام مع الفلسطينيين"، ولهذا فتحت الدولة قنوات حوار مع كافة الأطراف ماعدا الفلسطينيين

سياسة الإبادة
رابعاً: إن أي دارس مدقق للحركة الصهيونية يعرف جيداً أن الصهيونية أدركت أن الاعتراف بالحقوق الوطنية لشعب فلسطين معناه القضاء على أساس جوهري من الأسس التي قامت عليها الصهيونية ذاتها، وهي أن "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ولهذا كانت الحركة الصهيونية أول من رفع "ثلاث لاءات" هي "لا اعتراف، ولا تفاوض، ولا سلام مع الفلسطينيين"، ولهذا فتحت الدولة قنوات حوار مع كافة الأطراف ماعدا الفلسطينيين.

وسارت إسرائيل على نفس النهج، فظلت حتى نهاية الثمانينيات ترفض حل المشكلة على أساس الاعتراف المتبادل، وترفض قراري مجلس الأمن 242 و338، وتطالب العرب بالاعتراف بها والتخلي عن الكفاح المسلح. ولعل عدم اعتراف رئيسة الوزراء غولدا مائير بوجود الشعب الفلسطيني من أساسه لأقوى دليل على تلك الإستراتيجية.

كما أن كل مشاريع التسوية التي قدمها ساسة إسرائيل وقادة جيشها –لإظهار دولتهم في صورة الدولة الداعية للسلام- لا تعترف بالطرف الفلسطيني ولا بحقه في تقرير مصيره، ولا تقضي بإزالة المستوطنات ولا بعودة اللاجئين، وتمنع طرح مسألة القدس للنقاش. ولم يكن هذا بالأمر الغريب على الحركة الصهيونية (التي هي حركة استعمارية في الأساس)، فقد نفذ الأوروبيون الإستراتيجية نفسها في مواجهتهم لأصحاب البلاد الأصليين فيما سمي "أميركا" (أي إستراتيجية عدم الاعتراف بالآخر وسياسة الإبادة)، وكذلك فعل البيض مع السود في جنوب أفريقيا.

خامساً: لكن لماذا اعترف الصهاينة بوجود شعب فلسطين وبمنظمة التحرير كممثل لهذا الشعب خلال مرحلة أوسلو؟ هناك عوامل كثيرة لهذا ليس أبرزها اختلاف صورة النسق الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أو تنازل الإسرائيليين أو نوايا رابين السلمية كما يعتقد البعض.

إن هدف إسرائيل، منذ نشأتها، كان التفرغ لبناء قوتها العسكرية بالاعتماد على قوى دولية –فرنسا وبريطانيا ثم أميركا– ثم تحييد الدول العربية باتفاقيات سلام منفردة حتى يأتي اليوم الذي تفرض فيه "السلام" الذي تريده، أي فرض إرادتها على من تبقى من الفلسطينيين وقد خسروا الأرض في الداخل والدعم العربي من الخارج. وهنا كانت أوسلوا لتصفية ما تبقى وإدخال الفلسطينيين إلى نفق مظلم من المفاوضات المطولة، مع دعم أميركي واضح للإسرائيليين ووسط عمليات بناء محمومة للمستوطنات والطرق الالتفافية.

يهودية الدولة وعنصريتها
سادساً: ليس بالإمكان التفاوض مع "دولة" شهدت منذ اليوم الأول لها أمرين لا يدرك أهميتهما الكثيرون من الساسة والمثقفين العرب، وهما أمران يتصلان، في الأساس، ببنية تلك الدولة وطبيعة سياساتها.

الأول: يهودية الدولة، فإعلان وثيقة "إعلان دولة إسرائيل" أكد أن الدولة ستكون "مفتوحة أمام هجرة يهود العالم" في تناقض واضح مع ما جاء بالإعلان نفسه من ضرورة المساواة التامة بين جميع مواطنيها. وقد أكد هذا قانونا العودة (1950) والجنسية (1951) –وهما قانونان ليس لهما مثيل في عالمنا المعاصر- إذ يسمحان لأي يهودي في العالم بالهجرة إلى "إسرائيل" والحصول على جنسيتها.

وقد نضجت الظروف عام 2004 حينما ضغط شارون على بوش لتبني شرط ضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية، وهذا ما فعله بوش فيما سميت رسالة الطمأنات، وظل هذا الشرط يتكرر في الخطابين الإسرائيلي والأميركي منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
 
الثاني: دولة بلا حدود جغرافية، وهذا أمر يتعارض مع ما يجمع عليه فقهاء القانون العام وعلماء السياسة من أن لتحديد إقليم الدولة أهمية كبرى، حيث ترتبط سيادة الدولة بإقليمها. ولعل هذا ما يفسر الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الإسرائيلية المتمثل في التوسع الخارجي والهجوم على كل القوى التي تتحدى الدولة بجيش سُمي جيش "الدفاع" الإسرائيلي، وبدعم من الولايات المتحدة التي تصور نفسها كمدافع أول عن قيم "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان".

اليوم يتحدث الصهاينة عن حل "عنصري وتطهيري" تحت مسميات مختلفة منها تبادل الأراضي. وهو حل يقوم على تحقيق أهداف ديمغرافية يسيطر الصهاينة عن طريقها على أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية بأقل عدد ممكن من العرب

واليوم يتحدث الصهاينة عن حل "عنصري وتطهيري" تحت مسميات مختلفة منها تبادل الأراضي. وهذا حل يأتي ليس على حساب اللاجئين فقط وإنما أيضاً على حساب عرب فلسطين 1948 وعرب الضفة والقطاع، وهو يقوم على تحقيق أهداف ديمغرافية يسيطر الصهاينة عن طريقها على أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية بأقل عدد ممكن من العرب، ويقيم الفلسطينيون "دولة" فلسطينية على أقل مساحة ممكنة من الأرض وأكبر عدد من الفلسطينيين، بجانب نزع سلاح الدولة وتجريدها من السيادة، وعدم التخلي عن المستوطنات والقدس، وفي ظل وجود جدار للفصل العنصري.

ليس هناك من فرص ضائعة مع الإسرائيليين، وإن كان هناك من فرص ضائعة فهي على الجانب العربي، مع الحكومات العربية بعضها بعضا وفي مواجهة الحق الفلسطيني، وذلك باستمرار تفرقها وعدم اتفاقها على حد أدنى من المصالح المشتركة. وهناك فرص ضائعة على الجانب الفلسطيني، تظهر في الطريقة التي تتعامل بها الفصائل الفلسطينية مع بعضها بعضا وفي الانقسامات بينها.

فهل تغير ثورات الربيع العربي هذا وتتمكن الحكومات المنتخبة ديمقراطيا من وضع كافة الإمكانات البشرية والمادية في خدمة حقوقنا العربية المشروعة وصولا إلى التحرير وتقرير المصير؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.